لينا بن مهني

لينا بن مهني

السؤال الذي ماكان ينبغي لأحد أن يكتبه أو أن يفكر في طرحه أصلا هو هذا السؤال الذي يتردّد بحدّة على شبكات التواصل الاجتماعي وعلى ألسنة الكثيرين ممن تفعل فيهم هذه الصفحات فعلها: هل أنت مع ترشيح لينا بن مهني لجائزة نوبل للسلام أم ضدّه ؟؟

يسألون هذا السؤال كأنما هذه الجائزة هي من البساطة بمكان حتى يُستــفْـتى فيها التونسيون فيخـيرون بين رفضها أو قبولها أو التحفظ بشأن ترشيحات القائمين عليها والتقدّم بكل تواضع لنصحهم بتغيير هذا الإسم أو ذاك !!!

ما كان لهذا السؤال أن يطرح وما كان لهذا الجدل أن يندلع، فالأصل أن يفرح التونسيون لمجرد اقتراح الجنسية التونسية في فرع من فروع الجائزة له أثر رمزي هام، وتتويج “بنية تونسية” بهذه الجائزة سيكون لو تحقق أفضل تكريم للثورة وأكثر إنصافا لشبابها من مجرد إقامة تمثال أو تسمية شارع، صحيح أيضا أن جائزة السلام هي الأكثر إثارة للجدل إذا ما قورنت ببقية الفروع لأنها الأكثر خضوعا للتقدير النسبي والتجاذبات السياسوية ولكن قد يفهم ذلك إذا ما جرى في سياق دولي أما أن يصير أمر جائزة عظيمة كهذه إلى جدل فايسبوكي تونسي فهذا ما لم يكن في الحسبان !

إن خطورة هذا السؤال تكمن ولا شكّ في ادّعاء البعض باطلا وتطاولا أن الثورة التونسية هي ثورة يتيمة بلاجذور، وهذا استسهال للأمور تعمد إليه بعض الأطراف مستغلة حجم التأثير القوي الذي أضحت تتمتع به شبكة التواصل الاجتماعي الالكترونية في الذهنية التونسية إذ تغمط المناضلين الحقيقيين الذين أسسوا لفكرة الثورة وحرّضوا على العصيان المدني حقهم المعنوي وتعتدي على شرفٍ تواضعوا في المطالبة به غافلين عن قصر الذاكرة التونسية وما يمكن أن يترتب عنه من عجب عجاب..

فآباء الثورة التونسية وأمهاتها كثر والنضال الحقيقي ضدّ نظام بن علي بدأ أشهرا قليلة بعد اعتلائه سدّة الحكم، وقد اجتمع رجال ونساء من مختلف الأفكار والتيارات والأحزاب في الداخل والخارج خلال عقدين من الزمن على مغالبة الطغيان جاهدين في كسر أطواق الخضوع وما أكثرها ومنها تواطؤ العامة بالصمت والفرجة والانتهازية ومنطق “أنا ومن بعدي الطوفان…”، لقد ذاق هؤلاء مرارة الهجرة والمنفى والقهر والاغتصاب والإذلال بينما كان السواد الأعظم من التونسيين يترنحون طربا وهم يسبحون بحمد قائدهم، وهؤلاء “المناوئون” هم الذين أقضوا مضجع السلطان ولم يتنازلوا عن طلب الحق في الحياة الكريمة ولم يهادنوا في الذود عن عزة النفس الغالية ثابتين على المبدأ بينما كان قطار “التغيير المبارك” يسير ببطء ممل على سكة واحدة تسمى “فرحة الحياة” أو “لنرفع التحديات…” ولكن في الاتجاه الخطأ، الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ ونبض الواقع…

ستخطئ كل مقاربة لتاريخ الثورة التونسية حتما إذا لم تتّخذ من تراكم النضالات وتنوعها مدخلا لإيفاء المناضلين الأصيلين حقهم وفرزهم من “مناضلي الفايسبوك” أو “فلاقة 15 جانفي” وما أكثرهم…، وهو عمل من الضروري مباشرته بكثير من الحياد العلمي الآن وبسرعة قبل أن تنطمس معالم الحقيقة وتندثر، فمن أخطر ما قيل في سياق التجاذب الكاذب قول أحدهم “إن الثورة قام بها أولاد الفقراء وسيقطف ثمارها أولاد ناناتي”، إذ أن أحداث 17 ديسمبر في سيدي بوزيد وما تلاها في القصرين وتالة وصولا إلى العاصمة لم تكن معزولة عن سياق النضال الحقوقي الشرس دفاعا عن الحريات وتعرية للجرائم التي ظلت ترتكب ضد الأحرار في أقبية نظام بن علي البوليسي وزنازينه على مدى أكثر من عشرين عاما..

ولينا بن مهني التي يستكثر البعض أن يرد اسمها اليوم في محفل نوبل مرشحةً لجائزة السلام تنتمي إلى فئة من الشباب لم يكن نضالها السياسي مجرد نقر على لوحة المفاتيح بإصبع واحدة، بل هي غصن من شجرة الراحل زهير اليحياوي شهيد الانترنت الأول الباسقة، تنتمي إلى جيل المدونين المؤسسين وقد كانوا الشوكة الأكثر إيلاما في حلق النظام السابق، ومن المؤسف حقا أن يتعامى كثيرون عن صوتها الجسور الرائع الذي كان يخترق بشجاعة نادرة حجاب الصمت والخوف والرضى بالأمر الواقع في سنوات النضال التي سبقت الثورة وعبّدت طريقها، ومن المؤلم أن يتواصل طمس الحقائق بأكثر من حيلة ولأكثر من سبب فرفض تكريم لينا الجامعية المثقفة المتحررة الشجاع لا يختلف في شيء عن رفض تكريم البوعزيزي الفقير المعدم واعتباره رمزا للثورة !

إنهم ببساطة شديدة ولأسباب غامضة يرفضون كلّ شيء !

وكل هذا الجدل حول لينا بن مهني يكشف مع الأسف حجم الكراهية والبغضاء التي تنتشر في نفوسنا نحن التونسيين والتي لم يزدها تعلقنا بالفايسبوك (وهي في الأصل شبكة للتواصل الاجتماعي) إلا ثباتا ورسوخا، فأمام تأصل معاداة التونسي لنجاح أخيه التونسي تسقط كل المفاهيم  السامية وتتدحرج كل القيم النبيلة إلى الهاوية، ولا نستغرب اليوم أن يتمنى كثيرون ذهاب الجائزة إلى مصر حتى لا تفوز بها لينا بن مهني وهذه هي الحقيقة المرعبة التي نتجرع مرارتها صباحا مساء والورم الخبيث الذي لم تتمكن الثورة من استئصاله بل أججت أوجاعه أكثر فأكثر…

لقد درجت العادة أن يُـغتال الفائزون العرب بجائزة نوبل للسلام بعد أن يتسلموها ويتمتعوا بها قليلا، أما في موضوع الحال فها قد خرجت السيوف من أغمادها لمجرّد تداول خبر لم يتأكد أحد من صحته بعدُ وتلك هي المعجزة التونسية الحقيقية.

(كتب هذا النص في أكتوبر 2011)