يوسف الشاهد

يوسف الشاهد

تواجه تونس قبل شهور قليلة من الانتخابات الرئاسية والتشريعية وضعا أكثر صعوبة من أي وقت مضى، فحادثة وفاة الرضع في مستشفى الولدان أخطر بكثير من حادثة انتحار البوعزيزي التي كانت الشرارة الأولى في ما سمّي «الربيع العربي»، والتي إذا نظرنا إليها من زاوية مختلفة لا يريد أحد أن ينظر منها سنرى مواجهة رمزية بين القانون والفوضى، فيما تكشف حادثة وفيات الرضع وغيرها من الحوادث التي نعيش على وقعها اليوم عن بلوغ الفوضى مداها في غياب شبه كلي للقانون ولكل القيم الإنسانية السامية. وهو ما يدلّ على أن الأزمة التي تتخبّط فيها البلاد ليست أزمة حكم واقتصاد فقط بل أزمة أخلاق ومجتمع أيضا.

بعد ثماني سنوات من الثورة لم تصبح تونس أفضل مما كانت عليه. ورغم أن الانتقال الديمقراطي الذي حدث يعتبر نموذجيا مقارنة بما حدث في بلدان أخرى فإنه لم يرتبط في الحياة اليومية بأيّ تحول إيجابي، بل يكاد ينحصر أثره نسبيا في حرية التعبير وحيوية المجتمع المدني، أما على صعيد الممارسة السياسية فإن الديمقراطية لم تخلص منظومة الحكم من عيوب نظام الاستبداد، وأشدّها مقتا عند التونسيين التداخل بين العائلي والسياسي والترهل تحت غطاء الشرعية التاريخية. في هذا المناخ الموبوء تكفّ السياسة عن أن تكون مشاركة مواطنية إيجابية في إدارة الشأن العام لتنحصر في هاجس السلطة والنفوذ، فتتعمق الهوة بين العامة والنخبة وتتفشى حالة اليأس من التغيير والاستسلام للأمر الواقع، ويؤدي ذلك إلى العزوف عن الصناديق الانتخابية، وهو أسوأ ما يمكن أن يصيب الحياة الديمقراطية.

كل الدلائل تشير إلى أن صورة السياسي فقدت اليوم كل ذلك البريق الذي أحاط بها في 2011 حيث بدا المعارضون من كل الأطياف والمستقلون والمتحولون متفقين جميعا ولو ظاهريا على أن الثورة منجز جماهيري لا فضل للأحزاب فيه غير إنهاك النظام السابق بالمقاومة من أجل الحريات الفردية وحقوق الانسان. وكان ينبغي إيجاد نقطة التقاء بين أهداف النخبة واستحقاقات الجماهير التي يلخصها أول شعار رفع في الانتفاضة: «التشغيل استحقاق يا عصابة السراق»، من ثمة قامت الوعود الانتخابية البراقة لدى كل الأحزاب الليبرالية على الربط بين الحرية والرفاه، لكنها عندما كونت الأغلبية الحاكمة لم تستطع تجسيد هذه الوعود، فلم ينتفع من ثمار الديمقراطية والحرية الا النزر القليل من السياسيين والإعلاميين ورجال الأعمال، بينما ازداد الوضع الاجتماعي تأزما، ولم يعد ممكنا مقارنته حتى بما كان عليه أواخر عهد بن علي ذاته.

لم تنبن الوعود الانتخابية على كذبة كما يتبادر إلى أذهان البعض، فالرفاه الاجتماعي في الغرب متصل بالحرية والديمقراطية، أما الاستدلال بالأنظمة الاستبدادية التي تحقق درجات نمو كبيرة للقول بأن «المستبدّ العادل» يظل أملا منشودا في ظل خيبات الثورة وفوضاها، فمجرد تعبير ظرفي عن اليأس وانعدام الثقة لا في نخبة الحكم فقط بل في المبادئ الأساسية التي قام عليها الانتقال الديمقراطي برُمّته، فأمام صعوبة العيش والتراجع الكبير في نوع الحياة تفقد الحرية قيمتها والكرامة أيضا. لقد قالت الوعود الانتخابية جزءا من الحقيقة ولم تقل الحقيقة كلها، فحتى تكون الحرية إطارا للرفاه الاجتماعي من الضروري أن يتوفر عنصران أساسيان في غيابهما يمكن تفسير كل أزمات المجتمع التونسي اليوم: احترام حقوق الإنسان ومقاومة الفساد.

في خضم الفزع الكبير الذي حفّ بحادثة وفيات الرضع، تكلم رئيس الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد عن تجاوزات عديدة تتصل بالمجال الصحي تم الكشف عنها. قد يكون ذلك جيدا في ظل الإمكانات المتاحة للهيئة ومدى جدية الدولة بكل أجهزتها في مقاومة الفساد، لكن استمرار الوضع على ما هو عليه يؤكد أن مقاومة الفساد ليست شأنا قضائيا وأمنيا إنما هي مسألة قيم اجتماعية أساسا، ولا يمكن أن تتحقق إلاّ ببناء منظومة قيم جديدة تعلي مكانة العمل والشرف وتعزز الشعور بالانتماء لدى الأفراد. يمكن ذلك بتظافر كل الأطراف المتدخلة اليوم في بناء الإنسان وتشكيل وعيه واهتماماته على غرار الأسرة والمدرسة والإعلام والمجتمع المدني. بما يجعل من مقاومة الفساد شأنا اجتماعيا وتربويا لا يتوقف عند حدود هيئة ما أو إطار قانوني ضيق بل يتجاوزها ليكون مسؤولية كل فرد.

لكن إحساس كل فرد بمسؤوليته في مقاومة الفساد وبناء منظومة القيم وتطوير المجتمع لا يتحقق في رأينا إلا إذا كانت حقوق هذا الفرد الأساسية محترمة ومصونة وتوفر لديه الشعور بأنه إنسان ذو قيمة في بلاده، لا نتحدث هنا عن حقوق الإنسان كما دأبت على تقديمها النخب والتي تقتصر على مقاومة التعذيب في السجون والمعتقلات والدفاع عن الأقليات والحريات الفردية والعامة ضد تغول السلطة والمكلفين بإنفاذ القوانين. بل نعني حقوقا أبسط وأشمل وتهمّ كل الناس، الحق في التعليم والعمل والغذاء والدواء والسفر والترفيه، الحق في الطموح إلى حياة أفضل. إنه من المهم تطوير منظومة الدفاع عن حقوق الإنسان وتحويل اهتماماتها من المراكز والسجون وغرف التحقيق إلى المستشفيات حيث لا يجد النزلاء الذين يطول بقاؤهم أين يستحمون، وإلى المدارس حيث تنعدم وسائل التدفئة والتبريد وتعتبر ترفا ليس ممكنا الخوض فيه وإلى الحدائق العامة حيث ينعدم الأمن وإلى الفضاءات العمومية ووسائل النقل حيث يهيمن العنف ويسيطر منطق الفتوة على كل القوانين. من هذا المنظور تبدو حقوق الإنسان ومعاملة المواطنين معاملة الآدميين تحديا يوميا، وهو ما أخفقت فيه بلادنا ولم تتمكن النخب التي تولت الحكم بعد الثورة من تجاوز هذا الإخفاق.

ها هنا تكمن مسؤولية الدولة أيا كانت طبيعة النظام السياسي، فإذا نظرنا اليوم إلى الأزمة بعمق رأينا أن الخيارات الاقتصادية الليبرالية المتعاقبة أدّت بنا إلى الوضع النموذجي المتوقع للمجتمع في ظلّ العولمة، أن يكون مجتمعا يتمتع فيه الخمس الثري المتحكم في وسائل الإنتاج والتشغيل بالرفاه والبذخ فيما يبدو الثمانون في المائة من المواطنين المتبقين فائضين عن الحاجة. كل مظاهر البؤس والتردي التي تمثل جوهر أزمة المعيش اليومي في تونس تنحصر أساسا في القطاع العمومي: الصحة والنقل والتعليم والإعلام والبنية الأساسية والبيئة. وكل الأحداث التي نعيش هي وجوه متعددة لأزمة واحدة، تدل على ضعف الدولة وعجزها عن الإيفاء بالتزاماتها الدنيا إزاء الفئات المرتبطة بها، فيما يستطيع قطاع آخر أقلي في المجتمع أن يعيش في مأمن من كل هذا البؤس لأنه ينتمي إلى الخمس الثري. ولا يمكن طبعا إقناع شخص يشعر بأنه عبء على الدولة بمسؤوليته العميقة في إصلاح المجتمع، وهكذا تضفي الأغلبية الحاكمة اليوم بفشلها في تحقيق العدالة الاجتماعية وجاهة على كل الأطروحات المعارضة وإن كانت -وتلك هي المفارقة- لا تستهوي الناخبين كثيرا، وتبدو إطارا نخبويا إيديولوجيا لممارسة السياسة أكثر من كونها مطلبا جماهيريا شعبيا.

تستعد تونس إذن للانتخابات الرئاسية والتشريعية وهي تتخبط داخل دائرة مفرغة، فالخروج من الأزمة متعددة الوجوه يتطلب تكاتف الجميع فيما يتسم الوضع الاجتماعي الراهن بالانقسام والتفكك وتغليب الانتماء إلى الفكرة والإيديولوجيا على الانتماء إلى الوطن. أما المسؤولية المجتمعية المحمولة على الأفراد في مقاومة الفساد ورسم معالم الطريق إلى غد أفضل فتبدو شأنا ثانويا أمام النضال اليومي من أجل البقاء. يمكنك بكل بساطة أن ترى هذه الدائرة المفرغة في حادثة وفيات الرضع حيث الكل يتهم الكل، المواطنون يتهمون الإطار الطبي بممارسة الفساد، وهذا الإطار يتهم جهاز السلطة بالتقصير في توفير الموارد والتهاون في مقاومة الفساد، أما رئيس الحكومة فيتهم العاملين في القطاع، وهم مواطنون قبل كل شيء وهكذا تتواصل دوامة الاتهامات والاتهامات المضادة في انتظار كارثة أخرى ومأساة جديدة.