عامر بوعزة

عامر بوعزة

التّاسعة صباحا، أربعون درجة في الظلّ، يوم آخر من أيام جويلية القائظة يتثاءب ويتمطى ثم ينتصب واقفا ليصبّ شواظه النحاسي على رؤوس الناس ويغمر الشوارع بحرارة خانقة. اصطحبت ابني إلى مركز الأمن لتجديد جواز سفره، فعقلنا السيارة في ظلّ شجرة، وترجّلنا. كان المركز غرفة بيضاء ضيقة بالكاد تتّسع لبعض الأنفار، لكنها اليوم منذ الثامنة صباحا مكتظة بالناس من مختلف الأعمار، فتوكلنا على الله آملين في أن يكون إبكارُنا سببا في خلاصنا سريعا بأخفّ الأضرار.

استقبلنا في مدخل المركز شخص بملابس مدنية وذقن غير حليق، كان يبدو في هيئته تلك أشبه بنادل مقهى، مثلما كان الوافدون وهم يتزاحمون أمامه أشبه بحرفاء سيتناولون على عجل «كابوسان» ويمضون، ألقيت في وجهه تحية الصباح وأعلمته أنني جئت لتجديد جواز سفر، فتجاهل التحية وتركها معلقة في الفراغ قائلا بقدر كبير من اللاّمبالاة: هؤلاء أيضا مثلك فانتظر معهم. ثم أردف: لا أدري إن كانت الموظّفة ستأتي اليوم أم لا!

بعد أن تقتعد مكانا مع القاعدين داخل هذا المشهد يمكنك أن تستوعب ما يحدث وتفكّكه في ذهنك جيدا، وستسعفك في ذلك كلمات طائشة يلقيها بين الفينة والأخرى عون الاستقبال الذي كان يحاول جاهدا أن يبدو ودودا وخدوما ومسلّيا. لقد كان بصدد تقديم عرض من نوع «الوان مان شو»، فرجة الرجل الوحيد، فهو مكلّف بإرشاد المواطنين وتلبية طلبات الراغبين في استخراج شهادة الإقامة بعد الاطّلاع على ما في حوزتهم من وثائق تؤكد انتسابهم بالسكنى إلى المنطقة مرجع النظر والاطمئنان إلى أنهم لم ينسوا الطابع الجبائي، وهو الذي يسلّم بطاقات التعريف الجاهزة لأصحابها مقابل وصل صغير يستظهرون به، وأثناء كل هذا يُسلّي المنتظرين ويحدّثهم عن بعض أسرار المركز العائلية، ثم يغيب قليلا ليجلب من المقهى المجاور قارورة ماء معدني مثلجة لمن يطلبها من الموظفين، كلّ هذا وسيجارته وابتسامته لا تفارقان وجهه الذي يشبه في الواقع كل وجه تونسي مكدود. ومن الواجب إنصاف هذا الرجل فرغم تعدّد وظائفه وتنوعها يبدو مطّلعا جيدا على القوانين متشبّثا بها، حتى إنه رفض أمامنا استخراج شهادة إقامة لمواطن لم يستظهر الا بتصريح على الشرف من صاحب البيت الذي يسكنه على سبيل الإيجار، فقال له وهو يرفع صوته حتى يسمع كل من في القاعة ويشهدهم على صرامته في الحقّ:

–        التّصريحْ عْلَى الشّرفْ ما يعوضش عقد الكِراء، ومَا عَنْدُو حَتَّى قِيمة في الوَثائق الرّسْمِيّة.

 وأضاف كمن يريد أن يطلعنا على سرّ خطير:

–       اشبيه مُولَى الدّار ما يعملش عقد؟ أكيد ثمة  حاجة!

 وحتى يؤكد للرجل صحة موقفه استجاب لإلحاحه وذهب لاستشارة رئيس المركز في الموضوع لكنه عاد والخيبة تعلو محياه قائلا:

–       هو ممنوعْ في القَانُونْ، لكِنْ العَرْف الكْبير ما حبّش يْرجّعِكْ!

المركز مقسّم جغرافيا إلى ثلاث مناطق، المنطقة الأولى على اليسار مخصّصة لجماعة بطاقة التعريف وهم جلوس ينتظرون أمام باب مغلق، هؤلاء كلهم تلاميذ لا شكّ أنهم يأتون إلى هنا لأول مرة في حياتهم، ولا يمكن أن تميّز إن كانت ملامحُهم تدلّ على الامتعاض أم على اللاّمبالاة، ففي مثل هذاالعمر تتشابه المشاعر كثيرا وتبدو بلا معنى، أمّا المنطقة الثانية الواقعة على اليمين  فيقف أمامها طابورُ الذي جاءوا من أجل جواز السفر ينتظرون دورهم لدخول مكتب رئيس المركز حيث يجلس موظف الجوازات أيضا، هؤلاء من أعمار مختلفة ولا يبدو عليهم الانزعاج، فهم متأكدون من أن الشخص المطلوب موجود وبصدد القيام بعمله وأنّ الفرج آت لا محالة لن يؤخره الاّ الوقت الطويل الذي يستغرقه الموظّف مع كل مواطن على حدة والاختراقات التي تحدث بين الفينة والأخرى كلما اقتحم المكتب شخص يبدو نافذا أو على صلة بأحد الموظفين بشكل يعفيه من الانتظار إسوة بالبقية، وقد حدث هذا ثلاث مرّات في ساعة واحدة!

المنطقة الثالثة لا أحد ينتظر أمام بابها المغلق وهي مخصّصة للقضايا العدلية، وغرفة الحجز التي توجد قبالتها خالية، الحمد لله.

عندما تنتبه إلى أنك جالس مع جماعة بطاقة التعريف بينما يفترض أن تكون واقفا مع جماعة الجوازات تنهض للوقوف بجانب الحائط وتدرك أن الموظف الوحيد الذي يشغل بحضوره الركحي المميز صالة الانتظار أوقعك في الخطأ، سامحه الله، وحدّثك عن موظفة بطاقات التعريف بينما أنت تسأله عن موظف الجوازات، لا يهمّ، المهم أن صاحبنا منشغل كثيرا بأمر هذه الموظفة العجيبة، فهو يُذكّر الحاضرين بين الفينة والأخرى بأنه لا يضمن لهم أن انتظارهم سيؤدي إلى نتيجة مثمرة، لأنه لا يعرف إن كانت ستأتي أم لا، ويؤكد أن لا أحد يستطيع أن يجيب عن هذا السّؤال، فهاتفها الجوّال مغلق، كلّ ما يعرفونه أنها ستبدأ الاحتفال بزواجها غدا، وأنّ الإدارة لم تعيّن بعد من سيعوضها عند خروجها في عطلة زواج. وعندما تجرّأ أحد الحاضرين على سؤاله: ولماذا تتصرّف هذه الموظفة هكذا؟ رفع كتفيه وحاجبيه معا في حركة بهلوانية لا يتقنها الاّ رجل أمن محنّك مثله، وتعمّد رفع صوته قائلا: الثّورة!

مركز شرطةستنتبه وقد بدأ العرق يتصبّب من جبينك إلى أنّ جدران المركز مزينة بثلاث لوحات، اللوحة الأولى تمرّ بها سريعا فعليها مجموعة الوثائق المطلوبة عند استخراج بطاقة التعريف الوطنية وجواز السفر وانت تعتقد أنك تعرفها ما دمت قد جئت لتقديم الطلب، وعلى الثانية كُتبت الحقوقُ التي يتمتع بها المواطن عند وجوده في هذا المكان، ومنها أن يصطحب معه محاميه عند الضرورة إلى آخر الأسطوانة الحقوقية التي تشعر في سياق الحال أنها لا تهمك كثيرا بقدر ما يهمك أن تجد كرسيا يجلس عليه المنتظر كما يحدث في كل مراكز الخدمات في العالم. اللوحة الثالثة عليها واجبات الأعوان المُلْزَمين بإنفاذ القوانين، وهي لا تهمّك أيضا بشكل مباشر إذ تبدو أشبه بالقَسَم المِهْني، لكنك تقرأها تزجية للوقت ومضغا للفراغ وإغناء للثقافة العامة وهروبا من هذا البياض الذي يلفّ المكان ويخنق ببلاهته كلّ ما يحيط بك، ولا تستطيع أن تنكر أن هذه اللّوحة مُسلّية جدا.

في حدود الساعة العاشرة وخمس وأربعين دقيقة بدأ عدد من القاعدين ينسلّون هاربين من هذا الجحيم بعد أن ملّوا من الانتظار الذي لا يفضي إلى أيّ بارقة أمل، عندها حدثت مفاجأة لفتت كلّ الأنظار، اخترقت صفوفَ المنتظرين شابة نحيلة فارعة القوام، تضع على رأسها شالا أسود يغطي شعرها، وترتدي ملابس سوداء لا تتناسب مطلقا مع حرارة الجوّ الخانقة، كان وجهها شاحبا ممتقعا وبلا أي لمسة ماكياج، فبدا خاليا من كل ملامح الأنوثة إلى الحدّ الذي يجعلها قادرة على التنكر بسهولة في شكل رجل لو أرادت، ورغم ذلك كانت تتقدّم بخطى واثقة وصلف عجيب لا يخفى، فلم تحيّ أحدا وهي في طريقها إلى الباب المغلق، لكنّ الجميع تنفّسوا الصّعداء لإدراكهم أنها الموظفة المكلفة باستخراج بطاقات التعريف أخيرا وصلت وحلّ ركبها الميمون، وها قد ألقى عون الاستقبال كل ما كان بين يديه وهرول وراءها مرحبا:

-أهلا بالسلطانة، هاك جيت؟! موش غدوة العرس.

فأجابته بما يفيد أن عطلتها تبدأ غدا، وأردفت وهي تسلّمه بعض النقود:

–       ناقصَة سُكّر كيفِ العَادة.

فخرج صاحبنا في اتجاه المقهى بينما انشغلت الموظفة في انتظاره بترتيب مكتبها إذ كان من الواضح ومن البديهي أنها لن تتمكن من الشروع في إنجاز المعاملات الاّ بعد ترشّف قليل من القهوة، ولمّا بدا على الحاضرين المنتظرين أمام باب صامت منذ أكثر من ساعتين قليل من التململ صاحت:

–       أيّا نقْصُوا عْلِيَّ الحِسّْ.

وأمسكت رأسها كمن يعاني من صداع عنيد حتى عاد العون مهرولا يحمل في يده اليمنى القهوة وفي اليسرى قارورة ماء مثلّجة أسالت لعاب كلّ الواقفين.

كان الطابور الذي أتمسّك بتلابيبه يتقدّم ببطء حلزوني مقيت، وكعادة كل الآباء المهووسين دوما بتربية أبنائهم وتثقيفهم حتى في أحلك الظروف وأشدّها وطأة على الأعصاب، اغتنمت الفرصة وتنحنحت لأحدّث ابني الذي أخرجته صيحة الموظفة الدميمة من لامبالاته، قائلا:

–       انظر، أمامك الآن شكل من أشكال الظلم، فنحن هنا مضطهدون معنويا، وما يحدث فيه استهتار كبير بقيم المواطنة وعبث بكرامة الناس، لكن لا أحد منا يستطيع أن يفتح فمه بكلمة واحدة احتجاجا، لأنّ كل ردة فعل يمكن أن تُعتبر بسهولة «هضم جانب موظف عمومي حال مباشرته لوظيفته!»

ولمّا لاحظت خلسة أن جارتي الحسناء في الطابور تصغي بانتباه إلى الحديث الذي كنت أخاطب به ابني تماديت قائلا:

–       في الدول المتقدمة يفصلون بين الخدمات الإدارية والشؤون الأمنية والعدلية، فموظفو الشؤون المدنية والجوازات إداريون أما الشرطة فمجال عملها الأمن العام وإنفاذ القوانين والبحث الجنائي.

        انتبه عون الاستقبال لحديثي لا سيّما بعد أن رفعت صوتي لتسمعني الجارة جيدا، فلم أجد بدا من إضافة فقرة أخرى عما يحدث في الدول المتقدمة قلت:

–       مراكز الخدمات لا بدّ أن تتوفر على مكيفات ليعمل الموظفون في ظروف مريحة، وكراسي يجلس عليها العملاء بعد اقتطاع تذكرة عليها رقم لتحديد الأولوية، هذه من حقوق الانسان الأساسية أيضا، فلا معنى للحرية إذا لم تكن توأما للكرامة.

في تلك الأثناء دخلت مركز الأمن عجوز أجنبية وتوجهت بالكلام إلى عون الاستقبال وظلّت ترطن باللغة الإيطالية برهة من الزمن، فلم يفهمها، وأدار وجهه بين الحاضرين باحثا عمّن يمكنه أن يترجم ما قالته، فتقدّم أحدهم، وقال له: إنها تسأل عن موظف القسم العدلي، لقد تعرضت إلى براكاج وذهبت إلى مركز وسط المدينة للإبلاغ فطلبوا منها التوجّه إلى هذا المركز. فقال له:

 –  قل لها ما ثمة حدّ هنا!

ثم أضاف للتثبت أكثر:

–       اش سرقولها؟

فقال له المترجم المتطوع:

–       تَلِيفُونْ بُورْتَابِلْ.

فقهقه عون الاستقبال والتفت إلى العجوز الإيطالية ورفع إبهامه في وجهها قائلا:

–       مْرِيقْلَةْ!

ثم التفت إلى المترجم وقال وهو يشير إليه بأن الحديث يخصُّه ولا فائدة في نقله إليها:

–       تِحْمِدْ رَبّي مَا قَتلُوهاشْ، جايَة عْلَى تَلِيفُونْ بُورْتَابِلْ!

كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة تماما عندما حدثت مفاجأة أخرى، فبينما كان الجميع يشيّعون بأنظارهم العجوز الإيطالية التي حملت تحت إبطها خفي حنين وغادرت المركز تجرّ خيبتها وتبرطم بكلام غير مفهوم انبثقت أمامنا فجأة شخصية جديدة كأنّ الأرض انشقّت وأخرجتها، فلا يدري أحد من أين طلعت ولا كيف جاءت إلى هذا الركح، اخترقت الصفوف متجهّمة واتجهت نحو مكتب رئيس المركز، كانت في العقد الرابع من العمر تقريبا قصيرة القامة تضع على رأسها حجابا يغلّف وجهها الصارم ونظراتها الفارغة. تذمرت جارتي قائلة:

–       هذا مش معقول، علاش ما ياقفوش في الصف كيفنا! هذه رابع مرة واحنا نستناو م الصباح!

 لا شك أن لهذه المرأة أذنين تشبهان البارابول أو أن حيطان الغرفة البيضاء مزروعة ميكروفونات دقيقة لا ترى فقد التقطت هذه المرأة ما تفوّهت به جارتي لنفسها وحدجتها بنظرة قاسية وهي خارجة من المكتب في اتجاه عون الاستقبال وأجابتها مكشرة من غير أن تلتفت إليها:

–       مشْ صْحِيحْ مَا دْخَلْ حَدّ!

ثم طلبت من العون أن يأتيها هي أيضا بقهوتها وقارورة ماء مثلجة، وعادت إلينا فسدّت الباب بمنكبيها العريضين قائلة:

–       أيّا بالْوَاحِدْ بِالْوَاحِدْ.

والتفتت إليّ بوصفي كنت أول شخص ينتظر دوره للدّخول وقد قرب أكثر مما ينبغي من عتبة الفرج والخلاص وقالت:

–       اشْ عَنْدِكْ؟

قلتُ وأنا أظهر لها اضبارة الأوراق التي أمسكها بيميني:

–       تَجْدِيدْ جوازْ.

ونظرتُ آنذاك مليا في وجهها، فقفز إلى ذهني الروائي كمال الزغباني بطم طميمه ورمقني من وراء نظارتيه بنظرة متضامنة، إذ لا يمكن أن أجد وصفا يليق بهذه الشخصية التي تنتمي إلى عالم الإناث على سبيل المجاز لا غير  أبلغ ممّا وصف به الموظفات اللاتي اعترضن سبيله في رحلته المضنية بين مراكز الأمن لاستخراج بطاقة تعريف فهن من فصيلتها وهي من فصيلتهن، إنها بُومَةٌ حقيقية. أصبح واضحا الآن أنها هي أيضا من موظفات المركز، وإن كان عون الاستقبال لم يذكرها بكلمة، وخصّص عرضه المسرحي كاملا لزميلتها «السّلطانة» التي ستتزوّج غدا وتعاني من صداع فظيع يجعلها لا تقوى على تحمّل لغط التلاميذ الذين جاءوا قبلها بساعتين لقضاء شؤونهم، حدّثنا عنها طويلا، ولم يذكر شيئا عن هذه البومة التي سدّت الباب بمنكبيها العريضين وأخذت من يدي الوثائق للتثبت فيها، سحبت الوثيقة الأولى وكانت شهادة حضور مدرسية فنظرت إلى تاريخها وتطلّعت إليّ قائلة:

–       هذي ما تِمْشِيشْ، قْدِيمَةْ ياسِرْ، منْ شْهَرْ مايْ، اشْكونْ قالْ كمِّل القرايَة في جوان؟

بدأت القهوة تفور في رأسي، فقلت لها:

–       اشنوة معناها؟ اشنوة المطلوب بالضّبط!

قالت وهي تطوي الورقة وتسحب الثانية:

–       مشْ مُشكل توْ نْحُطّوهَا وإنْ شَاء اللهْ يِقْبْلُوهَا.

ثم استدركت وقالت بلغة أشدّ وثوقا بعد أن اكتشفت أنها وجدت حجّة أقوى هذه المرّة:

–       ولْدِكْ عمرو أقلْ مِنْ ثْمَنْطَاشٍ عامْ يِلْزْمُو تَرخِيصْ أبَوِيّ مْصَحَّحْ فِي البَلَدِيَّه.

قلت وأنا أريها جواز السفر الذي انتهت صلوحيته معتقدا أنها لم تفهم طلبي جيدا:

–       تَجْدِيدْ جَوَازْ سَفَرْ لا اسْتِخْرَاجْ لأوّلْ مَرَّة.

فأخذته قائلة:

–       انسَاه هَذَا، مَا عَنْدُو حتَّى قِيمَة، مَا ثَمَّة حَتّى فَرْقْ بين التَّجديد والاِسْتِخراج لأوّل مرّة.

ورفعت إصبعها لتشير إلى اللوحة الأولى على الجدار، تلك التي لم أقرأها عندما كنت أمضغ الفراغ وألتهم البياض وقالت:

–       كلّ شَيْ مْقيّدْ غَادِي اشبيك ما ثبّتـــشْ!

آنذاك فارت القهوة وغمر رأسي طنين النحل فانتزعت منها كل الأوراق بحركة لا أنكر أنها عنيفة بعض الشيء وقلت لها بصوت غاضب:

–       واضَحْ مَفهوم، المهم عندِكْ تَوّة مَا نِتْعَدّاشْ، هَاتْ الأوْرَاقْ.

وخرجت أغمغم وورائي ابني الذي أخرجه غضبي من لامبالاته، فأخذ يحاول بكل السّبل تهدئتي مخافة أن يكون ما ألمّ بي من تبعات ارتفاع ضغط الدم، وأنا أفسر له أن ما يحدث في تلك الغرفة البيضاء يتجاوز كل حدود العقل والمنطق، فتلك البومة تستطيع المجيء إلى مقرّ عملها متى أرادت، ولا أحد فيما يبدو له القدرةُ على مُساءلتها، ومهمّتها الأولى هي البحث في كلّ ملفّ عن ثغرة حتى تتمكّن في الدقائق القليلة التي غاب فيها عون الاستقبال في المقهى المجاور ليجلب لها قهوتها من تفريق الحضبة وتفريغ الغرفة كأنّ الطابور لم يكن، إنها تستطيع فعلا أن توزع في دقائق قليلة عشرات الأشخاص المنتظرين منذ الصباح بالعثور في كل اضبارة على ورقة ناقصة أو طابع جبائي مسهوّ عنه أو تعريف بالإمضاء في البلدية لم يحدث الخ. وقلت على سبيل المقارنة:

–       في الدول المتقدمة، يتولى عون الاستقبال مراجعة الملف مع صاحب الطلب ليطمئن إلى أن كل أوراقه صحيحة قبل أن يسمح له باقتطاع التذكرة والجلوس على كراسي الانتظار حتى لا يضيع وقته سبهللا ويصل إلى الشباك ثم يعود خائبا.

ونكاية في هذه البومة، قرّرت ألاّ أؤجل عمل اليوم إلى الغد وأنْ أحاول سدّ كلّ ثغرات الملف لأعود إليها وأنال منها وأقضي وطري اليوم بالذات، لقد ركبتُ رأسي بعد أن فارت داخله القهوة وأطفأت النيران المتأججة، وفي ساعة واحدة نسخت بطاقة الأعداد المدرسية لتكون شاهدا على براءتي أنا وابني من التحيّل على وزارتي التربية والدّاخلية، فهذه البطاقة تثبت أنه واصل الدّراسة في شهر جوان وارتقى إلى الصفّ الموالي، ثم توقّفت عند محلّ عمومي للانترنت كان صاحبه ينشّ الذّباب على حواسيب قديمة تعود إلى عهد بن علي، فجلست ربع ساعة لأكتب بصعوبة ترخيصا أسمح فيه لابني باستخراج جواز سفر، ثم أخذت هذه الوثيقة إلى دائرة بلدية كنت أعرف مسبقا أنها لا ازدحام فيها لبعدها عن وسط المدينة، وأنجزت التعريف بالإمضاء، ثم قفلت راجعا إلى المركز، وجدته هادئا هذه المرة ولا أحد ينتظر أمام الأبواب، فاستقبلني العون المكلف بتجديد جوازات السفر وأخذ من يدي الوثائق ليراجعها ولما تأكّد من سلامتها قال: اجلس.

كانوا ثلاثة أنفار في الغرفة، رئيس المركز أمام مكتبه يراجع بعض الملفات دون أن يرفع رأسه غارقا في صمته البارد الذي ظلّ متمترسا به منذ ساعات الصباح الأولى، وكانت البومة جالسة إلى طاولة أخرى تُقلّب بعض الدّفاتر، بينما شرع موظف الجوازات في إنجاز معاملتي، فأخرج أوراقا إدارية ووضع بينها أوراقا كربونية من النوع الذي يستخدم في الكتابة على الآلة الراقنة في عصور ما قبل الكمبيوتر، وقال لي وهو يكتب الاسم:

–       أنت فلان المذيع..

فقاطعته، وأنا أشعر لأول مرة بشيء من الراحة النفسية:

–       سابقا.

لكن البومة رفعت رأسها في هذه اللحظة لتنغص علي هذا الشعور الطارئ بالراحة صائحة:

–       انت هو؟! علاش تنْطُرْ عْليَّ فِي الأوْراق؟

فقلت:

–       لأنني انتظرت واقفا ساعتين قبل قدومك للتثبت من ملفي.

قالت:

–       ما يهِمّكش فيّ وقْتاَش نْجي! أوراقك ناقصة والترخيص لازم، تُنطُرْ عْليَّ حَاسِبْنِي مَرْتِكْ؟

أعترف أنني لم أستطع مجاراتها في هذا الجدل، فقد أفحمتني لا بقوة حجتها وإنما بغرابة الصورة التي استعملتها، كان يكفي أن أتخيل للحظة واحدة أن هذه البومة فعلا «مَرْتِي» (زوجتي) حتى ينتابني شعور تمتزج فيه الحاجة إلى الضحك بالرغبة في الغثيان. في تلك اللحظة خرج رئيس المركز لأول مرة عن صمته وحرك يديه بطريقة قائد الأوركسترا ليقول: كُفّوا، انتهى. ويغمز الموظف الجالس أمامه بأن ينجز المعاملة بأسرع ما يمكن حتى يسرح من أمامه هذا المواطن «الخرا»، لكن هذا الموظف وفي محاولة أخيرة لتبديد سوء التفاهم قال لي بصوت يشبه الهمس:

–       إنها لم تخطئ، فالترخيص ضروري فعلا، من قال إن الولي يوافق على تجديد جواز سفر ابنه، أن يكون له جواز سابق لا يعني التّجديد آليا أو الترخيص المطلق، خصوصا وأنت تعرف الآن كل مشاكل سفر الشباب إلى الخارج سواء للحرقان أو للانضمام إلى جماعات إرهابية.

فقلت بدوري هامسا:

–       قد يكون ما تقول وجيها فعلا، لكن ألست أنا من سيُمْضي الآن على هذه الوثائق التي تعمرها؟ ألا يعتبر إمضائي هذا ترخيصا؟ ألا يعتبر وجودي أمامك الآن دليلا على موافقتي؟ ألا يمكن أن تشهد أنت على صحة إمضائي إذا كتبت أمامك ترخيصا؟ لماذا تعقيد الأمور واشتراط التعريف بالإمضاء في البلدية؟

رفع كتفيه وحاجبيه معا بطريقة من الواضح أنها خاصة برجال الأمن وقال:

–       صحيح، لكن ذلك هو القانون، تلك هي التعليمات.

بعد التّوقيع على الاستمارة واستيفاء كل شروط الطلب غادرنا المركز على أمل الرجوع إليه بعد خمسة عشر يوما للحصول على الجواز، قلت لابني وأنا أفكّ السيارة من عقالها مفسّرا حالة الزهو التي أصبحت عليها:

–       أربع ساعات فقط لتجديد جواز السفر، إنها رغم كل شيء معجزة حقيقية بكل المقاييس.

فقال وقد بدا عليه مرة أخرى الانتباه والفضول:

–       عندما سئل عون الاستقبال عن سر استهتار الموظفة بمواعيد شغلها وعبثها بكرامة المواطنين قال: إنها الثورة، فما علاقة هذا بذاك؟