f6f31a0bdec92325dd64111bab3cc30c-735x400قدّمت مؤخرا قناة فرنسا 24 الناطقة بالفرنسية تقريرا عن امرأة تونسية تدعى سارة التومي، تنشط ضمن جمعية بيئية هدفها مقاومة التصحّر وإعادة الاخضرار إلى تونس، يبدأ التقرير من حفل في الأردن حيث تدعى سارّة بوصفها ابنة تونس الخضراء لتسلمّ جائزة دولية، ومن ثمة ترافقها الكاميرا إلى قرية “بئر صالح” حيث نشأت وعاشت طفولتها لتُصوّر مختلف الأنشطة التي تقوم بها مع النساء هناك لنشر الوعي بأهمية التشجير. ومن هناك إلى مدينة العلوم بالعاصمة لتصويرها أثناء المشاركة في فعالية بيئية محلية، فيشير نص التقرير إلى أن الوزيرين اللّذين دُعِيَا إلى هذه التظاهرة لم يحضرا، وينتهي التقرير بصورة خارجية تظهر فيها سارة وهي تزرع شجرة على أنغام أغنية يعرفها كلّ التونسيين منذ أكثر من ثلاثين عاما، أغنية صلاح مصباح عن تونس الخضراء التي لم تعد كذلك.

ومنذ فترة قصيرة كانت قناة الجزيرة الناطقة بالإنجليزية قد قدّمت تقريرا مماثلا عن محسن ليهيذب، الرجل العصامي الذي ارتبط اسمه في الجنوب التونسي بالبحر وبالدفاع عن البيئة البحرية، وصوّرت متحفه الصغير الذي جمع فيه أصنافا مختلفة من ملفوظات البحر، فالرجل يخرج كل صباح مع طلوع الشمس ليجمع ما يجد على الشاطئ من بقايا، والتقرير يبدأ بتصويره داخل غرفة صغيرة يحرّك الأحذية المعلّقة فيها والتي تحكي قصة مهاجرين حلموا بالجنة وانتهوا في قاع البحر مُخلّفين أحذيتهم لتستقرّ في متحف صغير لرجل مهووس بالبحر، ثم يرافقه اليوم كله ليقدّم بلغة تلفزيونية راقية قصّة إنسانية في منتهى الصّدق والعفويّة والجمال.

ولا شكّ أن قنوات أخرى اسبانية وألمانية ويابانية ومكسيكية سوف تجيء إلى تونس لتحاور كتابا وفنانين ونشطاء يجاهدون بمفردهم في صمت لإيقاد الشموع بدل الاكتفاء بلعن الظلام، فقصصهم تضفي على المبادرة الخاصّة وجاهة تستحقّها وتعطي دروسا نموذجية في العطاء، لكن هذه القصص لا تلتقطها القنوات التلفزيونية المحلية، وحتى إذا فعلت فإن تقديمها يخلو في كثير من الأحيان من الجمالية والرؤية المتفردة إذ تعرض غالبا في قالب إخباري لا يهتدي إلى جوهرها الانساني فلا تستقرّ في الذاكرة طويلا.  في مقابل ذلك تبدو قصص المجتمع التي تعرض تحت مظلة تلفزيون الواقع الموضوع الأكثر إغراء لدى قنوات القطاع الخاص التي تستحوذ على النصيب الأوفر من نسب الاستماع والمشاهدة، وبدل نقل قصص النجاح والإبداع يسهر التونسيون طيلة أيام الأسبوع مع حكايات المخدرات والهجرة السرية والعنف والجريمة وتنتقل هذه المضامين بسهولة بذريعة “تصوير الواقع” السخيفة من برامج الاعترافات إلى أغاني الراب وفيديوهاتها المصورة والمسلسلات الرمضانية لتشكل مجتمعة عقدا اجتماعيا جديدا يقوم على مفهوم القوة من خلال رسائل مباشرة وغير مشفّرة تخاطب الغرائز قبل العقول وتستحوذ على قلوب اليافعين والمراهقين وتصنع نماذجهم العليا.
قد يقتضي التفاؤل اعتبار هذا الانفلات القيمي التلفزيوني أمرا طبيعيا بعد ثورة أتاحت للإعلام حرية غير مسبوقة، لكن ذلك لا يبرّر الاستسلام لهذا الهبوط كأنه حتمية تاريخية، فعواقبه وخيمة على الاستقرار الاجتماعي، لا سيما ومظاهر العنف والجريمة في تصاعد مطّرد، ثم إن الأمر يبدو خاصا بالتجربة التونسية دون سواها إذ تتوفّر في دول عربية أخرى توازنات مشهدية يقف فيها الجيد إلى جانب الرديء في عملية تعديل ذاتي شبه تلقائية.

وهكذا تحت شعار الحرية المطلقة التي جاءت بها الثورة وفي غياب قوة تعديل فعالة يفترض أن يمثلها الإعلام العمومي، يشهد التونسيون اليوم بكل بساطة عملية تدمير ممنهجة لقيم المجتمع الوسطي المحافظ تقودها وسائل الإعلام الخاصة بما يسرّع ظهور كلّ أشكال التطرّف، سواء أكان السلفي الممعن في الانغلاق أم الليبرالي الممعن في التحرّر، وهو ما يدفع إلى التساؤل حول المسؤولية الاجتماعية وما إذا كان على السلطة التشريعية أن تصوغ قوانين لإلزام القطاع الخاص بها.