أحمد المستيري

أحمد المستيري

أكّــد الجدل بخصوص رئيس الحكومة المقبل في تونس أن الهوة بين النخبة والعامة تزداد اتساعا من يوم إلى آخر. ويتجلى اختلاف الحسابات السياسية عن الانتظارات الشعبية في شخصية رئيس الحكومة وأولويات حكومته. فبينما تتطلع العامة إلى ضخ دماء جديدة في جهاز الحكم تتجه النخبة إلى رجال سياسة متقاعدين. وبينما يأمل المواطن في أن يكون الوضع الاقتصادي السيء عنوان المرحلة القادمة تتعالى في الجدل الدائر  تخوفات سياسية  حول مستقبل الديمقراطية
لا يمكن تفسير العودة القهرية إلى الثمانينيين الاّ في ضوء معطيين اثنين، أولهما نجاح السبسي في إدارة مرحلة ما قبل الانتخابات وهو ما يشجع على انتداب أحد زملائه للقيام بما قام به. وحالة التصحر التي يعاني منها المشهد بتفادي كل من كانت له صلة بنظام بن علي. وهذان الأمران يناقشان، فنجاح السبسي في ما كُــــلِّف به لا يعود فقط إلى إشعاعه  كما قد يذهب إلى ذلك الكثيرون لكن ظروف المرحلة كانت الضامن الأوفر لنجاحه. لقد كانت مرحلة واضحة ذات أهداف محددة أدارها فريق حكومي يتضمن أسماء جديدة غير معروفة.أما تفادي كل من له صلة بالعهد السابق فيبدو الآن أمرا اعتباطيا لعدة اعتبارات منها المماطلة في مجابهة الإرث الثقيل بأدوات العدالة الانتقالية، ومنها تسلل كثير من إطارات العهد السابق إلى مواقع القرار تحت معطف الحزب الحاكم الجديد. لقد أفضى ذلك إلى التعامل مع هذا الملف ومع الرصيد البشري الذي يزخر به برؤية انتقائية، فالحزب الحاكم هو الذي يحتكر الآن مهمة إصدار صكوك التوبة والغفران لمن يرى أنه قابل للرسكلة، ورغم أنه فرض على شركائه في الحكم منحَ مسؤولين سابقين في نظام بن علي تأشيرة العودة إلى الحياة السياسية النشيطة لم يتخل في أي مناسبة عن التلويح بتشدّده في مقاومة عودة رموز النظام القديم.
ولئن بدا الهاجس الاقتصادي حاضرا في تصريحات السياسيين فإنه ليس بحجم الوضع الحقيقي، فانخفاض الأرقام السيادية وعزوف المؤسسات المالية عن الإقراض والتراجع الحاد في الادخار والاستثمار مؤشرات موضوعية تنذر بخطر حقيقي، ومن غير المجدي لمجابهة  هذا الوضع الاكتفاء باقتراح شخصية تتمتع بسمعة دولية مرموقة وخبرة في إدارة الشأن الاقتصادي كما ورد في المعايير الموضوعة لاختيار رئيس الحكومة.
إن الحقيقة المؤلمة التي تتغاضى عنها النخب هي أن الديمقراطية لا تُــسمن ولا تُـــغْــني من جوع، وأن تمتع المواطن بحقوقه السياسية كاملة وهو في أفقر حالاته وأكثرها بؤسا أمر غير مبهج البتة، وتخفيف الضغوط عن الشارع يقتضي ترميم الاقتصاد بعقلانية ومواجهة الانخرام الأمني بصرامة ولن يقلَّ ذلك  أهمية عن الإيفاء بالتعهدات السياسية.
و ما يبرّر خيبة أمل الكثيرين في العودة إلى المتقاعدين غلبةُ الطابع المجازي على البراغماتي في معايير الانتداب، إذ قيل فيما قيل: إن أحمد المستيري هو من آباء الديمقراطية في تونس والسعي به إلى القصبة فيه انتقام من التاريخ الذي حرمه من الانتصار على “أعداء الديمقراطية” وهو بهذه الصفة ضامن للانتخابات إذ يتهم الحزب الحاكم خصومه بأنهم لا ينوون العودة إلى الصناديق.
وعلاوة على أن طبيعة العصر وما فيه من تحولات سريعة تفرض ضرورة أن يكون المرشحون من أبناء المرحلة، فإن الحزب الحاكم يُــكرّر مع الأسف خطأ سابقا ارتكبه عندما عيّن علي العريض وزيرا للداخلية ومؤهله الوحيد لهذه الخطة أنه الضحية الأبرز من بين أبناء النهضة لما مارسته تلك الوزارة من عسف في حقهم.
الحاجة إلى تزامن البدائل الاقتصادية السريعة والتقدم السياسي الواثق والانتصارات العسكرية المطمئنة مما يضاعف جسامة المهام المطروحة على أي شخصية وطنية مستقلة سوف يتم تكليفها بإدارة الشأن الحكومي وهي أعباء قد لا تجعل من الثمانينيين أيا كانت خبرتهم ومكانتهم الرجال المناسبين للمرحلة