Archive for يوليو, 2015

اشكي للعروي

نهار الأحد ما يهمك في حد

نهار الأحد ما يهمك في حد

في معرض ردّهم على الممتعضين من الرداءة التلفزيونية السّائدة يردّد البعض عبارة عبد العزيز العروي الشهيرة “بيننا فلسة” مطمئنين إلى جواز استخدامها في غير العصر الذي قيلت فيه، فأين نحن من زمن العروي؟

تلك العبارة قيلت عندما كان الراديو قطعة ثمينة لا تمتلكها كلّ البيوت، وكان الاستماع إلى أسماره أو حفلاته حدثا عائليا يجمع ولا يفرق، كان الراديو يؤدي وظيفته الإخبارية المكرسةَ للدعاية السياسية ويسلّي الناس ويعلّمهم بخرافات الوعظ والإرشاد والتمثيليات الاجتماعية، ويصل الأمر به حدّ تذكيرهم بقواعد التعايش حين ينبّههم عند الساعة العاشرة ليلا إلى ضرورة احترام الجار، أما المتحدثون صُنّاعُ الفرجة الصوتية فيه فقد كانوا من علية القوم ومن كبار المبدعين، إنه زمن الدوعاجي وكرباكة وعثمان الكعاك، زمن الهادي الجويني وصليحة والجموسي والجيل الذهبي المؤسس، وإذا أصبت حظا من أرشيف الإذاعة التونسية الذي عبثت به أيادي العابثين ستجد حتما بقايا من أصوات المسعدي وطه حسين وميخائيل نعيمة والفاضل بن عاشور والبشير خريف وآخرين. إنه زمن لا يتكرّر، فقد كان كلُّ شيء بسيطا وعاديا وممكنا، وكان ثمة وقت للخيال والجمال وأناقة الروح، كانت الأحلام شاسعة رغم الفقر والجهل والتسلّط، والعروي عندما قال عبارته الشهيرة: “بيننا فِلْسة” كان يدرك أنْ لا حرية للأفراد خارج نطاق السلطة، سلطة من يمتلكون القدرة على استعمال “الفِلسة”، فهي لم تكن من حق الجميع، الزعيم في قصره والمعلم في مدرسته والأب في بيته، هؤلاء كانوا قادرين على استعمال “الفِلسة” لتقرير مصير الآخرين وفق ما يرونه هم المصلحةَ الفُضلى.

أي قيمة لهذه العبارة في زمن اليوتيوب؟ البضاعة تُعرض مرة واحدة على الشاشة ثم تصبح متاحة للمشاهدة في أي وقت، تُعرض كاملةً ثم تُجزأ لاحقا إلى لقطات بحسب ما يتوفّر فيها من إثارة، يفقد السياق الدرامي نسقه الخطي في خضم “فوضى خلاقة”، هنا تستطيع أن تشاهد كل شيء متى تشاء بمفردك، فقد سقطت أسطورة السهرة العائلية بكل ما يحفّ بها من صور رومنسية، صورة الأب الذي يطالع الجريدة والأم التي ترفو الجوارب والجدة التي تروي الحكايات بينما تتمطى القطة أمام المدفأة(!) انتهى زمن العائلة وبدأ زمن الأفراد، ولم يعد غريبا أن تنتبه امرأة إلى أن الشاب الذي عُرضتْ صورتُه في الأخبار بعد أن أعدم العشرات في عملية انتحارية هو فلذة كبدها الذي لم تنتبه إليه وهو ينمو خارج حضيرة العائلة متمردا على فِلْسَة العروي. تغيّر كل شيء من حولنا وانهار المعبد على رؤوسنا، وهم يردّدون عبارة لو ظلّ قائلها حيّا بيننا لنقّحها وغيّرها أو تبرّأ منها جملة وتفصيلا.

المسلسلات التي تثير امتعاض الناس لا تدمّر الأخلاق والقيم، بل تدمّر فكرة الإبداع ذاتها وتبتذل الخلق الفني، الآن يمكن لمن هبّ ودبّ أن يتقمّص ثوب المخرج والسيناريست وصاحب الأفكار ليصنع ما يشاء باسم الحرية، هؤلاء الفوضويون الذين يأكلون من كل الموائد ينتحلون صفات لا تناسب مقاساتهم الطبيعية، وهو أمر كان ينبغي أن يعاقب عليه القانون مثلما يفعل عندما يلقي القبض على من ينتحل صفة الغير، الأمرُ أخطر من أن يكون تزمّتا زائدا من المتفرجين إزاء فائض من الحرية لا يناسب أمخاخهم الصغيرة المتيبسة، وأخطر من أن ننهيه هكذا بمجرد الضغط على فِلسة العروي، هذه العبارة إذا ترجمتها إلى لغة العصر وجدتها: “اشرب والاّ طيّر قرنك”، وبنفس هذا الخطاب الفوقي الذي يجعل به بعض صناع الفرجة أنفسهم فوق النقد يحق لآخرين كذلك أن يُلجموا كل الأفواه المحتجة على اعتلاء كافون صهوة قرطاج فالأمر سيّان وفي النهاية لم يفرض أحدٌ على أحدٍ الحضورَ كما لم يفرض عليك أحدٌ المشاهدة!!

التلفزيون ليس مجرد أداة ترفيه وتسلية بل يساهم في التنشئة الاجتماعية، وقد رأى الناس خطره في الاتجاه المعاكس عندما تخصصت قنوات الظلام في غسيل الأدمغة وتكفينها بالأفكار الرجعية، وامتعاض الناس من الدعارة المفروضة علينا بعنوان الحرية هو مجرد وجهة نظر، فأي معنى للنقاش تحت طائلة عبارة أكل عليها الدهر وشرب، ولماذا تريدون أن يكون بيننا وبينكم مجرّد فِلْسة؟ والحال أن ما بيننا هو أجمل وأنقى وأسمى.


كلاب بافــــلوف

عامر بوعزةفيما يشبه المتلازمة الحتمية ينقسم الرأي العام في تونس عقب كل عملية إرهابية غادرة إلى موقفين، موقف مع وجهة النظر الرسمية، وموقفٍ آخرَ يتبنى روايات مناقضةً تذهب حدّ تخوين السلطة ذاتها واتهامها بافتعال الإرهاب. ورغم تبني التنظيمات الإرهابية عملياتها الدموية واحتفال خلاياها المتناومة هنا وهناك بما يحدث من خراب، يصرّ البعض على ترويج سيناريوهات تبدأ بمراكمة الأسئلة حول أسباب الإخفاق الأمني لتصل إلى قصص متكاملة تتوفر على قدر كبير من الخيال الهوليودي.

عملية سوسة تبدو من خلال المعطيات الأولى عملا إرهابيا شديد التعقيد نسجت خيوطه تخطيطا وتدريبا في سوريا وليبيا لضرب عصفورين بحجر واحد، إنهاك الدولة التونسية والانتقام من بريطانيا بسبب مشاركتها في التحالف الدولي ضدّ داعش. لكن البعض يدفع في اتجاه الإيحاء بأن العملية من صنع الدولة العميقة، فهي التي تُحرك أبا عياض وأبا قتادة وأبا مصعب بأزرارها السحرية كلما ضيّق عليها “الثوار” الخناق! هذه الروايات تنتزع دائما الحدث التونسي من سياقه الإقليمي والدولي لتنظر إليه في علاقة بالمتغيرات السياسية المحلية فقط، وهي تتجاهل بشكل كلي ثوابت تاريخية معروفة حول علاقة الإسلام السياسي بالعنف والقدرات التنظيمية والقتالية للجماعات الإرهابية وما أصبحت تتوفر عليه من غطاء مالي بسبب سيطرتها على آبار النفط في سوريا والعراق وليبيا. يتجاهل هؤلاء أن هذه الفرق وان اختلفت أسماؤها وتناحرت فيما بينها لا تختلف عن بعضها البعض إذ تقوم بنفس الفعل لتحقيق نفس الهدف، وكل واحدة منها ترى نفسها الفرقة الوحيدة الناجية التي ستستأثر بالجنان والخلد والنعيم، وأن التمدّد في الأرض جزء من عقيدة “الدولة الإسلامية” التي ينشدون وأن الإنهاك بالفوضى جزء من استراتيجية التمكين.

هؤلاء يرون دائما أن الفظاعات المرتكبة تحت غطاء هذه الحرب الدينية هي من صنع المخابرات الغربية للسيطرة على النفط العربي وإعادة تقسيم الشرق الأوسط، وهي في بعض الروايات مجرد عمليات استخباراتية تبرر ردود الأفعال التي ستليها فالسيسي ذبح الأقباط في ليبيا ليتمكن من قصفها، ولا وجود لعشرية سوداء في الجزائر، إنما هي حرب قامت بها المخابرات العسكرية للسيطرة على الحكم، كما أن الموساد هي التي هاجمت نيويورك يوم الحادي عشر من سبتمبر، ولا يختلف عن ذلك ما جرى في سوسة فقد تم تفريغ الشوارع المؤدية إلى الفندق من الأمنيين حتى يتمكن شخص مسطول لم يظهر عليه أي تديّن من قبل من الوصول إلى هدف حدّده له بعض كبار رجال الأعمال الفاسدين مثلا ليقوم بفعلته ويمكن الحكومة من اتخاذ قرارات تضع حدّا للاحتجاجات الاجتماعية وهلمّ جرّا.

صحيح أن هؤلاء يجدون في بعض التصريحات الحمقاء حبالا يعتصمون بها على غرار ربط الرئيس في خطابه المرتجل بين حادثة سوسة وحملة “وينو البترول”، لكن الخيال الشعبي وهو يذهب في السريالية إلى ما هو أبعد يمثل دائما الحاضنة الثقافية المثلى للإرهاب، وفي الواقع كما في فضاءات التواصل الاجتماعي حراك شعبي حثيث لتعميم البؤس الفكري وتغطيس العقل في وحل الخرافة.


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress