91_3624014686204198912_nلو وضعنا صُورَ الجنازة المهيبة التي ودّع بها التونسيون رئيس الجمهورية جنبا إلى جنب مع الصور التي رافقت ظهوره من جديد في الساحة السياسية قبل ثمانية أعوام لوقفنا على واحدة من أكبر المفارقات، فالسبسي حين كلفه الرئيس المؤقت فؤاد المبزع برئاسة الحكومة الانتقالية لم يكن معروفا بالقدر الكافي لدى قطاع عريض من «شباب الثورة»، والمعلومات القليلة التي تناقلوها عنه في وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن لصالحه البتة لأنه يتوفّر على كل المواصفات التي تصدّى لها الراديكاليون جميعا من اليمين إلى اليسار.

من هذه المواصفات سنّه التي تجاوزت الثمانين عاما آنذاك، وانتماؤه إلى ما يُسمّى لديهم «الدولة العميقة»، وانحداره من طبقة تُعتبر دائما في «المخيال الثوري» أحد أهم أسباب اختلال الميزان الاجتماعي. واشتغلت ماكينة الدعاية على هذه المحاور الثلاثة لتخرج منها قصصا جعلته وهو يعود إلى الحكم بعد نحو عشرين عاما من الانقطاع في مواجهة تجربة جديدة مختلفة كليا عن تجاربه السابقة، كل شيء فيها منفلت، بدءا من طموحات الفاعلين المحيطين به وتعطشهم الحارق إلى السلطة، وصولا إلى الشعب الذي كان يعتقد أن تغيير النظام يكفي لحل كل مشاكله وتلبية كل تطلعاته، مرورا بوسائل الإعلام التي أصبحت تعتبر نقد الحكومة المعيار الأول للاستقلالية. وكان عليه أن يواجه جبالا صلبة من الأحكام المسبقة تذهب حدّ المطالبة بمحاسبته على مواقفه في مختلف المعارك القديمة، ولا تهدأ البتة عن تكفيره لمبادئه المتحررة في مسألة العلاقة بين الدين والدولة. كانت تجربة مضنية ومشوّقة لرجل في سنّه المتقدّمة وخبرته المُعتّــــقة، لا تشبه في شيء زمن بورقيبة حيث كان كل شيء يسير بدقة وانضباط، في كنف الالتزام التام بمكانة الزعيم الرمزية ودوره التاريخي. فكان السبسي في 2011 أشبه بمروّض الثيران الهائجة، أو مُربّي التماسيح المتوحشة في سرك مفتوح على كل الاحتمالات.

وخلال ثماني سنوات جرت مياه غزيرة تحت الجسور، وتغيرت أشياء كثيرة، وضع السبسي خبرته كلها في مواجهة الانفلات، وواجه مصاعب الديمقراطية دون أن يلتفّ عليها أو يتنكر لها، وظلّ ذلك الرئيس الذي تفوّق على منافسه في الانتخابات ببضعة آلاف من الناخبين فقط، ذلك الرجل الذي يخطئ ويصيب، وانتهى -بلا رجعة- عهد الزعيم الملهم الذي لا يأتيه الباطل ولا ينطق عن الهوى، كان ذلك مفيدا جدا للانتقال الديمقراطي الذي يعيش التونسيون بشغف اختباراته المتعاقبة منذ خمس سنوات ويكتشفون في ضوء الواقع تشعباته المختلفة. وبذلك ظلّ السبسي مثيرا للجدل حتى اللحظة الأخيرة، فقبل سويعات قليلة من نقله إلى المستشفى العسكري على جناح الضرورة القاهرة تنادت بعض أطياف المعارضة إلى إيفاد من يتفقده في قصره لظنهم أنه مسلوب الإرادة، ممنوع من التوقيع على تعديلات القانون الانتخابي التي صادق عليها مجلس نواب الشعب، ورحل حاملا معه الإجابة التي ظلّ الجميع ينتظرون بلهفة يوم عيد الجمهورية على أمل أن يقولها في العلن: لماذا لم يوقّع على هذا القانون؟ هل كان حقا مغلوبا على أمره أم لحكمة وسداد رأي؟

رغم كل المتغيّرات التي حصلت خلال هذه السنوات وخفوت الكثير من الأصوات الراديكالية التي تشرّع للإقصاء تحت لافتة «الطهارة الثورية» انصياعا لنزعة براغماتية أطلق عليها الرئيس الراحل اسم «التوافق العريض»، لم يتحقّق أبدا إجماع حول السبسي، كالذي تحقّق يوم جنازته، عندما تخلّص الإنسان فيه من عبء الواقع وإكراهاته، وارتقى في الذاكرة الجمعية إلى مصافّ الرمز، فصار جزءا من الذاكرة والتاريخ، وكان تشييعه إلى مثواه استفتاء شعبيا حارّا ومؤثرا لم تعلن فيه الجموع عن ولائها بل عن محبتها. وعند هذا الحدّ يكون الباجي قايد السبسي قد أنجز المهمة التي يبدو أنه كان منذورا لها: المصالحة التاريخية بين جيل الاستقلال الذي ينتمي إليه والأحفاد المتعطشين للحرّية والديمقراطية.