يوسف الشاهد والسبسي

يوسف الشاهد والسبسي

في تفسيرهم أسبابَ رفض الباجي قايد السبسي التحوير الوزاري الذي أعلن عنه رئيس الحكومة تحدث مستشارو الرئيس عن آليّات التعامل بين رأسي السلطة التنفيذية، كالتنسيق والتشاور والطرق الواجب اعتمادها حسب رأيهم في إعداد أي تحوير حكومي، بينما تركزت اعتراضات قياديي نداء تونس في مختلف المنابر الإعلامية في مسألتين: عدم تمثيل هذه الحكومة لنتائج انتخابات 2014، واعتبارهم النهضة الحاكم الفعلي الذي يقف وراء الشاهد، وبلغ الأمر ببعضهم حدّ تسمية هذا التحوير انقلابا.

مواقف النداء من التحوير توظف جزءا من الحقيقة لكنها تبالغ في تحميل الحكومة الحالية عبء اختيارات اتخذها الرئيس ذاته. ففي الوقت الذي كان فيه الناخبون يتطلعون مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في 2014 إلى مشهد سياسي جديد تماما يقوم على التوازن بين قوتين متكافئتين إحداهما في الحكم والأخرى في المعارضة قرّر رئيس الجمهورية تحت ضغط إكراهات النظام الانتخابي أن تكون النهضة وهي الحزب الثاني ممثلة في الحكومة. وهو الذي قرّر أن يكون رئيس الحكومة من خارج النداء واختار لهذه المهمة الحبيب الصيد الذي يحظى برضى النهضة، وكان من الدوافع إلى ذلك الضغط المسلط على «نداء تونس» تخوفا من التغول.

وهكذا بعد أن كان نداء تونس والنهضة في الخطاب الانتخابي خطين متوازيين لا يلتقيان صارا شريكين في الحكم والتقيا في ما سمي «التوافق» وهو مسار يلتفّ بشكل واضح على مخرجات العملية الانتخابية ويفقد الديمقراطية بعضا من جدواها لدى عموم الناخبين الذين يرون في تجارب الدول المتقدمة أن المعارضة لا تقلّ أهمية عن ممارسة الحكم وأن تحميل المسؤولية كاملة إلى الحزب الفائز أمر ضروري لتسهيل التداول على السلطة. لكن الرئيس خيب أيضا آمال عدد كبير من ناخبيه ذاتهم الذين كان الهدف الأول من الانتخابات لديهم إخراج النهضة من دائرة الحكم، وخيّب أملهم ثانية عندما حرم حزبه من رئاسة الحكومة وخلق واقعا سياسيا اعتبره الكثيرون غير منسجم مع ما أفرزته الصناديق.

لإقالة الحبيب الصيد من مهامه وإرجاع رأس السلطة التنفيذية إلى النداء لجأ الرئيس أيضا إلى آلية لا علاقة لها بالواقع السياسي الذي قررته الانتخابات، فوثيقة قرطاج تشبه إلى حد بعيد الحوار الوطني الذي فرض على النهضة التنازل عن السلطة في 2014 رغم اختلاف الوضع، لكن هذه الوثيقة وسّعت مؤقتا صلاحيات الرئيس، وتم تعيين يوسف الشاهد رئيسا للحكومة ليصبح وهو القادم من نداء تونس ملزما بالبرنامج الإصلاحي الوارد في وثيقة قرطاج أكثر من التزامه بالبرنامج الانتخابي لحزبه. فضاعت في الأثناء الكثير من الوعود الانتخابية على رأسها التزام السبسي باستكمال التحقيق في جريمتي اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي وما يعنيه ذلك من المضي قدما في الكشف عن مسؤولية حركة النهضة السياسية في توفير المناخ الملائم للإرهاب.

في ظل هذا الأمر الواقع الذي لم يعد يرتبط كثيرا بنتائج الانتخابات الماضية بقدر ما يهيئ المناخ للاستحقاقات المقبلة تغيرت المعطيات بشكل دراماتيكي على الميدان الحزبي، فقد تفكّك حزب نداء تونس، وخسرت قيادته معركة الشرعية في ظل حرص حافظ قايد السبسي المحموم على فرض سلطته على الحزب أولا وعلى الحكومة ثانيا، واختلطت الأوراق داخل البرلمان في سياحة حزبية مرهقة للمتابعين ومقرفة لعموم الناخبين، وآخر شطحاتها الانصهار الذي وقع بين النداء والحزب الوطني الحر وتسليم مقاليد القيادة إلى سليم الرياحي الذي كان في انتخابات 2014 منافسا للنداء قبل أن يصبح شريكا في الحكم في مرحلة أولى وراعيا للتوافق بين الشيخين إثر لقاء باريس الشهير.

 في الأثناء استطاعت النهضة أن تستفيد من الوضع الجديد الذي بدا لها مريحا أكثر من وجودها في الصف الأول مباشرة، وهو وضع مناسب خصوصا لمقتضيات الظرف الخارجي الذي غير مواقفه من الإسلام السياسي، فحافظت على مواقعها الحساسة في جهاز السلطة وكانت لها الكلمة الفصل في الإبقاء على يوسف الشاهد رئيسا للحكومة بعد أن توقفت مداولات وثيقة قرطاج الثانية عند النقطة 64 المتعلقة بتغييره.

نداء تونس الذي يتزعمه سليم الرياحي هو الذي يعتبر التحوير الحكومي الجديد غير وفيّ لنتائج انتخابات 2014، ويعتبر كذلك أن النهضة هي الحاكم الفعلي للبلاد من وراء يوسف الشاهد والحال أن عددا هاما من وزراء الحكومة الجديدة ورئيسها ينتمون حتى الساعة إلى «نداء تونس». ويبدو الباجي قايد السبسي المسؤول الأول عن الوصول بالبلاد إلى هذا الوضع الخطير، لا سيما بعد أن اتسم موقفه إزاء الخلافات الداخلية في النداء بالضعف الفادح والانحياز المطلق لنجله ووقوفه الآن في صف واحد مع سليم الرياحي في مواجهة يوسف الشاهد الذي اختاره هو بنفسه في سياق تهيئة جيل سياسي جديد ومنحه الضوء الأخضر لمباشرة ما سمي بالحرب على الفساد، ما جعل الحكومة تحظى بتأييد شعبي واسع النطاق.  وهذا ما يضفي مشروعية على تساؤلات الرأي العام عن قدرة الرئيس الفعلية على اتخاذ القرارات المناسبة. لا سيّما أن الانتقال الديمقراطي برمّته أصبح عرضة للانهيار في ظل وضع  اقتصادي وأمني هش وتزايد مستمر للفوضى والبؤس وانسداد الأفق.