المنصف المرزوقي

المنصف المرزوقي

نشرت صحيفة لوموند الفرنسية بتاريخ 23 جانفي 2017 مقالا للدكتور منصف المرزوقي الرئيس السابق للجمهورية التونسية تحت عنوان “الإرهاب وصراع الحضارات”، أطّرته بالإشارة إلى أن الكاتب يدعو الدول الغربية إلى المساعدة على استكمال الربيع العربي، لأن الشعوب العربية (حسب رأيه) طالبت  بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، لكنّ الغرب لم يفعل شيئا ما ترك المجال للمتطرّفين الدينيين لنشر الإرهاب. ولما كانت فكرة الاستقواء بالأجنبي نقطة جدل مركزية في إدارة ثورات الربيع العربي لا سيما وأن الكاتب يرأس حاليا حزبا معارضا تتّسم مواقفه بالراديكالية أثار هذا المقال الذي نُشر في منبر من أهمّ المنابر العالمية الانتباه بما يدعو إلى قراءته ومناقشة أهم أفكاره.

يتكون المقال من أربعة محاور أولها: علاقة الإرهاب بالمجتمع المحلّي، فهو يرى أن الطّبقة الوسطى المتعلّمة والمنفتحة على الغرب اختارت النّموذج الحداثي في مواجهة ما يسمّيه “إخفاق النظام السياسي”، أمّا النّموذج السّلفي فقد تبنّته الطّبقة الفقيرة التي اتّجهت نحو العنف مدفوعة باليأس والغضب لتكوّن تيّارا جهاديا يؤمن بأن المواجهة المسلّحة هي السبيل الوحيد لمقاومة الأنظمة الفاسدة وهو الذي يعمل على نقل “الحرب المقدّسة” إلى الدّول الغربية لدعمها الأنظمة القائمة.

في المحور الثاني الذي يتناول علاقة الإرهاب بالربيع العربي، يشير الكاتب إلى أن الاستراتيجية الحداثية والسلفية ظلّتا تتنافسان لاستمالة الأغلبية داخل المجتمعات العربية، لكنّ الثّورات أعطت الإجابة الحاسمة فهي لم ترفع شعارات تنادي بالخلافة الإسلامية أو بكراهية الغرب واليهود إنّما طالبت بالديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، ما جعل التيّارات الجهادية تجد نفسها على الهامش وتصبح العدوّ اللّدود للثّورة والحليف الموضوعي لأنصار النّظام السّابق الذين يعملون على إفشالها، أما المحور الثالث فيحلّل فيه الكاتب علاقة الإرهاب بردّ فعل الغرب تجاه الرّبيع العربي، ويشهد انطلاقا من تجربته في رئاسة الجمهورية أنّ التّعهّدات الغربية لم تتحقّق خصوصا في مسألة الدّيْن الخارجي التي كان النّظام الجديد يعوّل عليها لتحقيق الإقلاع الاقتصادي، معتبرا أنّ الدول الغربية قد عادت لمساندة الأنظمة الدكتاتورية بحثا عن استقرار وهمي.

ويخلص بذلك إلى المحور الرابع في علاقة الإرهاب بصراع الحضارات، حيث يرى أن الحرب الأهلية في اليمن وليبيا وسوريا، والانقلاب العسكري في مصر والانتخابات المغشوشة في تونس كلها عوامل أفشلت الربيع العربي، فأصبحت التيّارات الجهادية تتغذّى من كره الأنظمة الدكتاتورية التي تستمد من محاربة الإرهاب قوتها، ولذلك يتوقّع المرزوقي حصول المزيد من العمليات الإرهابية في أوروبا وخارجها، وللوقوف في وجه هذا المسار العدمي يقترح انطلاقة جديدة للربيع العربي داعيا الدول الغربية إلى توخي سياسة تأخذ بعين الاعتبار مصالحها على المدى المتوسط والبعيد، والاّ فإنّ العالم يتّجه مباشرة نحو صراع الحضارات.

يتجاهل المرزوقي في مقاربته البعد العالمي في نشأة الإرهاب وتطوره، فالمسألة الاجتماعية ليست الاّ الجزء الظاهر من جبل الجليد، والتطرّف الديني يستمدّ مبادئه من أصول نظرية تكفيرية لا مجال لإنكارها، ويذهب الباحثون في تحديد هوية التيار السلفي الجهادي في تونس إلى القول بأن مبايعة تنظيم “أنصار الشريعة” أبا بكر البغدادي تطرح أسئلة حول كيفية التعامل مع هؤلاء الذين خرجوا عن الدولة: “فهل نتعامل معهم باعتبارهم رعايا دولة أجنبية وإن لم تكن عضوا في المنتظم السياسي الدولي؟ أم متجنسون؟ أم عملاء؟”[1] وقد استبق البحث بذلك الجدل الذي أثير مؤخرا حول عودة الإرهابيين والإطار الذي ينبغي أن تعالج ضمنه، ويقرّ البحث ذاته “أن ارتهان إرادة أنصار الشريعة وعموم التيار السلفي لأصحاب قرار من خارج البلد تحت عنوان الحاكمية السياسية العليا،.. يمكن أن يؤدي للتصادم بين منظوري هذا التيار وعموم التونسيين”[2]، لكن قراءة المرزوقي تنطلق من مقولة جد ذاتية، حول “فشل المشروع السياسي الوطني (الدولة البورقيبية)” باعتبار الحداثيين والسلفيين معا نتيجتين مختلفتين لسبب واحد يميّز بينهما الانتماء الطبقي!

يتجاهل المرزوقي كذلك أن الاستثناء التونسي حقيقة تؤكدها عدة مؤشرات لمؤسسات تصنيف دولية حيث باتت تونس تتصدر قائمة الدول العربية في تصنيف الديمقراطية، كما أن المجتمع الدولي يعتبر الحوار الوطني الذي أنهى حكم الترويكا مفخرة للتجربة الديمقراطية وسببا كافيا لتتويج المجتمع المدني بجائزة نوبل للسلام سنة 2015. وهو عندما يدعو الدول الغربية إلى المساعدة على استكمال الربيع العربي إنما يعني تحويل وجهة الدعم القائم من “قوى الثورة المضادة” إلى القوى الديمقراطية (التي ينتمي إليها ويمثلها) لأن ذلك سيضع حدا للكراهية المتبادلة التي هي سبب الصراع، وهو موقف ينبني على استراتيجية تفكير مقلوبة رأسا على عقب، فصدام الحضارات ليس نتيجة محتملة كما ينتهي إلى ذلك الكاتب في مقاله بل هو أحد أبرز أسباب تطور الظاهرة الإرهابية واتجاهها إلى الغرب حيث نشأت الفكرة[3] وأفضت إلى سياسات استعمارية جديدة هدفها إعادة صياغة الشرق الأوسط تحت مظلة نظام عالمي، ما يعزز دائما اعتبار البعض “الربيع العربي” مؤامرة دولية لا ثورات حرية وكرامة.

يُصنّف هذا النص ضمن مقالات الرّأي، لكنه يستمدّ أهميته من الدور الذي يضطلع به كاتبه في الحياة السياسية، لا سيّما وهو يوظّف فيه بعض المعطيات من تجربته الخاصّة في الرئاسة عندما يتحدّث عن الدعم التركي القطري للتجربة التونسية في مقابل عدم إيفاء الولايات المتحدة الأمريكية بتعهداتها في التسليح، ووقوف دولة الإمارات إلى جانب ما يسميها “قوى الثورة المضادة”، لهذه الأسباب يبدو هذا المقال مثيرا للانتباه لضعف محتواه الفكري وتهافته، فهو يتصدى لمسألة صدام الحضارات ذات البعد الثقافي الكوني باستخدام أدوات هي أقرب إلى الخطاب الحزبي، وهو على غرار العادة خطاب يقفز على الواجبات الأخلاقية التي يفرضها النقد الذاتي ويتغافل عن مراجعة مسؤولية الحكم في انتشار الظاهرة الإرهابية وتغلغلها في النسيج المجتمعي باضطلاع جهات متنفذة في الترويج للعقيدة الجهادية وتيسير سبلها.

—————–

[1]  السلفية الجهادية في تونس بعد  الثورة وفشل تجربة الانتظام، سامي براهم، ضمن بحث بعنوان السلفية الجهادية في تونس، الواقع والمآلات أعدة المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية في فترة حكم الترويكا.
[2]  نفس المصدر
[3]  صدر كتاب “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد” لصامويل هنتنغتون سنة 1993