إثر هروب بن علي، وبّخ العقيد معمر القذافي الشعب التونسي في حوار تلفزيوني، وقال كلمته الشهيرة: “ستندمون حيث لا ينفع الندم”، مؤكدا أنه لو كان مكان التونسيين لاختار بن علي بلا تردّد رئيسا مدى الحياة!، كان القذافي صديق الجنرال منذ أكثر من أربعين عاما وكان يبدو للجميع مصابا بجنون العظمة وصاحب فلسفة سياسية مضحكة ولذلك لم يستغرب أحد موقفه ذاك فهو لا يؤمن بغير ثورة الفاتح من سبتمبر، أما ما قام به التونسيون فهو من وجهة نظره مجرد غوغاء!
تذكرت هذا الموقف وأنا أقرأ مقال وائل قنديل رئيس تحرير صحيفة “العربي الجديد” بعنوان: “لننصف المرزوقي!”، وهو مقال انبرى فيه صاحبه يستعرض مناقب الرئيس التونسي المؤقت الأخلاقية والسياسية ملمحا إلى أن التونسيين سيرتكبون خطأ لا يغتفر إذا ما أنزلوا الدكتور من على كرسي الرئاسة الذي لا يستحقه غيره!
نعم لننصف الدكتور المنصف المرزوقي، فلا أحد يعترض على مقولة الإنصاف مطلقا وعلى أحقية السيد الرئيس بهذا الواجب الأخلاقي الرفيع، ولكن الإنصاف يقتضي النظر إلى الأشياء بمناظير معتدلة لا تُجمل الأشياء وتزوقها سيما إذا كانت تنظر إليها من مسافة بعيدة، وإنصاف المرزوقي يقتضي حتما مواجهته بأخطائه التي باتت معروفة لدى الجميع من فرط تكرارها على رؤوس الملأ في مختلف المنابر السياسية المحلية، لكن يبدو أن السيد وائل قنديل فضل القفز عليها والاكتفاء بترديد بعض المقولات السهلة المتهافتة التي يرددها مستشارو الرئيس ومن بقي معه في حزبه الصغير مثل القول بأن من يقف ضد المرزوقي يمثل الدولة العميقة وأن عدم انتخابه رئيسا مرة ثانية يعني العودة إلى منظومة الاستبداد. وهذه المقولات التي تقوم على ثلب الطرف المقابل لا تقدم للناخبين أجوبة مقنعة على مآخذهم بل تزيد الأوضاع احتقانا وتغرق البلاد في فوضى تفكير لا نسقي يستحضر أرواحا من الماضي يخوض بها معارك مفتعلة.
كان المرزوقي يردد قبل وصوله إلى قصر قرطاج بأنه يريد تأسيس حزب سياسي لمائة سنة قادمة ويرفض التحالفات الانتخابية الظرفية لتحديد حجمه السياسي الصحيح، وكان خصومه آنذاك يعتبرون حزبه فرعا من النهضة يتقدم بوصفه حزبا علمانيا، وقد رجحت الأحداث اللاحقة هذه النظرية حين انخرط حزب المؤتمر بزعامة النهضة في الترويكا الحاكمة بلا شروط تذكر، وبدأ يفقد شيئا فشيئا قياداته ومناصريه لينخرط أكثر فأكثر في خيارات الحزب الإسلامي بل أصبح ممثلوه الأكثر تصلبا داخل المجلس التأسيسي، وضمُر حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي قاد المرزوقي إلى الرئاسة فانفض من حوله أصدقاؤه القدامى وتفرقوا، وظل السيد الرئيس محوطا ببعض المستشارين الذين لا يعرف لهم رصيد نضالي، بل إن بعضهم التحق بالحزب بعد وصول رئيسه إلى القصر الرئاسي، وتفتقت مواهبه النضالية بعد أن أصبح النضال بلا ثمن يذكر، هؤلاء لهم دور كبير في انحسار شعبية الرجل حتى في الأوساط التي لا علاقة لها بالنظام السابق!.
صحيح أن الشعب التونسي لم يختر المنصف المرزوقي رئيسا في انتخاب حر ومباشر لكنه أنصفه بتعيينه أول رئيس للجمهورية التونسية بعد الإطاحة بزين العابدين بن علي، وكان الموكب الرسمي الذي تسلم فيه مقاليد الرئاسة من خلفه فؤاد المبزع مثقلا بالرموز العميقة. ولكن السيد الرئيس ومنذ خطابه الأول شرع في ارتكاب الأخطاء، فقسم التونسيين إلى فئات ولم يكن ذلك مجرد خيار بلاغي بقدر ما كان عقيدة تتنافى مع عقيدة التونسيين الذي يرفضون التقسيم، ومن ثمة بدأت المواجهة مبكرا بينه وبين طبقة سياسية كاملة، وأخذت الهوة بينهما تتسع من يوم لآخر لينعزل أكثر فأكثر في قصره وأفكاره ورؤاه، ولم يتنازل الدكتور عن أناه بل ازداد تصلبا، ولم يتزحزح قيد أنملة عن أفكار يعتنقها ويؤمن بها دون أن تكون محل وفاق عام، وتحت أنظاره جرت كل محاولات النيل من مدنية الدولة التونسية والعبث برصيدها الحضاري فلم يستطع أن يقف في وجه حليفه القوي عندما قرر تسليم البغدادي المحمودي إلى السلطات الليبية دون علمه في عملية اعتبرها شق عريض من التونسيين صفقة مشبوهة كان عليه أن ينتبه خلالها إلى أنه في موقع لا يناسبه البتة، وفي أعقاب تلك الحادثة بدأت تلصق بالسيد الرئيس شتى النعوت الكريهة التي تطلق على من كان فاقد الصلاحية وعديم الجدوى!
أفكار الدكتور المنصف المرزوقي عن الثورة الواردة في كتابه “إنها الثورة يا مولاي” لا يشاطره إياها كثير من التونسيين، فالثورة التونسية حدثت لدوافع اقتصادية بالأساس، انفجر الوضع الاجتماعي في تونس بعد أن تفاقمت البطالة وكان أول شعار رفع في وجه بن علي: “التشغيل استحقاق يا عصابة السراق”، لكن يريد الحقوقيون من أمثال الدكتور المنصف المرزوقي استبدال صورة “ثورة الجياع” بصورة أكثر إيجابية مفادها أن الثورة على بن علي هي ثورة ضد الطغيان، هذه الرؤية ترمي إلى إلصاق تهمة العار بخمسين عاما من عمر دولة الاستقلال بكل مكتسباتها، لا لشيء الا لأنها أخفقت في إرساء نظام ديمقراطي حقيقي، وهي رؤية تشيد بالثورة لأنها صالحت التونسيين مع هويتهم (!) وأوصلت الإسلاميين إلى الحكم بعد أن كانوا في قلب معركة الديمقراطية وإخفاقاتها المتكررة منذ ثلاثين عاما على الأقل. باختصار أسهم المرزوقي في تحويل وجهة الثورة من صانعيها الحقيقيين المفقرين والمهمشين في الداخل التونسي وإهدائها إلى الإسلاميين الذين أخرجهم بن علي ذاته من السجون قبل سنتين من رحيله. وهو يعتقد أن الثورات تستغرق أجيالا وأجيالا لتحقق أهدافها بينما يتطلع شق عريض من التونسيين إلى الاستقرار بعد ثلاث سنوات طويلة من المعاناة صيغ خلالها دستور يرى كاتبوه أنه الضامن الأول لعدم الوقوع مجددا بين براثن الاستبداد. وأخذ الدكتور المنصف المرزوقي ينعزل أكثر فأكثر سياسيا بعد أن اختار أن تجري حملته الانتخابية بأدوات التخويف والترويع من عودة الدكتاتورية متجاهلا الطابع العقابي للانتخابات فهو يتحمل النصيب الذي يلائم موقعه من مسؤولية إخفاقات الترويكا في ملفات عديدة من أهمها ملف العدالة الانتقالية ومحاكمة رموز النظام السابق وانتشار الإرهاب.
أخطاء السيد الرئيس أكثر من أن تحصى وتقديمه بهذا الشكل الملائكي الهلامي لا يتناسب ومقتضيات المرحلة، لقد اعتلى سدة الحكم في أعقاب الثورة مناضلون عرفوا المعتقلات والسجون والمنافي وكان وجودهم على رأس مؤسسات السيادة بمثابة تكريم رمزي، لكن ذاك لم يكن في صالح التونسيين وثورتهم، فقد أخفق كثير من المناضلين في أن يكونوا رجال دولة، وكان على السيد الرئيس أن يستوعب الدرس ويستجيب إلى مقتضيات الواقعية السياسية دون أن يضع تاريخه كله في جراب حزب حركة النهضة، كان على السيد الرئيس ألا يناقض قناعاته، فالديمقراطية ليست حكرا عليه وليست مرتبطة بشخصه، ولن تسقط برحيله، وكان عليه ألا يستسلم لأكاذيب مستشاريه حول الدولة العميقة والنظام القديم لأن ذلك يتعارض جملة وتفصيلا مع منجزات الثورة في سنوات التأسيس الثلاث، كل الدلائل تشير إلى أن الدكتور المنصف المرزوقي يمر بالامتحان الأصعب، امتحان الخروج سالما من السلطة، ذلك الامتحان الذي تحاشاه سابقوه وقد كان الأمر ليكون مختلفا لو تحاشى هو هذه الانتخابات!
















