مقالات رأي

فلننصف تونس وثورتها!

الدكتور المنصف المرزوقي

الدكتور المنصف المرزوقي

إثر هروب بن علي، وبّخ العقيد معمر القذافي الشعب التونسي في حوار تلفزيوني، وقال كلمته الشهيرة: “ستندمون حيث لا ينفع الندم”، مؤكدا أنه لو كان مكان التونسيين لاختار بن علي بلا تردّد رئيسا مدى الحياة!، كان القذافي صديق الجنرال منذ أكثر من أربعين عاما وكان يبدو للجميع مصابا بجنون العظمة وصاحب فلسفة سياسية مضحكة ولذلك لم يستغرب أحد موقفه ذاك فهو لا يؤمن بغير ثورة الفاتح من سبتمبر، أما ما قام به التونسيون فهو من وجهة نظره مجرد غوغاء!

تذكرت هذا الموقف وأنا أقرأ مقال وائل قنديل رئيس تحرير صحيفة “العربي الجديد” بعنوان: “لننصف المرزوقي!”، وهو مقال انبرى فيه صاحبه يستعرض مناقب الرئيس التونسي المؤقت الأخلاقية والسياسية ملمحا إلى أن التونسيين سيرتكبون خطأ لا يغتفر إذا ما أنزلوا الدكتور من على كرسي الرئاسة الذي لا يستحقه غيره!

نعم لننصف الدكتور المنصف المرزوقي، فلا أحد يعترض على مقولة الإنصاف مطلقا وعلى أحقية السيد الرئيس بهذا الواجب الأخلاقي الرفيع، ولكن الإنصاف يقتضي النظر إلى الأشياء بمناظير معتدلة لا تُجمل الأشياء وتزوقها سيما إذا كانت تنظر إليها من مسافة بعيدة، وإنصاف المرزوقي يقتضي حتما مواجهته بأخطائه التي باتت معروفة لدى الجميع من فرط تكرارها على رؤوس الملأ في مختلف المنابر السياسية المحلية، لكن يبدو أن السيد وائل قنديل فضل القفز عليها والاكتفاء بترديد بعض المقولات السهلة المتهافتة التي يرددها مستشارو الرئيس ومن بقي معه في حزبه الصغير مثل القول بأن من يقف ضد المرزوقي يمثل الدولة العميقة وأن عدم انتخابه رئيسا مرة ثانية يعني العودة إلى منظومة الاستبداد. وهذه المقولات التي تقوم على ثلب الطرف المقابل لا تقدم للناخبين أجوبة مقنعة على مآخذهم بل تزيد الأوضاع احتقانا وتغرق البلاد في فوضى تفكير لا نسقي يستحضر أرواحا من الماضي يخوض بها معارك مفتعلة.

كان المرزوقي يردد قبل وصوله إلى قصر قرطاج بأنه يريد تأسيس حزب سياسي لمائة سنة قادمة ويرفض التحالفات الانتخابية الظرفية لتحديد حجمه السياسي الصحيح، وكان خصومه آنذاك يعتبرون حزبه فرعا من النهضة يتقدم بوصفه حزبا علمانيا، وقد رجحت الأحداث اللاحقة هذه النظرية حين انخرط حزب المؤتمر بزعامة النهضة في الترويكا الحاكمة بلا شروط تذكر، وبدأ يفقد شيئا فشيئا قياداته ومناصريه لينخرط أكثر فأكثر في خيارات الحزب الإسلامي بل أصبح ممثلوه الأكثر تصلبا داخل المجلس التأسيسي، وضمُر حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي قاد المرزوقي إلى الرئاسة فانفض من حوله أصدقاؤه القدامى وتفرقوا، وظل السيد الرئيس محوطا ببعض المستشارين الذين لا يعرف لهم رصيد نضالي، بل إن بعضهم التحق بالحزب بعد وصول رئيسه إلى القصر الرئاسي، وتفتقت مواهبه النضالية بعد أن أصبح النضال بلا ثمن يذكر، هؤلاء لهم دور كبير في انحسار شعبية الرجل حتى في الأوساط التي لا علاقة لها بالنظام السابق!.

د وائل قنديل

د وائل قنديل

صحيح أن الشعب التونسي لم يختر المنصف المرزوقي رئيسا في انتخاب حر ومباشر لكنه أنصفه بتعيينه أول رئيس للجمهورية التونسية بعد الإطاحة بزين العابدين بن علي، وكان الموكب الرسمي الذي تسلم فيه مقاليد الرئاسة من خلفه فؤاد المبزع مثقلا بالرموز العميقة. ولكن السيد الرئيس ومنذ خطابه الأول شرع في ارتكاب الأخطاء، فقسم التونسيين إلى فئات ولم يكن ذلك مجرد خيار بلاغي بقدر ما كان عقيدة تتنافى مع عقيدة التونسيين الذي يرفضون التقسيم، ومن ثمة بدأت المواجهة مبكرا بينه وبين طبقة سياسية كاملة، وأخذت الهوة بينهما تتسع من يوم لآخر لينعزل أكثر فأكثر في قصره وأفكاره ورؤاه، ولم يتنازل الدكتور عن أناه بل ازداد تصلبا، ولم يتزحزح قيد أنملة عن أفكار يعتنقها ويؤمن بها دون أن تكون محل وفاق عام، وتحت أنظاره جرت كل محاولات النيل من مدنية الدولة التونسية والعبث برصيدها الحضاري فلم يستطع أن يقف في وجه حليفه القوي عندما قرر تسليم البغدادي المحمودي إلى السلطات الليبية دون علمه في عملية اعتبرها شق عريض من التونسيين صفقة مشبوهة كان عليه أن ينتبه خلالها إلى أنه في موقع لا يناسبه البتة، وفي أعقاب تلك الحادثة بدأت تلصق بالسيد الرئيس شتى النعوت الكريهة التي تطلق على من كان فاقد الصلاحية وعديم الجدوى!

أفكار الدكتور المنصف المرزوقي عن الثورة الواردة في كتابه “إنها الثورة يا مولاي” لا يشاطره إياها كثير من التونسيين، فالثورة التونسية حدثت لدوافع اقتصادية بالأساس، انفجر الوضع الاجتماعي في تونس بعد أن تفاقمت البطالة وكان أول شعار رفع في وجه بن علي: “التشغيل استحقاق يا عصابة السراق”، لكن يريد الحقوقيون من أمثال الدكتور المنصف المرزوقي استبدال صورة “ثورة الجياع” بصورة أكثر إيجابية مفادها أن الثورة على بن علي هي ثورة ضد الطغيان، هذه الرؤية ترمي إلى إلصاق تهمة العار بخمسين عاما من عمر دولة الاستقلال بكل مكتسباتها، لا لشيء الا لأنها أخفقت في إرساء نظام ديمقراطي حقيقي، وهي رؤية تشيد بالثورة لأنها صالحت التونسيين مع هويتهم (!) وأوصلت الإسلاميين إلى الحكم بعد أن كانوا في قلب معركة الديمقراطية وإخفاقاتها المتكررة منذ ثلاثين عاما على الأقل. باختصار أسهم المرزوقي في تحويل وجهة الثورة من صانعيها الحقيقيين المفقرين والمهمشين في الداخل التونسي وإهدائها إلى الإسلاميين الذين أخرجهم بن علي ذاته من السجون قبل سنتين من رحيله. وهو يعتقد أن الثورات تستغرق أجيالا وأجيالا لتحقق أهدافها بينما يتطلع شق عريض من التونسيين إلى الاستقرار بعد ثلاث سنوات طويلة من المعاناة صيغ خلالها دستور يرى كاتبوه أنه الضامن الأول لعدم الوقوع مجددا بين براثن الاستبداد. وأخذ الدكتور المنصف المرزوقي ينعزل أكثر فأكثر سياسيا بعد أن اختار أن تجري حملته الانتخابية بأدوات التخويف والترويع من عودة الدكتاتورية متجاهلا الطابع العقابي للانتخابات فهو يتحمل النصيب الذي يلائم موقعه من مسؤولية إخفاقات الترويكا في ملفات عديدة من أهمها ملف العدالة الانتقالية ومحاكمة رموز النظام السابق وانتشار الإرهاب.

أخطاء السيد الرئيس أكثر من أن تحصى وتقديمه بهذا الشكل الملائكي الهلامي لا يتناسب ومقتضيات المرحلة، لقد اعتلى سدة الحكم في أعقاب الثورة مناضلون عرفوا المعتقلات والسجون والمنافي وكان وجودهم على رأس مؤسسات السيادة بمثابة تكريم رمزي، لكن ذاك لم يكن في صالح التونسيين وثورتهم، فقد أخفق كثير من المناضلين في أن يكونوا رجال دولة، وكان على السيد الرئيس أن يستوعب الدرس ويستجيب إلى مقتضيات الواقعية السياسية دون أن يضع تاريخه كله في جراب حزب حركة النهضة، كان على السيد الرئيس ألا يناقض قناعاته، فالديمقراطية ليست حكرا عليه وليست مرتبطة بشخصه، ولن تسقط برحيله، وكان عليه ألا يستسلم لأكاذيب مستشاريه حول الدولة العميقة والنظام القديم لأن ذلك يتعارض جملة وتفصيلا مع منجزات الثورة في سنوات التأسيس الثلاث، كل الدلائل تشير إلى أن الدكتور المنصف المرزوقي يمر بالامتحان الأصعب، امتحان الخروج سالما من السلطة، ذلك الامتحان الذي تحاشاه سابقوه وقد كان الأمر ليكون مختلفا لو تحاشى هو هذه الانتخابات!


رسالة مضمونة الوصول إلى السيدة آمال كربول

عندما يهان التونسيون في تونس!

لا أخفي سيدتي الوزيرة أن إطلالتك البهية في موكب التكنوقراط قد أثارت في البدء فضولي وإعجابي، فقد كنت واحدا من التونسيين الذين ملّوا من صورة الوزراء الخشبية، ومن هذا المنطلق سيدتي الوزيرة سأكون تكنوقراطيا في رسالتي هذه .

وزيرة السياحة في ححكومة المهدي جمعةوزيرة السياحة في ححكومة المهدي جمعةوزيرة السياحة في ححكومة المهدي جمعة

وزيرة السياحة في ححكومة المهدي جمعة

أراد أحد التونسيين المقيمين بالخارج إهداء شقيقه إقامة في أحد النزل السياحية الفاخرة في تونس، فاستخدم عبر الانترنت وكالةَ الأسفار الالكترونية التي تعوّد الحجز معها في كل أسفاره والتي يشعر بالرضى التام على ما تقدمه له من خدمات في كافة أنحاء العالم: تذاكر سفر وحجوزات فندقية وكراء سيارات الخ، ولم يخطر له قط أن الأمر سيكون مختلفا قليلا مع السياحة التونسية. اختار صديقنا نزلا سياحيا من فئة الخمس نجوم بأحد مدن الساحل يقترح سعرا مغريا للغرفة الواحدة، وسجل الحجز باسم شقيقه ثم دفع ثمن الإقامة في النزل كاملا بواسطة البطاقة البنكية، طبعا كان صاحبنا على معرفة تامة بشروط العقد التي لا تنص الا على الغرامات الواجب تسديدها في حال تغيير الموعد أو الإلغاء، ولمزيد التأكيد اتصل صاحبنا بالفندق قبل حلول الموعد للتأكد واطمأن إلى أن كل شيء على ما يرام. (مواصلة القراءة…)


في وداع سميح القاسم

سميح القاسم ومحمود درويش

سميح القاسم ومحمود درويش

كانت أول مواجهة ميكروفونية لي مع الرائعين محمود درويش وسميح القاسم في كواليس المسرح البلدي بتونس العاصمة صائفة 1994، كانت ليلة الوداع التي توجت رمزيا إقامة فلسطينية في تونس دامت اثنتي عشرة سنة وامتزج فيها دم الشعبين، في تلك الليلة أطلق درويش جملته التي صارت فيما بعد دعاية فولكلورية: كيف نشفى من حب تونس؟ وبكى وهو يوصينا خيرا بالشهداء الذين لن يعودوا إلى ما تبقى من أرض فلسطين.
كان محمود درويش يلتهم الأضواء من كل المحيطين به ويختزل الشعر الفلسطيني كله ولم يكن ذلك ليثير حفيظة أحد، لا سميح القاسم صاحب القصيدة الشهيرة: “تقدموا تقدموا كل سماء فوقكم جهنم وكل أرض تحتكم جهنم تقدموا…”، ولا أحمد دحبور صاحب القصيدة الزجلية الرائعة: “يما مويل الهوى يما مويلية ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّ” كنا نعرف القصائد والأغاني ولا نعرف أسماء الشعراء فقد كان درويش هو فلسطين. وكثير من القراء اهتدوا إلى سميح القاسم من خلال الرسائل الشهيرة المتبادلة بينهما، ولم يكن ثمة أفضل من سميح القاسم لاستقبال رفات درويش في رام الله عندما عاد من رحلته الأخيرة إلى قطعة من أرض الوطن.
في تلك الليلة سهرت مع بعض الأصدقاء حتى الفجر في أحد مقاهي باب سويقة أنتظر تحرك سيارات الأجرة الأولى في اتجاه المنستير، وقدمنا مقتطفات من الحوار مع الشاعرين في نشرة السابعة والنصف صباحا للأنباء تمهيدا لعرض السهرة كاملة في السهرة الأسبوعية “قمر لكل الليالي”، في تلك الأيام كان لقاء إذاعي مع شاعر يستحق البث في نشرة إخبارية رئيسية وكانت تحدث مفاجآت جميلة لبعض زملائنا كأن ينزل ياسر عرفات دون إعلام مسبق ضيفا على سهرة إذاعية تحيي ذكرى الشاعر معين بسيسو! يا لتلك الأيام!! (مواصلة القراءة…)


فرحة شعب

أنْصتَتْ إلى المذياع بانتباه شديد ولم تفهم شيئا، فأيقظتني بصوت مرتعش من سُباتي العميق. كانت شمسُ الخريف الناعمةُ قد غمرت غابات الزياتين وتسللت من شقوق النافذة القديمة إلى بيتنا القرويّ الصغير، فانتزعتُ نفسي من مخالب النوم ورافقتها بتثاقل إلى حيث يقبع الراديو لا يفارق سرير نومها الخشبي العتيق.
–  بورقيبة مات ؟
تساءلت أمي في حيرة وخوف ووجل فطمأنتها ضاحكا:
–      لا لم يمت، ولكنه لم يَـعُـدْ رئيس الجمهورية.
لقد صار هذا المشهد وشما في ذاكرتي وعلامةً في ذاكرةِ تلك الأيام…
إنه باب حديديّ أُغـلق في منطقة ما بين الضوء والعتمة، فتـبعثرت أصداءُ صريره الحادّ فيما وراء آفاق الروح…
أصغينا إلى البيان التاريخي الشهير معا، وأخذ كلُّ واحد منا يبحث في مرآته عن أدوات يشدّ بها توازنه في المشهد الجديد: الحياة دون توجيهات السيد الرئيس
سَحبْتُ أمي يومها من شؤونها الصغيرة إلى الغرفة الضيقة ثم وضعتُ شريطا قديما مُهترئا سجّلتُ عليه أغنيةَ عبد الحليم حافظ في عيد ميلاد الزعيم، وأخذتُ أصِفُ متخيّلا مشاهدَ كُـنّا نراها في عشايا الصيف في تلفزيوننا الأسود والأبيض ضمن برنامج “فرحة شعب” الذي يصوّر وقائع احتفالات ولايات الجمهورية بعيد ميلاد “محرّر المرأة وباني مجد تونس ودولتها الحديثة فخامة المجاهد الأكبر الرئيس الحبيب بورقيبة”.

الحبيب بورقيبة

الحبيب بورقيبة

في تلك اللحظات الأولى من “فجر التغيـير” كنتُ كمن يفتح خزائن اللاوعي على مصراعيها ليستخرج منها محفوظات باليةً غمرها النسيان منذ زمن قديم أو كمن ينفخُ في رماد الوقت ليَـدْفأَ بالشُّـعلة الباقية…

كانت الموسيقى المُهترئة توقظ شهوة الأفعى النائمة في أعماق جيل عذّبــته أعيادُ الميلاد بينما كانت تهطل كالأمطار الكئيبة في أعماقِ أمّي…

كنت أصِفُ صُوَرًا لطالما نظرنا إليها ولم نَـرها فقد فقدت من فرط التكرار والضرورة طراوتها، ولكنّها يومها خرجت من دولاب الأسرار مُـشرقةً نابضةً بالحياة…

كانت تنهمر من عينيها الدّموعُ وأنا أصفُ تفاصيل المشهد: كسوةَ الزعيم البيضاءَ ومشمومَ الفل والعصا والنظارات وضجيجَ الصغار المصطفين على جانبي الطريق يُـلوّحونَ بأياديهم الصغيرة إلى الشّــيخِ الهرم كمن يرى إلى جبل من الذكريات يتحرّك فوق أديم الوقت.

لم أكن لأتفطن لحظتـئذٍ إلى أنها كانت تعيش وداعا عاطفيا جارحا، فقد احتفظ بورقيبة بأبوته الرمزية الشاهقة في ذاكرة من عاشوا معه تلك اللحظات التاريخية الحارّة: يوم نزوله في ميناء حلق الوادي تحت وقع الزغاريد الشعبية العارمة، ويوم رفع سمّاعة الهاتف ليسمع من الباهي الأدغم الوزير الأول نبأ خروج آخر جندي فرنسي من قاعدة بنزرت العسكرية وذكريات الفرح العفوي في القرى المنسية يوم أعاد ثمن الـخُبز إلى ما يناسب جيوب الفقراء…

كنّا آنذاك نتسلّق باندفاع هادر سنوات المراهقة الصعبة، غير ملتفتين إلى الوراء فليس ثمّة ما يستحق الاهتمام، نتمشى في معابر الجامعة وممرّاتها كمن يتمشى في غابة أحلامه الرائعة، تتبدّد الساعات المتثاقلة بين قصائد أبي القاسم الشابي ومذكرات بابلو نيرودا، بين غبار أيام العرب و ذباب صبرا وشاتيلا، بين عذابات المتنبي وارتعاشة الموت على شفتي أمل دنقل، المجد للشيطان…

مشاهدُ متوهجة لم تتحلّل بعد، المدينة تنهض من نومها المضطرب لتعانق يومها من وراء القضبان، الزوار غير المتوقعين يتمازج وقع أحذيتهم بأذان الفجر القادم من بعيد، أبواب تفتح، تغلق، حركات مريبة في سلالم المبيت الجامعي، أضواء تشتعل وتنطفئ في الخارج، أصوات مكتومة، روائح غامضة، الصباح المطل من وراء الأفق مثل زهرة برية ناعمة، وتفاصيل الخريف المعتادة: الحافلات الصفراء في محطة باب الخضراء ورائحة السّمك الصفاقسي المُجفّف في سوق سيدي البحري، طعمُ القهوة المُـرّة تحت ظلال الانتظار في حديقة البلفيدير وصوت أم كلثوم تغني للأمـل…

كانت الصورة تتآكل شيئا فشيئا وفرحة الشعب بعيد الميلاد لن تنغصها غير بعض القصائد الماكرة والأغاني المهربة والكتابات المشبوهة على جدران الليل أو على صفحات جرائد المقاومة…

تتداخل كلّ الألوان على قماش اللوحة، أصابع التاريخ تلقي بالفرشاة في عصبية واضحة وترسم الظلال الأخيرة على تجاعيد وجه تونسي متغضن، عربات الوقت تتحرّك في المسافات الأخيرة، المساء مُزدحم في الأزقة العتيقة، النائمون على كراسي الحديقة يحلمون…

–      بورقيبة مات ؟

–      ثمّة احتمال أن يكون ذلك قد حدث منذ زمن بعيد.

كنا نعيش تلك الأيام مع صورة السيد الرئيس وتوجيهاته وعصاه وذكرياته، وكانت صور التلفزيون الشاحبة جزءا من المشهد اليومي نطمئن بها إلى أن لا شيء يستحق الاهتمام.

فجأة انتهى كل شيء وغادر الرئيس شاشة التلفزيون ليعيش عزلته الأخيرة في دعة واطمئنان ويستسلم لذكرياته الحارة المشوّقة…

ظلت أمي تذرف الدموع كلما أسمعتها أغنية عبد الحليم حافظ في عيد ميلاد الزعيم قبل أن أفقد الشريط المهترئ إلى الأبد…

في السنة الموالية انتدبت للعمل بالوظيفة العمومية…

اقتنيت بالتقسيط تلفازا مُلـوّنا لمشاهدة الفوازير والاستمتاع بالمسلسلات المصرية…

رحمك الله يا أمّي لقد تغـيّر العالم كثيرا من بعدنا…


يوسف رزوقة الشاعر المختلف

يوسف رزوقة

يوسف رزوقة

يصعب تصنيف الكاتب يوسف رزوقة ضمن تيار بعينه من تيارات الكتابة الحديثة في تونس وذلك على الأقل لثلاثة أسباب موضوعية، أولها تبعثر التيارات الأدبية المحلية منذ نهاية الثمانينات وتلاشيها في أصوات منفردة رغم كل محاولات تجميعها اللاحقة، وثانيها غزارة إنتاج الكاتب فهو أكثر شعراء جيله إصدارا للمؤلفات بل لعله يمثل ظاهرة فريدة في تونس التي يتسم إنتاج كتابها ومثقفيها بالندرة بدءا من أبي القاسم الشابي وصولا إلى محمود المسعدي، وثالث هذه الأسباب تنوع تجربة الكتابة لدى يوسف رزوقة فقد جمع بين لغات شتى ووظف ذلك ليكون بمحض مبادرته جسرا بين الثقافة العربية في شمال افريقيا ونظيرتها في أمريكا اللاتينية، وهو ينتقل جيئة وذهابا بين الشعر والرواية وإن كان لا يتفرد بهذا إذ درج كثير من الشعراء على الانتقال في مراحل متقدمة من تجاربهم إلى السرد مستثمرين حوار الأجناس في أعمالهم لاكتشاف مناطق جديدة في التجريب الإبداعي. (مواصلة القراءة…)


لا تنظروا خلفكم

12-466x350قبل أن تدخُلُوا جنّة الشُّهداء
انظروا هل بقايا دمٍ علِقتْ بخُطاكم
وهل نسيَ الموتُ بعضًا من الأمنياتِ على جُدُرانِ صِباكُم
فقد كان مرتبكًا
وهو يأخذكم واحدا واحدا
قبل موعِدِكُمْ
في الطريق التي لم تُهيأ لكُمْ
انما لسِواكُمْ
ولا تنظرُوا خلفكمْ

المراثي بقايا النبوءاتِ
جوعُ الغريزةِ
بابُ القيامةِ
حين تعود الجماعة من قتلكمْ
لصلاة الجماعةِ
لا تنظُروا خلفكُم
البلاد تنُوء بأحمالهَا
وغدا سوف نحلُم أوضحَ من حُلمِكُم
لنَراكُمْ

 

 

 


ساعةُ الرئيسِ الـمُعطَّلة

الدكتور المنصف المرزوقي

الدكتور المنصف المرزوقي

أعتذر سيدي الرئيس فأنا لم أشاهدك وأنت تفتح دولاب أسرارك في التلفزيون لمن يجرؤ فقط، الذنب ليس ذنبي، ليلتها كنت منشغلا بما كتبه على حائط بيته الافتراضي صديقي الأستاذ محمد الفهري شلبي فلم أشاهدك سيدي الرئيس.
لم أستطع النظر في وجهك رغم أنك رئيس البلاد (لاحظ أنني لا أستعمل لفظ المؤقت، فهي عبارة بلا معنى، وها هي الأيام المؤقتة تتمطط وتتمطط لتطول وتطول وتلتفّ حول أعناقنا كالأفاعي لتخنقنا، الذنب ليس ذنبك أنت أيضا فأنت الوحيد تقريبا الذي لم تنطل عليه حكاية العام)
كنت تتحدث في قناة التونسية التي أسسها سامي الفهري لبث برامج شركة كاكتوس بعد أن أغلقت أمامه أبواب القناة التلفزيونية العمومية، (قناة البيليك)، حدث ذلك بعد 14 جانفي.
لم أشاهدك ولم أتبيّن من اللغط الذي رافق بث البرنامج غير تلميحات مناوئة من هنا وهناك حول الساعة الرئاسية المعطلة التي لم ينتبه إليها مستشاروك، قبل بدء التسجيل.
سأشرح لك الأمر قليلا، فالرئيسُ ليس شمسا لتشرق على كل شيء.
الأستاذ محمد الفهري شلبي أحد مديري التلفزيون السابقين لفترة قصيرة لكنها كانت كافية لتجعله يقف أمام العدالة في قضية كاكتوس الشهيرة.
(طبعا ستقول في سرّك أو في علنك أنك غير معني بهذا، فمِن وجهة نظر “الثورة” في عقلها الانتهازي كل من عمل مع بن علي لا بدّ أن يدفع الثمن (هكذا!) وأن العدالة حرّة مستقلّة سيدة قرارها سواء أتعلق الأمر بقضية زطلة أم بقضية اغتصاب أو أموال عامة، ونحن لا نختلف معك في هذا بل نضيف إليه تواضع صلاحيات الرئاسة ورخاوة هذه القضية العجيبة لنقول لك إننا لا نأمل من سيادتكم شيئا وأن مخاطبتكم عبر هذه الرسالة هي حيلة شيطانية من حيل الكتابة لا غير).
عفوا سيدي الرئيس، هل تذكرت هذه القضية؟ هل تعرف تفاصيلها؟ هل تعني لك شيئا؟
إنها القضية الوحيدة الباقية من قضايا الثورة! (مواصلة القراءة…)


خليــــــفة الأقـــــرع

سمير الوافي

سمير الوافي

صغار السن، الذين بالكاد يقرأون ما هو مقرر لهم في حصص التشجيع على المطالعة في مدارسهم لا يعرفون خليفة الأقرع!

هي قصة قصيرة للبشير خريف أب الرواية في تونس نشرها ضمن مجموعته القصصية مشموم الفل، وأخرجها للسينما حمودة بن حليمة تحكي عن رجل يحمل هذا الاسم لأنه مصاب بمرض جلدي في رأسه، وخولت له هذه العاهة أن يكون محلّ ثقة “رجال المدينة” فيدخل بيوتهم لقضاء حاجات شتى. لأنه أقرع دخل خليفة عالم النساء المغلق واكتشف أسرارهن وخطاياهن واستأنسن به في قضاء شؤونهن العاطفية المحرمة ونزواتهن. وكانت رسالة البشير خريف من وراء هذه الحكاية الطريفة واضحةً أراد أن يقول فيها إن الفساد الأخلاقي لا صلة له بالتحرّر، فهو ينقد بسخرية لاذعة المجتمع التقليدي المحافظ الذي يبدو من الخارج مجتمع الفضيلة والصلاح بينما يكفي التسلل إلى داخله لاكتشاف كمّ هائل من الرذائل، ورجال الحومة في هذه القصة كانوا يعتقدون أن خليفة الأقرع برأس سليم يغطيه الشعر سيكون رجلا “كاملا” ولن يحق له دخول بيوتهم لأنه سيحمل معه فيروس الرذيلة دون أن ينتبهوا إلى أن الرّذيلة تسكن بيوتهم! ولهذا نرى بطل القصة عند بوبكر الدقاز يطلب منه أن يفعل له شيئا لتبقى الدملة في رأسه فهي جواز سفره إلى عالم الحريم والأسرار الدافئة، تلك الدملة منحته معرفة كاملة رغم أنهم من خارج الدائرة المغلقة يعتبرونه رجلا ناقصا. (مواصلة القراءة…)


حول ذاكرة الإذاعة

أرشيف الإذاعة التونسية

أرشيف الإذاعة التونسية

صدمت الرأي العام صور نشرت على الفايسبوك لأشرطة الإذاعة التونسية مبعثرة في الأروقة المهجورة وقد طالتها أيادي الغدر والعدوان، لا أحد يمكنه أن يتكهن بما في داخل تلك العلب الصدئة لكنه على أية حال سيجد شيئا صالحا لمقاومة النسيان، أغان أو برامج أو تمثيليات، كلها أعمال بذل فيها بناةُ الدار حياتهم كلها. هذه الأشرطة هي ببساطة ثروة من ثروات البلاد التونسية لا تقدّر بثمن لأن ما فيها غير قابل للتعويض ولهذا أجمع كل من شاهد تلك الصور على أنها جريمة في حق الشعب والذاكرة.

تعقيبا على هذه الصور كتب كريم السمعلي ممتعضا:” كم يؤلمني ما أرى.. لكن لإحقاق الحق هذا مشكل قديم لا علاقة له بالتنصيبات الجديدة. حدثني آدم فتحي قال: حين كنت مستشارا لمدير الاذاعة منصور مهني حاولنا أن ننقذ الأرشيف.. فذهبت الى مقر الأرشيف فما هالني الا وروايات الدوعاجي مفروشة على الأرض في حالة يرثى لها…الخ

وهذا الكلام على قصره وعفويته يختزل ثلاث حقائق من الحيف ألا تُذكر في باب الإنصاف وردّ الفضل إلى أهله. سيما وأن المتلفظ شخص أقدّر له اهتمامه العجيب بالذاكرة فهو صاحب أكبر موقع الكتروني لتجميع تراث الفن الملتزم وخصوصا أعمال الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وهو مغرم بذلك حدّ الهوس مما يقيم الدليل على أن العناية بالأرشيف هواية قبل أن يكون وظيفة ومحبة قبل أن يكون عبئا من الأعباء. (مواصلة القراءة…)


بما غُـــفِر لك؟

freedom-of-expression-1rubdo1خلال السنة التي سبقت رحيله والتي اصطلح على تسميتها بالسنة الدولية للشباب قرر بن علي  بطريقته الخاصة “إضفاء المزيد من الديمقراطية على المشهد السياسي والإعلامي”، وأعطى الإذن بإجراء حوارات مباشرة مع الوزراء يحضرها ويشارك فيها المواطنون.

عند التنفيذ تحولت الفكرة إلى واحدة من أقوى المسرحيات الكوميدية التي يمكن أن يشاهدها المرء إطلاقا، مواطنون مسيّسون حدّ النخاع متنكرون في أثواب الناس البسطاء في قاعة مسرح يتصدّرها الوزير وأعضاده وأسئلة معدّة سلفا في مطبخ التلفزيون. وبعد الحلقة الأولى مباشرة أدرك الجميع أن لا منفعة تُرجى من ذلك، وأن دار لقمان باقية على حالها.

الأهمّ من هذا، كيف تفاعلت الصحافة المحلية مع هذه المسرحية الكوميدية؟ (مواصلة القراءة…)


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress