سميح القاسم ومحمود درويش

سميح القاسم ومحمود درويش

كانت أول مواجهة ميكروفونية لي مع الرائعين محمود درويش وسميح القاسم في كواليس المسرح البلدي بتونس العاصمة صائفة 1994، كانت ليلة الوداع التي توجت رمزيا إقامة فلسطينية في تونس دامت اثنتي عشرة سنة وامتزج فيها دم الشعبين، في تلك الليلة أطلق درويش جملته التي صارت فيما بعد دعاية فولكلورية: كيف نشفى من حب تونس؟ وبكى وهو يوصينا خيرا بالشهداء الذين لن يعودوا إلى ما تبقى من أرض فلسطين.
كان محمود درويش يلتهم الأضواء من كل المحيطين به ويختزل الشعر الفلسطيني كله ولم يكن ذلك ليثير حفيظة أحد، لا سميح القاسم صاحب القصيدة الشهيرة: “تقدموا تقدموا كل سماء فوقكم جهنم وكل أرض تحتكم جهنم تقدموا…”، ولا أحمد دحبور صاحب القصيدة الزجلية الرائعة: “يما مويل الهوى يما مويلية ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّ” كنا نعرف القصائد والأغاني ولا نعرف أسماء الشعراء فقد كان درويش هو فلسطين. وكثير من القراء اهتدوا إلى سميح القاسم من خلال الرسائل الشهيرة المتبادلة بينهما، ولم يكن ثمة أفضل من سميح القاسم لاستقبال رفات درويش في رام الله عندما عاد من رحلته الأخيرة إلى قطعة من أرض الوطن.
في تلك الليلة سهرت مع بعض الأصدقاء حتى الفجر في أحد مقاهي باب سويقة أنتظر تحرك سيارات الأجرة الأولى في اتجاه المنستير، وقدمنا مقتطفات من الحوار مع الشاعرين في نشرة السابعة والنصف صباحا للأنباء تمهيدا لعرض السهرة كاملة في السهرة الأسبوعية “قمر لكل الليالي”، في تلك الأيام كان لقاء إذاعي مع شاعر يستحق البث في نشرة إخبارية رئيسية وكانت تحدث مفاجآت جميلة لبعض زملائنا كأن ينزل ياسر عرفات دون إعلام مسبق ضيفا على سهرة إذاعية تحيي ذكرى الشاعر معين بسيسو! يا لتلك الأيام!!

توفيق زياد يقرأ أمام سميح القاسم ومحمود درويش

توفيق زياد يقرأ أمام سميح القاسم ومحمود درويش

ظلت تلك السهرة عالقة بالبال، وكلما رأيت في التلفزيون مقتطفات منها رأيت آلة التسجيل التي غامرت بوضعها على المنصة دقائق بعد انطلاق الحفل، وقد ظللت واقفا وراء الستار طيلة السهرة على أهبة التدخل لقلب الشريط حتى لا تفوتنا جملة أو استعارة وقد أسعفني ذلك الموقع في الوصول إلى الشاعرين أولا وهما يغادران خشبة المسرح. وقد كتبت من وحي تلك السهرة نصا بعنوان “المشهد الخلفي لما حدث” نشره الدكتور سهيل ادريس في مجلة الآداب قبل أن يظهر لاحقا في مجموعتي الأولى: “غابة تتذكر أحزانها”، ولم يخف محمود درويش إعجابه بذلك النص عندما أطلعه عليه أولاد أحمد بعد سنتين في قفصة وقد تقدمت إليه على وجل ليضع إمضاءه في نسختي من مجموعته: “لماذا تركت الحصان وحيدا؟” .في ذلك النص خاطبت الشاعرين معا بوصفهما ضمير فلسطين في لحظة فارقة اختار فيها السياسي جزءا من الحل بينما ظلت المشاعر تحلم بالعودة الكاملة.

  [“audioplayer file=”http://www.opinionslibres.net/audio/darwich.mp3]

نتوّج هذا الوداعَ بنرجستينْ
نُدافعُ عن حقّ سنبلةٍ في شعاعٍ من الحلمِ
عن حقّ أغنية الرّوح في الشفتين ْ
نودّعُ …
هل كنتما تدريان بأن المسافةَ أضيقُ من دمعةٍ ؟
هل تأمّلتما جيّدا مشهد الأرض في آخرِ الحلُم الأمَريكيّ ؟
هل كنتما وطنا يتوزّع بين نشيدينِ
أم كانت الكلمات اعتذارَا
وكان الزمانُ الأخيُر غبارَا…؟
نودّع…
حين نمدّ اليدين وتطلق أمّ الشهيد الزغاريدَ في التلفزيون من حقّ كلّ اليتامى الذين يرون على شاشة الحلم آباءهم عائدين من الموت أن يسألوا :
هل نصافحُ أعداءنا نحن أيضا ونمضي سويّا إلى المدرسة ؟
هل نغادر هذا الهديل الذي تركته الحماماتُ فوق سطوح معاركنا ونعودُ لجغرافيا الزمن العربي الجديد
حفاةً…
عراةً…
بلا أسئلة…؟
نودّع…
عمّان بيروت تونس
أسماء تغريبة الدّم عن جرحه الأوّلِ
مرايا لتهذيب آرائهم في معارك طلاّبنا
(تتصادم فيها القذائفُ والأيديولوجيا)
سماءٌ مقاهٍ شوارعُ
تكفي لإقناع عصفورةٍ من فلسطينَ
أنّ الشّتاتَ شتاتٌ
وأنّ الطريقَ إلى القدس يبدأ من ثلج أوسلو
نودّع…
هذا حزيرانُ
يأتي كعادته مُثخنًا بالنّبوءاتِ
ما أروعَ الشعراءْ
حين يرتجلونَ المراثيَ في دمعةٍ
آهِ قرطبةٌ
لم نعدْ مثلما ينبغي أن نكونْ
كي نغنــــي
—————————————————————————————
للاستماع إلى الحلقة