مقالات رأي

مولوتــــوف

 مطلع تسعينات القرن الماضي كنت أدرّس العربية لتلاميذ الباكالوريا في إحدى قرى السّاحل، وكان من تقاليد المنهج الدراسي أن نُحدّد بدءا وإجمالا مراحل تطوّر الحركة العقلية عند العرب قبل شرح النصوص الأدبية وتحليلها مستأنسين بما جاء في كتب أحمد أمين لأنها تفي بالحاجة.

مولوتوف

مولوتوف

لكنني فوجئت يوما بأحد التلاميذ يقول: “لقد عرّفتَ الجاهلية بأنها مرحلة ما قبل ظهور الإسلام وهذا غير صحيح، فالجاهلية هي كلُّ حكمٍ لا يعمل بما أنزل الله”. فأجبته بأنّ ما يقوله يخرج عن نطاق الدرس لأنه ضرب من التوصيف الإيديولوجي بينما نحن بصدد مقاربة تاريخية بغاية وضع النصوص في سياقها، وأنه بصرف النّظر عن التّاريخ والإيديولوجيا لا يمكن أخلاقيا تقديم الرأي المخالف بنفي الغير ونسبته إلى الجهل، وطلبت منه أن يغادر الدّرس إذا كان يعتقد حقّا أنّ ما أقوله غير صحيح، فما كان منه الاّ أن غادر القاعة، ولا أذكر أنني رأيته بعدها كثيرا إلى أن وقعت حادثة المولوتوف، فلاذ بالفرار إلى وجهة غير معلومة واختفى عن الأنظار إلى الأبد.

كانت تلك أول مواجهة مع جيل آخر من المنتسبين إلى الحركة الإسلامية، جيل التلاميذ، فطيلة أعوام الجامعة كانت القوى متكافئة نسبيا في ساحات الكلية وأروقتها، وكان العنف الثوري قاسما مشتركا بين كل الفصائل، سواء أرفعت صور تشي غيفارا أم ردّدت أناشيد الإخوان، فقد وحّدتهم المواجهةُ الحاسمة مع السّلطة وآلة القمع الجهنمية، وكان للإسلاميين دور مهم طيلة سنة 1987 في تحريك الشارع والخروج بالمظاهرات من بين أسوار الكليات من أجل كسر الحصار المفروض على الحرم الجامعي ونقل مظاهر الاحتجاج إلى العاصمة ومحيطها الشعبي، وقد كانوا هم الأقدر على ذلك بفضل امتدادهم التنظيمي في المجتمع وتغلغلهم في أبعد خلاياه خلافا لبقية التنظيمات.

مضت على تلك الأيام سنوات قليلة تغيّر فيها الوضع من حال إلى حال، شهدت البلاد انفراجا نسبيا بعد رحيل بورقيبة إلى منفاه، فخرج قادة الاتجاه الإسلامي من السّجون ليوقّعوا على ميثاق وطني يتعهّد فيه الجميع بإدارة الاختلاف بعيدا عن منطق العنف والإقصاء، وغيّر الاتّجاه الإسلامي اسمه استعدادا للمشاركة في الحياة السياسية بعد أن أعلن زعيمه التاريخي راشد الغنوشي ثقته في الله أولا وفي بن علي ثانيا، ثم سرعان ما أطلّ غول العنف من جديد بعد أن تعطّلت الزيجة السّعيدة بين الرجلين، وعادت زجاجات المولوتوف الحارقة إلى الشارع تستهدف مقرّات الحكومة والتّجمع إلى أن وقعت حادثة باب سويقة الشهيرة. عاشت البلاد آنذاك حالة من الانفلات الأمني تحوّلت معها شُعبُ التّجمع إلى لجان يقظة تؤمن دوريات ليلية ونهارية في الأحياء والشوارع وترفع تقاريرها إلى من يهمّه الأمر، وكانت تلك هي اللبنة الأولى في صرح الدولة البوليسية التي ستحكم عشرين عاما بقبضة من حديد.

يصعب علينا اليوم أن نُصدّق أن كل ذلك محض افتراء وأن كل ذلك العنف كان مفبركا لتشويه الإسلاميين فليس من سمع كمن رأى. كنا يومها في قاعة الأساتذة، في الاستراحة الصباحية الأولى التي تتوزع دقائقها بين دخان السجائر وأنفاس القهوة السوداء وبياض الطبشور والثرثرة، عندما هجم تلميذان من أكثر تلاميذنا انضباطا على القاعة بزجاجات حارقة كانا يخفيانها في مكان ما في السّاحة استعدادا للّحظة الصّفر. انفجاراتٌ قويّةٌ وسقوطُ جدارٍ فذعرٌ واختناقٌ وإغماءٌ وتدافعٌ إلى النافذة الوحيدة المفتوحة على كلّ الاحتمالات للإفلات من الجحيم، لم نكن مهيئين لهذه التجربة، فهذا لا يحدث الا للآخرين، ولم نكن ندرك في تلك اللحظات المرتبكة التي واجهنا فيها الرّعب بكل تفاصيله أن بعض تلاميذنا قد استهدفونا بعمل إرهابي. كلّ ما عرفناه لاحقا أن الخليّة النّائمة التي قامت بالعملية ألقي القبض على بعض عناصرها فيما تمكن آخرون من مغادرة البلاد، بل وقيل إن قائدها ذاك الذي خرج من درس العربية احتجاجا على التعريف الاصطلاحي لكلمة “الجاهلية” أصبح أميرا للجماعة في دولة أوروبية، ولم نكن نميّز الحقيقة من البهتان فيما يصلنا من أخبار “سنوات الجمر”، لكنّ الثّابت في كلّ هذا أن شبّانا في عمُر غضّ يانع قد غُسِلت أدمغتُهم جيّدا وأصبحوا آلاتٍ يُتحكم فيها عن بُعد للقيام بأكثر الأعمال شراسةً رغم الهدوء والانضباط والتربية والأخلاق والوجه الضّحوك.

سمير ديلو
سمير ديلو

لقد تذكّرت كل هذا وأنا أستمع إلى القيادي النهضوي “سمير ديلو” يرغي ويزبد في إذاعة موزاييك ردّا على نائبة النداء “هالة عمران” التي طلبتْ منه ألا يكون خصما وحكما في الآن ذاته وأن يتريّث حتى تبُتَّ هيئةُ الحقيقة والكرامة فيما إذا كان “محرز بودقّة” المتّهمُ بتنفيذ انفجارات سوسة والمنستير صائفة 87 بريئا، فأجابها موازيا بين الضّحية والجلاّد في قوله: هل يتعيّن أيضا نزعُ صفة الشّهيد عن “شكري بلعيد” إلى أن تحكم المحكمة في قضيته (هكذا!)، ديلو أصرّ على استخدام لفظ “المرحوم الشهيد” في حديثه عمّن يعتبره التونسيون إرهابيا –إلى أن يأتي ما يخالف ذلك – مستخدما استراتيجية “هذا غير صحيح”، لاعتبار العملية منسوبة زورا إلى الاتجاه الإسلامي رغم أن ضلوعه في هذا الأمر محسوم.

واضح إذن أن حركة النهضة رغم إعلانها التحوّل التاريخي إلى حزب سياسي مدني غير قادرة على التخلّص من جلبابها الإخواني، ويستعصي عليها مواجهة الماضي بشجاعة الرّجال من أجل الحاضر والمستقبل، فهي تستغلّ حالة الغيبوبة الجماعية والتصحّر المعرفي السّائدة للإمعان في قلب الحقائق وتسويق نظرتها هي إلى التّاريخ، أحرى بالنهضة في هذه المناسبة أن تعتذر لضحاياها من داخل منظومتها الفكرية أولا، أولئك الشبان الذين زجّت بهم في أتون “الجهاد” فرفعوا السّلاح في وجه المجتمع وهم جزء منه، أولئك الذين بَرمجت أمخاخَهم للعصيان فصاروا وقودا في معركة كان من السّهل اجتنابُها، أولئك الذين ابتلعتهم غياهب السّجون والبطالة والفقر دفاعا عن فكرة “تطبيق الشريعة” التي رأت الحركة اليوم وهي تتشعبط في جدار السلطة أنها لم تعد مناسبة للوضع الجديد، بكلّ بساطة كان أحرى بالنهضة أن تعتذر من “محرز بودقّة” بدل أن تزجّ باسمه في معركة أخرى لا طائل من ورائها وتمعنَ في الهروب إلى الأمام.


الباتيندة

الباجي قايد السبسييخلص فقيد الصحافة العربية قصي صالح درويش في كتابه “يحدث في تونس” إلى استشراف مستقبل الأحداث بعد تفاقم أزمة الخلافة سنة 87، فيصنّف المرشحين للفوز بعرش بورقيبة إلى مجموعات، ثم ينتهي إلى القول بأن مجموعة “زين العابدين بن علي والهادي البكوش” هي الأقدر على الإطاحة بالرئيس العجوز بإثبات عجزه عن ممارسة وظائف الرئاسة وتطبيق الفصل 57 من الدستور!!!!

نُشر الكتاب ومنع من التداول في تونس وقد أثبت فيه صاحبه أنّ دلائل عجز بورقيبة عن ممارسة وظائفه السّامية تعود إلى سنة 1973 عندما أقدم في خطوة مُحيّرة على إبرام اتفاقية وحدة مع العقيد معمر القذافي وهو الذي يعارض دائما توجهات جيرانه الوحدوية بشكل استعراضي مرتكزا أساسا إلى عدم نضج أسبابها، وبدا تراجعه عن الإيفاء بالتزامات جربة تلعثما سياسيا مُهينا لمكانة الزعيم التاريخية وبُعدِ نظره الاستراتيجي، لكن لم يكن ممكنا للهادي نويرة أو لمحمد مزالي طيلة سنوات الهبوطِ إلى الجحيم استصدارُ شهادة طبية لإقالة الزعيم من مهامّه بوصفه “صاحب الباتيندة” في دولة الاستقلال لا في الحزب الاشتراكي الدستوري فقط .

وفعلها زين العابدين بن علي!
لكنه ولأسباب تتعلق بالباتيندة وبعقلية القطيع قدّم للجميع تبريرا عاطفيا لما حصل، فهو “قد أنقذ بورقيبة من بورقيبة”، وشكّل هذا التبرير قاعدة دعائية استراتيجية “للعهد الجديد”، فزعموا أنه يقوم على التواصل والاستمرارية لا مع البورقيبية فحسب مع بل مع كل رواد الإصلاح بدءا من خير الدين!! وهكذا صدّق الشعب الذي بلغ ساعتئذ من الوعي والنضج “ما يسمح لكـلّ أبنائـه وفئاتـه بالمشاركة البنّاءة في تصـريف شؤونه” بوعي قطيعي أن الباتيندة لم تخرج من بيت الحزب الاشتراكي الدستوري وأن ما حدث لا يعدو أن يكون عملية ترميم وإعادة طلاء للجدران والأبواب والسقوف، وقد فتحت أثناء هذا الترميم نوافذ للتهوئة تسلّل منها معارضون قدامى ونقابيون ويساريون إلى سدّة الحكم وظلّوا هناك حتى النهاية. وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاما لم يتمرّد أحد من داخل البيت على صاحب الباتيندة الجديد رغم الفساد وإرادة التوريث ونكث العهود إلى أن وقعت الثورة وحصل الذي حصل.

rached-ghannouchi1لا غرابة إذن في ظلّ هذه العقلية التونسية الفريدة، أن يُنظّر “مناضلو نداء تونس” للتوافق فهو الطريقة الوحيدة لحماية صاحب الباتيندة وأبنائه وأحفاده من خطر الانتخابات “عافانا وعافاكم الله” ومن إمكانية أن تنتقل الزعامة من المؤسس إلى شخص آخر تتجه إليه إرادة الناخبين “لا قدّر الله”. لم يخرج أحد على سلطة بورقيبة رغم عجزه، ولم يتمرّد أحدٌ على بنْ عَلي رغم فساده، ولن يقول أحد: “لا” للباجي قايد السبسي رغم ما يرتكبه من أخطاء في حق نفسه أولا والحزب الذي قاده إلى الرئاسة ثانيا. لا يقول أحد: لا في وجه الزعيم المؤسس القائد الملهم البطل المنقذ الواحد الأحد!، ولا يختلف في ذلك دستوري عن نهضوي، فهؤلاء أيضا لا يستطيعون الخروج من جلباب راشد الغنوشي مهما كان حجم التنازلات الموجعة والمهينة التي أضحت الحركةُ تقدمها من أجل البقاء، ومهما كانت الصورة الكاريكاتورية التي أصبحت عليها بسبب مفارقات الحكم وإكراهات البراغماتية. الحركة تغيّر مواقفها دون مراجعات علنية واضحة، والصقور الذين كانوا يهدّدون بالسّحل وقطع الأيدي والأرجل لا يستقيلون لعدم انسجام مواقف الحركة الجديدة مع ما يؤمنون به وما قضوا في سبيله أحلى سنوات العمر وراء القضبان، لا يحتجون لا يعلنون صراحة تخليهم عن ثوبهم الإيديولوجي القديم، كل ما في الأمر أن الحركة تتقدّم دائما إلى الجمهور في شكل كتلة واحدة مبهمة، تحتوي صراعاتها في داخل الداخل وتأتمر بأوامر الشيخ الذي يعلو ولا يُعلى عليه!

الوعي القطيعي في تونس وعقلية الباتيندة ليستا حكرا على حزب دون آخر بل ثقافة أصيلة متجذرة ومقاومة لا واعية ومتوارثة للفعل الديمقراطي الذي يُعلي مكانة المؤسسة على الأفراد ويفرض التداول الانتخابي على القيادة، يتشابه في ذلك أكبر حزبين في تونس كما يتشابه الجناحان حقا!


الفزّاعة

 

salfia-bezerrفي إحدى خطب الجمعة بمسجد من المساجد التي خرجت عن سيطرة الدولة، تناول الإمام أوضاع البلاد وأرجع كل ما يعكر صفو النظام إلى رغبة العلمانيين في السيطرة مجددا على الحكم وإعادة الأمر إلى ما كان عليه في عهد المخلوع، فهم حسب قوله لا يقبلون بوجود الإسلاميين في مواقع أخرى غير السجون، ولا ينظرون بعين الرضى إلى تقوى الشباب لأنها لا تنسجم وأفكار الغرب الكافر، إنهم أعداء الإسلام!

في ظل هذه الفكرة التي تنظر إلى الأشياء من زاوية واحدة وبمنطق دغمائي لا يجد خطيب الجمعة هذا حرجا في أن يفسر الوقائع للمصلين من وجهة نظره هو، فأحداث العنف كلها من باب سويقة إلى سليمان والروحية وبئر علي بن خليفة وكلية الآداب والسفارة الأمريكية…، مفتعلة مبالغ فيها منسوبة زورا وبهتانا إلى المتدينين بغاية إظهارهم بشكل مرعب يهدّد أمن المواطن وسلامته الشخصية!، ولا يتوقف الرجل عند حدود البلاد التونسية بل يتعداها إلى الجزائر، فالعشرية السوداء التي تستعمل اليوم للتخويف من الإسلاميين هي أيضا فزاعة ظالمة، وآلاف القتلى الذين عثر عليهم مذبوحين كانوا على حدّ قوله ضحايا الجيش اغتالهم ونسب الأمر إلى أعدائه!.

يلخص هذا الإمام استراتيجيا الخطاب لدى كثير من المتكلمين باسم الإسلام، فهم يقدمون خطابا تبسيطيا يفسر التاريخ بنظرية المؤامرة، وهو خطاب المسلمات يتداخل فيه بإحكام ما قاله الله الحي القيوم وما قاله إمام الثالثة من التعليم الثانوي، فيقضي نهائيا على كل رغبة في التفكير وكل نزعة إلى التساؤل خصوصا لدى فئة من الناس ليس لديها بحكم عوامل موضوعية أخرى أي استعداد للاختلاف، وهو خطاب انتقائي يختار من الحوادث ما يلائم رغبته وقدرته معا في تسطيح الأذهان، فمن السهل إرجاع الإرهاب إلى الاستخبارات ومن الصعب إيجاد مبرر واحد لدفن ابن جرير الطبري في بيته!. هذا الخطاب التعبوي الذي يهدف إلى تعميم عقدة الشعور بالاضطهاد، بنيته نمطية بسيطة تقوم على الصراع بين الخير والشر دون تعديلات يفرضها السياق فالإسلاميون في هذا الخطاب مضطهدون حتى وهم على رأس السلطة!، وهو خطاب مظلل يستغل السياق ليوحي بأنه الحقيقة المطلقة مما يجعل كثيرا من المتدينين وخصوصا الجدد منهم والبسطاء لا يستندون في مواقفهم وآرائهم إلى قراءات وتحاليل شخصية إنما يستأنسون الكفاية في ما يحصلون عليه من خطب المساجد ودروسها، تلك التي تعدّهم إلى “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”، وتؤهلهم إلى “جادلهم بالتي هي أحسن”، دون حاجة إلى الغوص في بطون المجلدات والكتب.

وليس غريبا أن تكون بعض خطب الجمعة على هذه الشاكلة ولكن الغريب أن ينتشر هذا التفكير خارج المساجد ويتوزع في الفضاءات العامة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، فالتعاطف الشعبي الواسع مع ضحايا انفجارات الشعانبي حرك من جديد آلة الخطاب التعبوي القائمة على عقدة الاضطهاد، وصرت تقرأ هنا وهناك مواقف غريبة تبدأ من مجرد التشكيك في الرواية الرسمية لتصل في النهاية إلى تكذيبها تماما. هذه المواقف تختلق سيناريوهات لا يقبلها المنطق السليم لمخالفتها السياق الطبيعي، فمن الصعب عزل أحداث الشعانبي عن الحرب في مالي أو الاعتداء على منشأة غاز في الجزائر أو الجهاد في سوريا أو تفجير مسجد شيعي في باكستان لأن العقيدة التي تحرك هذه الأحداث واحدة وليس ثمة موضوعيا ما يبرر استثناء الوضع التونسي. لكن الآلة تتحرك وفق إيقاع مضبوط، ففي الوقت الذي اضطرت فيه السلطة الحاكمة بفعل الصدمة الشعبية إلى تغيير موقفها من السلفيين انطلقت حركة التشكيك! تماما كما حدث في اغتيال شكري بلعيد عندما غير رئيس الحكومة موقفه نزولا عند ضغط الصدمة الشعبية فانطلقت روايات مشككة يذهب بعضها إلى القول بأن الاغتيال لم يقع أصلا!!

ولئن كان البعض يرى أن هذا الخطاب هو نتيجة منطقية لحالة الانفلات في بعض المساجد وفضاءات التواصل الالكتروني حيث يمكن تفسير الأشياء من غير التقيد بضوابط، فإنه من الجائز أيضا الانتباه إلى أن التشكيك بجرة قلم في كل الحقائق وإن كانت دامغة يهدف إلى زعزعة كل مظاهر الوحدة الوطنية التي يسترجعها الناس في لحظات الحزن والصدمة والخوف، كما أن انخراط بعض المؤسسات الإعلامية حديثة النشأة في تعميم خطاب الشك هذا يجعل الأمر أعقد من أن يكون مجرد انفلات خارج عن السيطرة.


الياطر

 

2012133037000000عندما علمت من الصديق مختار الفجاري المقيم منذ سنوات طويلة بالمملكة العربية السعودية نبأ وفاة رشيد الغزي أستاذنا في كلية الآداب بمنوبة استيقظت في ذاكرتي صور خلت أن النسيان قد التهمها فإذا هي  نابضة بالحياة ناصعة بالألوان كأن لم يتراكم عليها غبار الزمن، وفي مساء ذات اليوم حينما اتصل بي الصديقان شهاب بوهاني وعبد العزيز الجلاصي من سلطنة عمان حيث يقيمان كنت جالسا في مقرّ البريد المركزي بالدوحة أمضغ الوقت في انتظار طرد بريدي قادم من مكان ما في هذا العالم الصغير، فتركت دوري لمن جاء بعدي كي ألتقط خارج القاعة بوضوح أوضح صوت صديقين لم تسعفنا صدف الحياة للّقاء دقائقَ منذ عشرين عاما أو أكثر، تلك المكالمة سحبتني من يدي وأعادتني إلى أيّام الشّباب الأولى، كأنني أدخل غرفة مصعد حديدي بارد ليهبط بي ثلاثين عاما بينما في المرآة صور شاحبة لوجوه وحكايات وأيام لا يستطيع النسيان إخمادها، وكان لزاما عليّ أن أنعى لصديقيّ أستاذنا المشترك رشيد الغزي فاغرورقت أثناء الكلام أصواتنا معا.

هكذا نحن أبناء منوبة طلبة كلية الآداب، لك مطلقُ الحرية في أن تقول عنّا ما تشاء، لكن لن تُنكر علينا وفاءنا لبعضنا البعض والرّابطة العميقة التي تشدّنا إلى ذلك المكان الذي جمعنا منتصف ثمانينات القرن الماضي مهما تناءى بنا المكان فهناك لم نتعلم اللّغة والأدب والعروض والبلاغة فحسب بل تعلمنا الحياة.

كلية منوبة في ذلك الوقت، كانت نوّارة الجامعة التونسية، الطلبة الوافدون من كل الأنحاء ضاق بهم المبنى التاريخي للجامعة وللكلية في شارع 9 أفريل، فكان الانتقال من صخب المدينة إلى هدأة الحقول، من ضجيج الحانات والمقاهي إلى طراوة العشب وعذوبة الندى، كانت أجمل أوقات الكلية تلك التي نقضيها في الساحات المفتوحة والشوارع الخلفية والقاعات الفارغة، أما الدروس فقد كانت أشبه بحلقات التعليم الزيتوني  حيث يرتبط كل شيخ بدرس في الفقه أو النحو أو الحديث، فلم يكن الانتسابُ إلى هذا الصفّ أو ذاك له معنى، إذ يمكن للطالب أن يختار الدّرس الذي يشاء وكانت مناهجُ الكلّية يومئذ تسمح بذلك وتمنح الطالب حرية كبيرة في البحث والتكوين الذاتي، كان تحليل قصيدة خليل حاوي “البحار والدرويش” مرتبطا بكمال عمران، وكان درس الرومنسية العربية أجمل ما يكون مع محمد لطفي اليوسفي، ولا غنى عن محمد صالح المراكشي في دراسة رشيد رضا كما لا غنى عن محمد الهادي الطرابلسي في فهم المنهج الأسلوبي، وهكذا دواليك، وكنا نعرف بمكر الشباب وذكائه الوقّاد أن بعض هؤلاء الذين ذكرت لا يمكن أن تنتفع منهم كثيرا خارج الدرس الذي ارتبطوا به وهو عادة موضوع الدكتوراه التي اشتغلوا عليها سنوات طويلة والبعض الآخر يمكنك أن تتعلّم منه كلّ شيء بلا استثناء.

وسط هذه السمفونية، ارتبط رشيد الغزي برواية “الياطر” لحنا مينة وكانت العبارة تسري في أروقة الكلية سريان الماء في الأرض اليباب فتحييها، “الياطر في السنة الثانية، لن تفهمها إلا مع الغزي”، وكان ذلك كذلك، تمتلئ القاعة حتى تفيض والعيون جميعا معلقة على زكريا المرسنلي وهو يقول: “لست راضيا عما حدث”، وبينما يذهب كل الشرّاح والمحللين إلى تفسير هندسة الرواية وبراعة حنا مينة في كسر تسلسل السرد الخطي والقفز على الأزمنة، يتنفس رشيد الغزي عميقا وهو ينظر إلى الحقول الخضراء الفسيحة خارج نافذة المبنى، ويسأل: من منكم يحبّ الصيد، من منكم يحبّ البحر؟، تملأ الدهشة أفق المكان فيقول بثقة كبيرة: لن تفهموا الياطر مالم تحبوا البحر؟.

كان غامضا بعض الشيء قليل الكلام والظهور، فلم نكن نعرف عنه غير أنه من “حمام الأغزاز” وأنه يحبّ البحر كثيرا وينتظر بفارغ الصبر نهاية الأسبوع ليغادر العاصمة في اتجاه قريته البحرية الفاتنة، ومنذ تلك اللحظات سترتدي صورة زكريا المرسنلي في مخيلتي وجه رشيد الغزي وسيأخذ صوته نبرات صوت الأستاذ الخافتة، وكان ذلك من أجمل دروس الرواية أن تبدأ أولا بهدم الجدار الوهمي المصطنع بين الأدب والحياة بين الخيال والحقيقة فتعيش النص بينما أنت تقرأه.

في أحد امتحانات مادّة اللغة، طلب منا الأستاذ رشيد الغزي أن نحلّل آية من آيات القرآن الكريم، فاستعصت على الجميع واتجه الطلبة إلى غيره من الأساتذة بعد الفراغ من الامتحان لسؤالهم عن هذه الآية العصية على التحليل، واختلفت الآراء حتى وصل الأمر إلى صاحب الامتحان ذاته في قاعة الأساتذة وجرّب بنفسه تحليل الآية فاستعصت عليه، فما كان منه الا أن حذف السؤال وأعلمنا بأن تلك الآية مختلف في تحليلها وأنه لم ينتبه إلى ذلك عند وضعها في الامتحان، وكان ذلك هو الدرس الثاني الكبير الذي تعلمناه منه: تواضع العلماء.

رحم الله أستاذنا الكبير رشيد الغزي ورزق أهله جميل الصبر.


بين مطرقة النهضة وسندان النّداء

 

                   السبسي والغنشيفي السنوات الأخيرة من حكم بن علي، تفاقمت الخلافات داخل التجمّع بشكل لم يعد يخفى على الأنظار، وأثناء الانتخابات البلدية 2010 بلغ الاحتقان في بعض الولايات حدّ استخدام العنف تعبيرا عن عدم رضا شقّ من القواعد على اختيارات القيادة المركزية وترشيحاتها.

في ذات الفترة وبمناسبة تجديد الشعب الدستورية حدّثنا تجمّعي ضليع في الشأن الحزبي القاعدي بكثير من المرح عن عملية تجديد مكتب الشعبة في منطقته التي تعدّ واحدة من أفخم المناطق بالمدينة، فروى لنا كيف كان المترشّحون في الانتخابات منقسمين إلى شِقّين وكيف انتدب كل شِقّ يوم المؤتمر مجموعة من “الخلائق” من ذوي العضلات المفتولة للحضور أمام مقرّ الشعبة حيث يشرف أحد أعضاء الحكومة على الاجتماع، وكيف أن هذه الخلائق تمت دعوتها من الجانبين إلى فطور صباحيّ فاخر في نزل واحد كان على ملك أحد المترشحين، وكيف كان هؤلاء الفُتوّات المنتدبون في غاية الانسجام خلال السّاعات التي سبقت انطلاق مهمتهم الرسمية، فهم محترفون وبحكم تبادل الأدوار والمواقع قد يجد أيّ واحد منهم نفسه في مواجهة زميله بعد أن كانا معا في مهمة سابقة. وإجابة عن سؤال يبدو ساذجا في إبّانه عن الجدوى من توظيف هؤلاء الخلائق وتنصيبهم أمام مقرّ الاجتماع طالما أنْ لن تكون هناك معركة حقيقية في الأفق أجاب محدّثنا بأنّ ذلك كان بغاية تنفير الناس النظاف من الاقتراب من مقرّ الاجتماع ومجرّد التفكير في حضوره حتى لا تتلخبط أوراقُ المشاركين في الانتخابات المعروفة نتائجُها سلفا، وختم صاحبنا حديثه بالقول: إنّ المضحك في الأمر أن الجماعة قد صرفوا يومها على “لجنة التنظيم” هذه ما يقارب الألفي دينار بينما كانت موازنة الشعبة تشكو عجزا يقدر بثلاثمائة دينار فقط، وقد تبرّع الوزير المشرف على الاجتماع بهذا المبلغ من ماله الخاص تقديرا لوطنية المنتسبين إلى هذه الشعبة وتثمينا لتضحياتهم الجسام في سبيل الصالح العام!.

أبطال هذه المسرحية الواقعية لم ينسحبوا من المشهد بعد سقوط النظام بل توزعوا على عدة أحزاب وأصبح جزء كبير منهم من “مناضلي نداء تونس”، وظلّوا يمارسون السياسة بالعضلات المفتولة في ضوء التفكّك العلائقي المزمن بين مكوّنات البيت الواحد كما كان الشأن دائما،  فالتجمع الدستوري الديمقراطي لم يكن عند تكوّنه في 1988 حزبا عقائديا بالمعنى الإيديولوجي الذي تقوم عليه الأحزاب، كلّ ما في الأمر أن الجنرال عندما أزاح بورقيبة سحب البساط من تحت أقدام الدساترة الذين حكموا البلاد بمقتضى شرعية حركة التحرير الوطني وبناء الدولة الحديثة ثلاثين عاما، وكان على هؤلاء أن يصطفّوا وراءه تحت مظلّة شرعيّة الإنقاذ إذ كانوا أعرف الناس بأنهم لا يمكنهم الوقوف في وجه التيّار، والحقّ أن ذلك لم يكن ليزعجهم، ففي أقلّ من أربع وعشرين ساعة تغيّرت الهتافات من الدّعاء للمجاهد الأكبر بدوام الصّحة والبقاء قرونا على عرش الجمهورية  إلى التهليل بما أقدم عليه وزيره الأول بينما كانوا يغُطّون في نوم عميق، كان ذلك سهلا جدّا، بل كان ذلك أسهل شيء يمكن أن يقوموا به، لكنّ الرئيس الجديد كان يعمل على دمج مختلف ألوان الطيف السياسي تحت مظلة مشروعه الذي تضمنه بيان 7 نوفمبر والذي تحمّس له المعارضون أكثر من الموالين، وهو ما كان صعبا عليهم  استيعابه والترحيب به، كان اسم التّجمع جبّة فضفاضة تتسع للجميع وبدا منذ اللّحظات الأولى أن المراجعات الكبرى سيُعهد بها إلى أشخاص ينتمون فكريا إلى اليسار، وأن ما كان يطلق عليهم حينها “جيوب الرّدة” ستقتصر مهمتهم لفترة قد تطول على التصفيق والمساندة والهتاف وإرسال برقيات الدّعم وتشكيل لجان اليقظة الليلية وكتابة التقارير الأمنية لا غير، وبالعودة إلى صحافة تلك الأيّام يتّضح الشّرخ العميق بين توجهات الوافدين الجدد إلى السّلطة والمنتسبين القدامى الذين ورثهم بن علي عن سلفه، وكان إعلان الرئيس عن تشكيل الحكومة الجديدة قبل انعقاد “مؤتمر الإنقاذ” لا بعده مراوغة  لم تخطر على بال أحد للفصل بين الشأن التّجمعي والشأن الحكومي وتخليص المؤتمر من كل الضّغوط كما قالت الجرائد تعليقا على ذلك. وظلت قبضة الجنرال الحديدية ممسكة بخيوط لعبة التناقضات بمهارة شديدة طيلة عقدين من الزمن، فلم يكن الطّرفان ليجتمعان الاّ في مواجهة الخطر الأصولي، وكان الإسلاميون يعرفون أكثر من غيرهم أن الشقّ اليساري في الحكومة هو الأخطر والأشدّ مراسا لأنه يواجههم من منطلقات عقائدية، وأنه لولا ذلك لكان التّقارب ممكنا مع بن علي فقد قدّموا تنازلات كثيرة لم يقدّرها أحد حقّ قدرها منذ التّوقيع على الميثاق الوطني والتخلي عن الاسم التاريخي للحركة “الاتجاه الإسلامي” وتنويه بعضهم إلى أن تونس حققت نهضة اقتصادية واستقرارا اجتماعيا ملحوظا في التسعينات ولا يعيب نظام حكمها الا إقصاؤهم من المشاركة في الحياة السياسية والتنكيل بهم.

martgannouchi1وعندما أسّس الباجي قائد السبسي حركة نداء تونس بتجميع روافد مختلفة تحت مظلّة إنقاذ البلاد من الخطر الأصولي سارعت النهضة بنعته بالتجمّع، ولم يكن القصد من ذلك الإساءة للتجمعيين، فلا مشكلة لديهم من هذه الناحية، إذ كانوا أول من فتح لهم أبواب التّوبة على مصراعيها منذ 2011 واستفادوا كثيرا من مواهب المطبّلين منهم الذين لا يستغنى عنهم أيّ ماسك بزمام السلطة وإن تعفّف، وتخلّوا تحت إكراهات الانضباط الحزبي عن مطلب تحصين الثورة، بل مثّلت سنوات الترويكا العصر الذهبي للخلائق الذين وجدوا مسميات عديدة لتصريف طاقاتهم وتوزعوا بين حماية الثورة وتثبيت الإسلام ونصرة الشريعة.  لكن كانت عبارة التجمع في خطاباتهم تعبيرا عن التركيبة الهجينة التي تجمع اليساري بالدستوري، هذه الخلطة العجيبة هي أكثر ما يزعج الإسلاميين وهم يعتبرونها سبب محنتهم في عهد بن علي، ونكاد نجزم أن نقمتهم على محمد الشرفي الذي تُنسب إليه سياسة تجفيف المنابع هي أضعافُ نقمتِهم على بن علي ذاته، وكلما اتجه حزب النداء الآن إلى التطهّر من روافده اليسارية بعد أن وظّفها بنجاح في معركة الوصول إلى السّلطة اقتربت النهضة من النداء وتعانقا كمن يضع ساقا على ساق وهو جالس في المقهى.


الحياة من عالم الأموات

18323154أخيرا فرغتُ من رواية “المرحوم”، فقد استغرقت قراءتها وقتا طويلا رغم أن حجمها لا يتجاوز حجم الروايات المعتاد، لكنّ أمر القراءة لا يتعلّق بالحجم والوقت فحسب بل بالعلاقة التي تنشأ بين القارئ والكتاب، القراءةُ إقامة مؤقتة في عالم الرواية، وكثيرة هي الرّوايات التي يفرغ منها القارئُ بسرعة كبيرة فيغادرها بنفس السرعة، لكنّ رواية المرحوم للروائي المصري حسن كمال ليست من هذا الصنف قطعا.

رواية تطلّ على الحياة من مشرحة كليّة الطب، في ذلك المكان الموحش ترقد الجثث المحقونة بالفورمول، لكن المرحوم يحرّكها ويسامرها ويطهو لها الشاي ويدخّن معها، ومعه نكتشف أن لكلّ جثة اسما وحكاية ورسالة، والمرحوم  مُكلّف بهذه الرسائل وله القدرة على ارتداء الجثث للقيام بهذا التّكليف.

وفي الرواية نصّان، علامات يرويها المرحوم، ومذكرات يرويها محمود سلمان طالب الطبّ الذي التقى المرحوم عندما جاء إلى هذا المكان بحثا عن قصص ينشرها في مجلة الكلية. فينبني السرد على وجهتي نظر متلازمتين في خضم ثنائيات متعدّدة تحفل بها الرّواية وتكسر بواسطتها النظرة الأفقية الواحدة للعالم، هذه الازدواجية تجعلنا نتجوّل في عالم روائي تتداخل فيه الأشياء وتتهاوى الحدود بين الموت والحياة، والعقل والجنون، فقصّة المرحوم تهدم كل الفواصل وتزجّ بالقارئ في متاهة كبرى، من هو المرحوم؟ أهو عبد الحيّ أم سعيد؟ أم روح أخرى ترتدي جسد أحدهما؟ هل يكتب علاماته من عالم الأموات بعد أن تحرّرت روحه إلى الأبد؟ أم هو كائن موجود في مكان ما من هذا العالم؟ تنفتح العلامات بلقطة سينمائية تركّز على صورة الثلاجة مكتوب عليها : “هنا ترقد الأجساد التي ظلّت طريقها إلى باطن الأرض والأرواح التي ظلت طريقها إلى السماء، هؤلاء الذين حرموا من صفة الرحمة لا أحد يطلق عليهم المرحوم، أنا المرحوم الوحيد في هذا المكان”، وتنفتح مذكرات محمود سلمان بعبارة أناتولي فرانس : “ربما يكون الفضول هو أعظم فضائل البشر”، وبين الرّحمة التي يسعى إليها الأوّل والفضول الذي يحرك الثاني تتجوّل كاميرا حسن كمال وتلاحق كل الشخصيات التي تبدأ جثثا محنّطة في مشرحة الكلية لتنتهي قصّة في ذهن القارئ والتباسا بين الأشياء والمتناقضات، القصّة هي التي تنتصر في النهاية: “اختر الأسهل عليك، الأقرب إلى التصديق..لا يهم ما تراه أنت ولا ما أراه أنا ، المهم هو الموجود في هذه الحقيبة”. يشير بذلك إلى الحقيقة التي تظلّ أعلى من البشر والزمن والتي تجعل من “المرحوم” تجربة ذهنية محضا تقع في منطقة  التماسّ بين الواقع والخيال، هناك يتحوّل ذهان المرحوم الذي يعاينه محمود سلمان من موقع طالب الطبّ ضربا من الجنون الخلاّق والإرادة المتوثبة.

رواية المرحوم تستدرج القارئ بشراسة إلى ما يشبه النزال، فالإقامة في تلك المنطقة التي لا يريد الأحياء دخولها مسكونين بالرّعب تصبح تمرينا حقيقيا على معايشة الموت عبر التأمّل، ومثلما يحدث في أفلام الرعب يكفّ الحكي عن الإمتاع، ليفتك الكاتب بطمأنينة القارئ ويحرّره من مشاعر الخوف التي تسكن أعماقه، لكنك وقد استطعت الفراغ منها لن تنكر حتما متانة البنيان الروائي فيها وقوّة اللّغة، وعمق الرؤيا، ولعلّ أوراق الضابط أشرف البشلاوي المضمنة في العلامة الثامنة عشرة قد ارتفعت بك إلى الذّرى وهي تنقل بصوت الاعتراف كوميدياء سوداء تحرّكها أصابع السّلطة في كلّ زمان ومكان كالخناجر في  أجساد المسحوقين من طلاّب الحرية، تلك الصّفحات لعلّها أن تكون من أقوى ما كُتب عن أمن الدولة والثَّورات في مُدوّنة الرّواية العربيّة.


الخطر القادم على مهل

أ0_2631صابني هلـعٌ شديد وأنا أكتشف بمحض الصدفة أن “البلطي” مغني “الراب” الشهير يتمتع بشعبية كبيرة لدى فئة عريضة من تلاميذ المدارس الإعدادية اليافعين. وأصابني غَــمّ أشدّ وأنا أستمع إلى بعضهم يفسّر ذلك بأن فنّ السيدة فيروز وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم الذي نعتبره نحن عنوانَ الذوق السليم فيه الكثير من “الكُـبّي” وتـقشعرّ له أبدانُ هؤلاء لأنه يفتقر إلى الإيقاع والجاذبية، وقد تجاوزته الأحداثُ بكثير !!!

إنّ هذه المعاينةَ التي تحتاج إثباتا واستيضاحا وتوسّعا ينبغي ألا تكون مدعاة للتباكي مرّة أخرى بدموع الحنين على الزمن الجميل الذي ولّى وانقضى، بل هي سبب كاف للبكاء بدموع الندم على الزمن القادم. فقد علّمنا التاريخُ أن الشعوب والأمم والحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض منذ حدوث الانفجار العظيم وهبوط آدم عليه السلام من الجنة، لم تـبقَ منها إلا فنونُها وآثارُها وعمارتُها وكُتبُها وما بذله الأقدمونَ في سبيل تهذيب الذات البشرية والارتقاء بها وبناء الانسان. ولهذا السبب بالذات رفعت بعض الشعوب المتيقّظة “فيتو” الخصوصية الثقافية في وجه اتفاقية التجارة الدولية بينما كان الوطن العربي يغطّ في نوم عميق مأخوذا بفتوحات العام سام وزعيق الحياة الليبرالية البهيجة

 في غمرة هذا الحلم الأمريكي اللذيذ أصبح شعبان عبد الرحيم بطلا قوميا وأصبح البلطي معبود التلاميذ وأصبحت السيدة فيروز مطربة مُملّة، وصار عبد الحليم حافظ شخصا ثقيل الظلّ لا يُحتمل…

قد تكون ظاهرةُ انتشار أغاني “الراب” لدى جمهورٍ قُدرتُه على التفكير والتمييز والمناقشة ضعيفةٌ ومحدودة، أمارةً على حـقِّ أيٍّ كانَ في أن يقول ما يشاءُ، متى يشاء، أينما يشاء وكيفما يشاء، بل سيجد الأبواب جميعها مفتوحةً أمامه تبشيرا بهذه الحرية التي لا حدّ لها وتيمنا بعطاياها، ولكنّ هذه الحرية العرجاء ليست مربط الفرس ولا بيتَ القصيد.. وهي حرية في كثير من الأحيان مغشوشة لا يُعتـدُّ بها، خادعة ومظلّلة لأنها تعصف بالثوابت عصفا وتعجز عن مقاربة المتغيرات..

فالسياسة الثقافية والاتصالية التي ترفع شعار الحرية ولا تمتلك أدوات التأثير الناجعة للبقاء في المقدّمة، يضمُرُ دورُها الحمائِي والاستباقي الطلائعي أمام قانون العرض والطلب وما يفرزه من مظاهر عجيبة، والحال أن سلطة الثقافة والإعلام في خضمّ هذه التحوّلات محكومةٌ بقانون التحدّي والاستجابة الذي يحدّد مدى توفقِ الثقافة الرسمية في الحفاظ على أسباب بقائها ومقاومة النزعة المتحفية التي قد تكتفي بها أحيانا وهي تراقب أمواج هذا التغيـير الهادر..

ولا يمكن نكران علاقة هذا الاعوجاج الذي أصاب شخصية الفرد القاعدية  بمشاكل العنف المدرسي والرياضي وتتالي الهزائم الكروية وتلاشي الروح المعنوية وتراجع الواعز الوطني، فالفنون ليست بضائع استهلاكية تباع في المهرجانات الصيفية وفي المنوعات التلفزية فحسب، والسلطة الثقافية ليست متعهدة حفلات وصانعة للفرح والبهجة، وإنما هي في قلب معركة ضارية تدافع فيها الأصالةُ عن معناها والفنونُ عن جدواها لأنها مفتاحُ التنشئة الاجتماعية السليمة وعمادُ التنمية البشرية

2010


عَلمتَ شيئًا وغابتْ عنكَ أشياءُ

حنبعلاهتمت إذاعة البي بي سي بخبر العثور في المهدية على جرة من العهد الفينيقي وُجد بداخلها هيكل عظمي، وخصصت جانبا من برنامجها اليومي بي بي سي اكسترا يوم الرابع من أغسطس لإلقاء مزيد من الضوء على هذا الحدث الهام والتوسّع فيه، لكنها اقتصرت على دعوة مراسلها في تونس لمحاورته ولم تستضف للغرض باحثا مختصّا من علماء التاريخ أو الآثار.

قد يكون هذا الأمر عاديا لو اقتصر الحوار على الجانب الخبري وهو ما يفي فيه المراسلون بالغرض عادة، لكن المذيع في لندن استرسل في الحوار وتجاوزَ بالمراسل حدود الإخبار إلى الاستقراء والتأويل وهي منطقة محفوفة بالمخاطر، فسأله إن كان العثورُ بمحض الصدفة على هكذا قطعة يعني أن الدولة مقصرة في القيام بالحفريات اللازمة؟، ولمّا كان مثل هذا السؤال فخّا يتطلب قدرة على المناورة أرهفنا السّمع لنصغي بانتباه إلى الطريقة التي سيتوخاها الزميل في تفنيد هذا الاستنتاج ونستفيد من قدرته على تجاوز السؤال المفخخ دون إحراج السائل، إذ العثور على الكنوز الأثرية بمحض الصدفة عادة ما يكون منطلقا لحفريات جديدة في مناطق غير متوقعة ولا يعني أبدا تقصيرا المؤسسات. ومن ثمة لا توجد منطقيا علاقة سببية مباشرة بين الخبر والاستنتاج، لكن المراسل لم يُكذِّب، بل استرسل في شرح مظاهر التقصير في التنقيب عن الآثار ورعاية التاريخ في بلاده!إذاعة بي بي سي

لا شكّ أن المذيع قد طرح سؤاله ذاك وهو تحت تأثير الضجيج الصادر عن تونس وهي تعيش في الغليان، فلا أحد يعجبه شيء هنا مطلقا، وتنتشر شظايا هذا التذمر الوطني حتما عبر أدوات التواصل الاجتماعي الالكتروني الذي جعل العالم أرضا مسطّحة، لكنْ عجبًا من ذاكرةِ الزميل وقد اعتراها الوهنُ، وأيُّ وهنٍ هو، سيّما وقد تعلّق الأمر بأحداث وقعت في السابق، قبل سقوط النظام. وقد كنا نودّ لو تفضّل بالإشارة ولو لمامًا إلى مشروع الخارطة الوطنية للمواقع الأثرية والمعالم التاريخية الذي انطلق العمل فيه وفق قانون وضع منذ بداية تسعينات القرن الماضي ويشهد بوضوح على أن جهد المعهد الوطني للتراث في هذا الصدد يشمل مختلف بقاع الجمهورية ولا يُميّز جهة عن أخرى كما ادّعى الزميل في ردّه على السؤال.

لكم نتمنى أن يكون هذا مجرّد خطأ في التقدير، فالزميل ثامر الزغلامي علاوة على خطته الوظيفية في الإذاعة التونسية يراسل بانتظام إذاعة البي بي سي في لندن وراديو مونت كارلو في باريس، ويفترض فيمن يتصدّى لهذه المهام الصعبة في آن معا أن يتوفّر على قدرات خارقة. أما أن يكون خطأ فذلك أفضلُ طبعا من أن يكون عزفا على وتر الخراب وتبنيا لنظرية العدم التي لا يعترفُ أصحابها بأي شيء إيجابي تحقق قبل مجيئهم إلى ساحة الحكم بعد الرابع عشر من جانفي، وهي رذيلة أخرى نُنزّهُ الزميل من أنْ يكون قد وقع فيها أيضا.


اشكي للعروي

نهار الأحد ما يهمك في حد

نهار الأحد ما يهمك في حد

في معرض ردّهم على الممتعضين من الرداءة التلفزيونية السّائدة يردّد البعض عبارة عبد العزيز العروي الشهيرة “بيننا فلسة” مطمئنين إلى جواز استخدامها في غير العصر الذي قيلت فيه، فأين نحن من زمن العروي؟

تلك العبارة قيلت عندما كان الراديو قطعة ثمينة لا تمتلكها كلّ البيوت، وكان الاستماع إلى أسماره أو حفلاته حدثا عائليا يجمع ولا يفرق، كان الراديو يؤدي وظيفته الإخبارية المكرسةَ للدعاية السياسية ويسلّي الناس ويعلّمهم بخرافات الوعظ والإرشاد والتمثيليات الاجتماعية، ويصل الأمر به حدّ تذكيرهم بقواعد التعايش حين ينبّههم عند الساعة العاشرة ليلا إلى ضرورة احترام الجار، أما المتحدثون صُنّاعُ الفرجة الصوتية فيه فقد كانوا من علية القوم ومن كبار المبدعين، إنه زمن الدوعاجي وكرباكة وعثمان الكعاك، زمن الهادي الجويني وصليحة والجموسي والجيل الذهبي المؤسس، وإذا أصبت حظا من أرشيف الإذاعة التونسية الذي عبثت به أيادي العابثين ستجد حتما بقايا من أصوات المسعدي وطه حسين وميخائيل نعيمة والفاضل بن عاشور والبشير خريف وآخرين. إنه زمن لا يتكرّر، فقد كان كلُّ شيء بسيطا وعاديا وممكنا، وكان ثمة وقت للخيال والجمال وأناقة الروح، كانت الأحلام شاسعة رغم الفقر والجهل والتسلّط، والعروي عندما قال عبارته الشهيرة: “بيننا فِلْسة” كان يدرك أنْ لا حرية للأفراد خارج نطاق السلطة، سلطة من يمتلكون القدرة على استعمال “الفِلسة”، فهي لم تكن من حق الجميع، الزعيم في قصره والمعلم في مدرسته والأب في بيته، هؤلاء كانوا قادرين على استعمال “الفِلسة” لتقرير مصير الآخرين وفق ما يرونه هم المصلحةَ الفُضلى.

أي قيمة لهذه العبارة في زمن اليوتيوب؟ البضاعة تُعرض مرة واحدة على الشاشة ثم تصبح متاحة للمشاهدة في أي وقت، تُعرض كاملةً ثم تُجزأ لاحقا إلى لقطات بحسب ما يتوفّر فيها من إثارة، يفقد السياق الدرامي نسقه الخطي في خضم “فوضى خلاقة”، هنا تستطيع أن تشاهد كل شيء متى تشاء بمفردك، فقد سقطت أسطورة السهرة العائلية بكل ما يحفّ بها من صور رومنسية، صورة الأب الذي يطالع الجريدة والأم التي ترفو الجوارب والجدة التي تروي الحكايات بينما تتمطى القطة أمام المدفأة(!) انتهى زمن العائلة وبدأ زمن الأفراد، ولم يعد غريبا أن تنتبه امرأة إلى أن الشاب الذي عُرضتْ صورتُه في الأخبار بعد أن أعدم العشرات في عملية انتحارية هو فلذة كبدها الذي لم تنتبه إليه وهو ينمو خارج حضيرة العائلة متمردا على فِلْسَة العروي. تغيّر كل شيء من حولنا وانهار المعبد على رؤوسنا، وهم يردّدون عبارة لو ظلّ قائلها حيّا بيننا لنقّحها وغيّرها أو تبرّأ منها جملة وتفصيلا.

المسلسلات التي تثير امتعاض الناس لا تدمّر الأخلاق والقيم، بل تدمّر فكرة الإبداع ذاتها وتبتذل الخلق الفني، الآن يمكن لمن هبّ ودبّ أن يتقمّص ثوب المخرج والسيناريست وصاحب الأفكار ليصنع ما يشاء باسم الحرية، هؤلاء الفوضويون الذين يأكلون من كل الموائد ينتحلون صفات لا تناسب مقاساتهم الطبيعية، وهو أمر كان ينبغي أن يعاقب عليه القانون مثلما يفعل عندما يلقي القبض على من ينتحل صفة الغير، الأمرُ أخطر من أن يكون تزمّتا زائدا من المتفرجين إزاء فائض من الحرية لا يناسب أمخاخهم الصغيرة المتيبسة، وأخطر من أن ننهيه هكذا بمجرد الضغط على فِلسة العروي، هذه العبارة إذا ترجمتها إلى لغة العصر وجدتها: “اشرب والاّ طيّر قرنك”، وبنفس هذا الخطاب الفوقي الذي يجعل به بعض صناع الفرجة أنفسهم فوق النقد يحق لآخرين كذلك أن يُلجموا كل الأفواه المحتجة على اعتلاء كافون صهوة قرطاج فالأمر سيّان وفي النهاية لم يفرض أحدٌ على أحدٍ الحضورَ كما لم يفرض عليك أحدٌ المشاهدة!!

التلفزيون ليس مجرد أداة ترفيه وتسلية بل يساهم في التنشئة الاجتماعية، وقد رأى الناس خطره في الاتجاه المعاكس عندما تخصصت قنوات الظلام في غسيل الأدمغة وتكفينها بالأفكار الرجعية، وامتعاض الناس من الدعارة المفروضة علينا بعنوان الحرية هو مجرد وجهة نظر، فأي معنى للنقاش تحت طائلة عبارة أكل عليها الدهر وشرب، ولماذا تريدون أن يكون بيننا وبينكم مجرّد فِلْسة؟ والحال أن ما بيننا هو أجمل وأنقى وأسمى.


كلاب بافــــلوف

عامر بوعزةفيما يشبه المتلازمة الحتمية ينقسم الرأي العام في تونس عقب كل عملية إرهابية غادرة إلى موقفين، موقف مع وجهة النظر الرسمية، وموقفٍ آخرَ يتبنى روايات مناقضةً تذهب حدّ تخوين السلطة ذاتها واتهامها بافتعال الإرهاب. ورغم تبني التنظيمات الإرهابية عملياتها الدموية واحتفال خلاياها المتناومة هنا وهناك بما يحدث من خراب، يصرّ البعض على ترويج سيناريوهات تبدأ بمراكمة الأسئلة حول أسباب الإخفاق الأمني لتصل إلى قصص متكاملة تتوفر على قدر كبير من الخيال الهوليودي.

عملية سوسة تبدو من خلال المعطيات الأولى عملا إرهابيا شديد التعقيد نسجت خيوطه تخطيطا وتدريبا في سوريا وليبيا لضرب عصفورين بحجر واحد، إنهاك الدولة التونسية والانتقام من بريطانيا بسبب مشاركتها في التحالف الدولي ضدّ داعش. لكن البعض يدفع في اتجاه الإيحاء بأن العملية من صنع الدولة العميقة، فهي التي تُحرك أبا عياض وأبا قتادة وأبا مصعب بأزرارها السحرية كلما ضيّق عليها “الثوار” الخناق! هذه الروايات تنتزع دائما الحدث التونسي من سياقه الإقليمي والدولي لتنظر إليه في علاقة بالمتغيرات السياسية المحلية فقط، وهي تتجاهل بشكل كلي ثوابت تاريخية معروفة حول علاقة الإسلام السياسي بالعنف والقدرات التنظيمية والقتالية للجماعات الإرهابية وما أصبحت تتوفر عليه من غطاء مالي بسبب سيطرتها على آبار النفط في سوريا والعراق وليبيا. يتجاهل هؤلاء أن هذه الفرق وان اختلفت أسماؤها وتناحرت فيما بينها لا تختلف عن بعضها البعض إذ تقوم بنفس الفعل لتحقيق نفس الهدف، وكل واحدة منها ترى نفسها الفرقة الوحيدة الناجية التي ستستأثر بالجنان والخلد والنعيم، وأن التمدّد في الأرض جزء من عقيدة “الدولة الإسلامية” التي ينشدون وأن الإنهاك بالفوضى جزء من استراتيجية التمكين.

هؤلاء يرون دائما أن الفظاعات المرتكبة تحت غطاء هذه الحرب الدينية هي من صنع المخابرات الغربية للسيطرة على النفط العربي وإعادة تقسيم الشرق الأوسط، وهي في بعض الروايات مجرد عمليات استخباراتية تبرر ردود الأفعال التي ستليها فالسيسي ذبح الأقباط في ليبيا ليتمكن من قصفها، ولا وجود لعشرية سوداء في الجزائر، إنما هي حرب قامت بها المخابرات العسكرية للسيطرة على الحكم، كما أن الموساد هي التي هاجمت نيويورك يوم الحادي عشر من سبتمبر، ولا يختلف عن ذلك ما جرى في سوسة فقد تم تفريغ الشوارع المؤدية إلى الفندق من الأمنيين حتى يتمكن شخص مسطول لم يظهر عليه أي تديّن من قبل من الوصول إلى هدف حدّده له بعض كبار رجال الأعمال الفاسدين مثلا ليقوم بفعلته ويمكن الحكومة من اتخاذ قرارات تضع حدّا للاحتجاجات الاجتماعية وهلمّ جرّا.

صحيح أن هؤلاء يجدون في بعض التصريحات الحمقاء حبالا يعتصمون بها على غرار ربط الرئيس في خطابه المرتجل بين حادثة سوسة وحملة “وينو البترول”، لكن الخيال الشعبي وهو يذهب في السريالية إلى ما هو أبعد يمثل دائما الحاضنة الثقافية المثلى للإرهاب، وفي الواقع كما في فضاءات التواصل الاجتماعي حراك شعبي حثيث لتعميم البؤس الفكري وتغطيس العقل في وحل الخرافة.


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress