من أرشيف إذاعة المنستير 1992

من أرشيف إذاعة المنستير 1992

لن يمنعنا احترامنا الشديد لتجربة الفاهم بوكدوس الصحفية والانسانية عن مناقشة بعض ما ورد في الحوار الذي أدلى به لفائدة موقع الساعة الالكتروني وتحديدا إجابته التي بدت متسرعة بعض الشيء عن سؤال: كيف يمكن أن ننجح في تحقيق الانتقال الديمقراطي وتحرير الإعلام؟

لقد خَبِر الفاهم بوكدوس جيّدا وأكثر من غيره مرارةَ الظلم وقساوة التجنّي وصار اختراقُـه سياج الصمت الحديدي الذي أقامه بن علي حول الحوض المنجمي مثالا في قدرة الصحافة المناضلة على تقصي الحقائق مهما غلا الثمن، وباتت صورته وهو طريح الفراش من أثر انتهاكات سجانيه أبسطَ حقوق الانسان عنوان فترة حالكة من الجبروت والطغيان يتمنى كل تونسي أن تصير بعضا من الماضي الذي لا يعود، ولهذا لن يكون الالتزامُ بمقتضيات البند الأول من ميثاق الشرف الصحفي بعزيز عليه وهو الفائز بجائزة حرية الصحافة ومستقبل الإعلام فهذا البند لوحده كفيل لو تقيّد به كل من امتهن المتاعب أن يجعلنا في أفضل حال من غير تبذير الكلام في سبل تطوير الإعلام والنهوض به لأنه يدعو كل صحفي إلى الالتزام بالسعي إلى الحقيقة وبالعمل على إبلاغها.

يرى الفاهم بوكدوس أن تحقيق الانتقال الديمقراطي وتحرير الإعلام مرتبطان أساسا بوجود إرادة سياسية تقطع نهائيّا مع الإرث الديكتاتوري ويحتج على عدم توفر هذه الإرادة حاليا بتواصل هيمنة رجال العهد القديم على المؤسسات الإعلامية الكبرى، وفي هذا السياق نعت السيد الصادق بوعبان مدير التلفزة الوطنية الحالي بأنه “من أشد الفاعلين في حملة بن علي الانتخابية الأخيرة ومن الذين لم يتوانوا بالمرة عن الدفاع عن النظام و تلميع صورة الرئيس وتشويه الشرفاء و تكميم الصحفيين“.

إذا كان هذا الوصف صادرا عن دراية ومعرفة واطلاع على وثائق وأدلة فهو يكشف لنا وجها آخر استطاع الزميل والصديق الصادق بوعبان أن يخفيه عنا طيلة عقدين من الزمان، فالصادق بوعبان الذي أعرفه لم يجن من الصحافة والإعلام طيلة حياته المهنية إلا المتاعب إذ امتاز باستقلاليته وحرفيته والتزامه بضوابط الصحافة الحرة منذ كان يكتب عموده الأسبوعي في الصحافة وينجز برنامجه الإذاعي الشهير “رؤى” في إذاعة المنستير ثم من بعدُ عندما قاد باقتدار سفينتي إذاعة تطاوين وقناة 21 في سنواتهما الأولى واشتهر بانعدام كفاءته الحزبية وضحالة خبرته السياسية، ولم يكن نظام بن علي ليغفل عنه لو توفرت فيه حقا المهارات التي ذكرها الفاهم بوكدوس في معرض وصفه وتعداد مناقبه البنفسجية، وما كان ليفرّط فيه ويدفعه دفعا إلى الاستقالة من الوظيفة العمومية سويعات قليلة قبل المثول أمام مجلس التأديب.

في الانتخابات الأخيرة التي وُِصف صديقنا بأنه كان من أشدّ الفاعلين فيها لم يضع الصادق بوعبان في جيبه بطاقة ناخب ولم يدل بصوته أصلا، لقد تنصل طيلة حياته المهنية من أي حضور سياسي عادي أو مشبوه، موال أو معارض، وقد كان بمستطاعه لو شاء تسلق ذلك السلم الذي يقود إلى المجد ثم إلى الهاوية، لكنه اختار مباشرة الذهاب إلى الهاوية قبل أن تنتشله الثورة الشعبية من غياهب الصمت والنكران واللامبلاة وتمنحه ثقتها ليحقق بعضا من أحلامه الإعلامية في مناخ مغاير، ولكن قد تعبث الرياح بمشيئة السفن وربابنتها كما هو الحال دائما وأبدا..

لن نسهب في تعداد خصال هذا الرجل بمناسبة الاحتراز على ما جاء في كلام الفاهم بوكدوس فليس من مهامنا التفـنيد وتبيان الضدّ، وإنما الخشية إذا لم يكن ثمة ما يفيد صواب الأوصاف المذكورة أن يكون الفاهم بوكدوس قد أخطأ في حق رجل عانى الأمرّين بدوره من قسوة نظام بن علي ونكرانه الجميل، بل قد لا تقلّ سنواتُ معاناتِه -لو قيست من وجهة نظر أخرى- عن شهور السجن صعوبةً وقساوةً ومرارةً، أوليسَ حريًّا بمن عانى الظلم سابقا أن يكون أشدّ الناس تحريا في عدم تسليط الظلم على الآخرين؟، لقد صار سهلا اليوم أن تُـرمى التهم جزافا وتتطاير في الهواء، ولكن يا ترى هل ممكن بعد أن تندفع الرصاصة من فوهة البندقة أن تعود إلى الوراء؟!.