أصدر الرئيس المدير العام للإذاعة التونسية مقررا بشطبي من قائمة موظفي المؤسسة، وبجرة القلم هذه وضع نهاية لثلاثة وعشرين عاما قضيتها في الوظيفة العمومية.
لقد كنت تقدمت بعد حصولي على عرض من إحدى المؤسسات الإعلامية العربية بطلب للإلحاق بالوكالة التونسية للتعاون الفني لكن رئاسة الإذاعة التونسية نظرت إلى المسألة من زاوية أخرى وفعلت بكل بساطة ما فعله النظام السابق مع الصحفيين الذين غادروا البلاد هربا من علوية الولاء السياسي على الكفاءة وتطويرا لآفاقهم المهنية: العزل انتقاما وتشفيا باستخدام القانون.
لن أناقش هذا الأمر، فالنقاش ماعاد يجدي نفعا وما عاد مهما التذكير بمحتوى خلافي المبدئي مع الإدارة بسبب رفضي علانية أسلوب شراء الذمم والترضيات المشبوهة وإساءة التصرف في الموارد المالية، إنما أؤكد أن انتقالي للعمل خارج تونس وإن كان هروبا من واقع مهني مــرّ فهو شرف للبيئة التي تكونت فيها قبل أن يكون اختبارا حقيقيا لي، لقد اشتغلت في مواقع مختلفة، وكانت الرحلة مليئة بالأحداث والنجاحات والإخفاقات حرصت فيها ما أمكن على استقلالية الفكر وحرية الرأي ونقاوة الضمير، ورغم ذلك أمتلك من الشجاعة الأخلاقية ما يكفي – وأنا أغادر الوسط الإعلامي- على الاعتذار لمن كان يرى أن عملنا في الإذاعة قبل حدوث الثورة يحملنا جزءا من مسؤولية النظام الذي لم نهتد إلى معارضته.
إن وجودي حاليا خارج تونس ليس جريمة تستوجب العقاب وقد كان حريا برئاسة المؤسسة أن تستجيب لطلب الإلحاق إلا أنّ غريزة الجَوْر والاستبداد زيّنت لها تسخير القانون لتصفية حسابات شخصية لم تكن طرفا فيها أصلا، ولهذا لشدّ ما تثير استغرابي تصريحات الدكتور محمد المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية لوسائل الإعلام الأجنبية عن استتباب العدالة في تونس وانعدام الظلم وأتمنى أن يكون حديثه عن تونس حقا وأن تكون تجربتي الشخصية مع المسؤولين الذين “أتت بهم الثورة” أمرا شاذا لا يقاس عليه.
أتمنى لكل الزملاء الصادقين النجاح والتوفيق والقدرة على الصبر والاحتمال حتى يتجاوزوا بأخف الأضرار هذه المحنة التي ابتليت بها الإذاعة في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخ الدولة الديمقراطية الوليدة “دولة الحقوق والمؤسسات !”
لقد عملت بجدّ مع أساتذة أفخر بالتتلمذ عليهم والسير على خطاهم وزملاء أعتز بما أنجزناه سويا وتركت في خزينة الإذاعة وفي ذاكرة الناس أعمالا أقل ما يقال فيها إن وراءها جهدا وإخلاصا، ولست آسف على شيء فلم يعد ثمة في الإذاعة ما يدعو إلى الأسف إذ حق فيها قول الشاعر: لـقـد هـزلـت -حـتــَّـى بدا من هـزالـهـا – كِـلاها وحـتــَّـى سـامـهـا كـلُّ مـفـلـس.
عامر بوعزة صحفي أول بالإذاعة التونسية (سابقا)