
قيس سعيّد

قيس سعيّد

مطار حمد الدولي
بين مطارات بعض دول الخليج العربية ومطار تونس قرطاج أكثر من خمسة آلاف كيلومتر وحوالي خمسين عاما من التفوّق والرّقي والرفاه، ليس هذا انطباعا بل حقيقة قابلة للقياس، نصفها الأول مبهج ونصفها الثاني محزن، حقيقة ينبغي قراءتها بعقلانية وتفهّم بعيدا عن منطق التخوين الأجوف، ليس هذا أيضا جلدا للذات إنما دعوة إلى التجرّد من المشاعر الشوفينية البغيضة ومعاينة الواقع بعيدا عن مظلّة الشّعور الزائف بالعظمة.
إن مطار تونس الذي يحمل اسم قرطاج العظيمة متأخر فعلا عن مطارات العالم المتقدّم كذلك مطارات دول الخليج بما يعادل نصف قرن أو أكثر، وهذا تقدير موضوعي مناسب إذ لا معنى للمبالغة وترديد مقولة المشير أحمد باشا باي الشهيرة عند زيارته باريس منتصف القرن التاسع عشر: “إنّ القوم سبقونا الى الحضارة بأحقاب من السنين وبيننا وبينهم بون بائن” ولو أحببنا أن نبالغ لجاز لنا أن نقول إنّ هذا المطار أضحى يعيش خارج عصره،وإنّ المسافة التي تفصله عن كثير من مطارات الدنيا تُقدر بسنوات ضوئية و”لله فينا علم غيب نحن صائرون إليه، نسأل الله حسن العاقبة”.
في المطارات العصريّة المتقدّمة تُقاس جودة الخدمات بالوقت الذي يقطعه المسافر من لحظة الدخول حتى لحظة الوصول إلى مقعده في الطائرة وعكسيا في رحلة العودة، لا يتعلّق الأمر إذن بنظافة المراحيض أوابتسامة الشرطي ّوالطريقة التي يتعامل بها رجال الجمارك مع حقائب المسافرين فحسب، فالمطار مرفق عامّ وصورة نموذجية عن البلد الذي يُفضي إليه، واشتراطات الجودة تفرض الانصياع إلى المعايير الدولية التي تناسب أسلوب حياة الانسان المعاصر لا سيما تحت وطأة الإحساس بهاجس الوقت. وقد استطاعت البوابات الالكترونية في مطارات دول الخليج أن تختصر مسافة العبور من المنافذ الحدودية بشكل لا يُصدّق، فليس من الضروري في هذه البوّابات الاستظهارُ بجواز السفر أو ختمه، وليس من الضروري أن يتأمل سحنتك رجل الشرطة ويقارنها بصورة الجواز، يكفي استخدام البصمة لفتح الباب، ولا يستغرق الأمر الاّ دقائق معدودات يختلف طولها حسب درجة الازدحام البشري في المطار لا غير،وباستخدام تطبيقة على الهاتف الجوال يمكنك الاطلاع في أي وقت على كشف بحركات السفر يشتمل على كل مواعيد الدخول والخروج فيأي مدة تختارها، بينما ما يزال المسافر إلى تونس مطالَبا عند الوصول إلى المطار بتعمير ورقة صغيرة لا يعرف سرّها أحد ولا يُفهم سبب وجودها حتى الآن، رغم أنها انقرضت تقريبا من أغلب مطارات الدنيا.
سلسلة المقارنات طويلة لا تنتهي، ولا حاجة بنا إلى التوقّف طويلا عند أشياء أصبحت شبه عادية في المطار بوصفه صورة مصغرة عن البلد، كالغلاء الفاحش في مقاهي المنطقة الحرة، أو الفزع و الرّعب اللّذين ينتابان القادمين لحظة انتظار حقائبهم، أو تلك النّظرة الزّائغة التي يستقبلك بها موظفو الدّولة دون سواهم، فحسناوات شركات الاتصال اللواتي يستقبلنك عند البوّابة هن الوحيدات المبتسمات على الدّوام في هذا الجوّ الكافكاوي، أمّا إذا عنّ لك أن تقضي حاجتك البشريّة وغالبا ما ستفعل،فانتبه إلى بعض أقفال المراحيض المستعصي إصلاحُها منذ سنين، وانتبه إلى عاملة النّظافة وهي تمسك بيدها لفافة الأوراق كي تسلّمك ببرود قطعة منها بعد غسل يديك أملا في مقابل مالي لن تقدر على دفعه لأنّك ببساطة لا تحمل عملة محلّية وهو سبب كاف لجعلك ترى لعناتها المكتومة تلاحقك وأنت تبتعد عنها وتذوب في الزحام.
لو أدرنا عقارب التاريخ خمسين عاما إلى الوراء لرأينا مشهدا معاكسا تماما،فبمقاييس السبعينات كان مطار تونس قرطاج الدولي مفخرة حقيقية، بينما مطارات دبي أو الدوحة مجرّد مهابط بسيطة للطائرات في دول صغيرة ما تزال في بداية طريقها إلى الثّروة والرخاء تجرّ وراءها خلاصة قرون صعبة وقاحلة من الصحراء.فالمسألة حينئذ نتاج طبيعي لمسارات مختلفة امتزج فيها الاقتصادي بالسياسي والثقافي، وتغيرت في ضوئها مراكز الرّفاه والتفوّق الحضاري، لا يُفسّر الأمر فقط بالثّراء، لكن أيضا بالتّخطيط الجيّد وابتكار الحلول المناسبة، فمن المؤكد أنّ تونس كانت أسبق من دول الخليج إلى دخول عصر المعلومات لكنّ عواملَ عدّة جعلتنا لا نهتدي في العشرين عاما الماضية إلى توظيف هذه التّكنولوجيا في تحسين نمط العيش وتطوير المرفق العام، بينما هم فعلوا، والدليل على ذلك الشّكلُ المُذهل ُللحكومات الالكترونية في دول الخليج وتعثّرها أو فشلها الذّريع عندنا.
الحكومة الالكترونية هي المبيد الأكثر فتكا بالبيروقراطية، فالمعاملات التي يجري إنجازها باستخدام الهواتف الذّكية هي اليوم أكثر من أن تحصى، بدءا من التحويلات البنكية وصولا إلى حجوزات السفر والفنادق، وخلاص المخالفات المرورية، وتجديد بطاقات الإقامة والعلاج. أمكن كل ذلك بفضل مُخطّط إقليمي شامل للحوكمة الالكترونية مُخرجاته تكاد تكون متطابقة في دول مجلس التعاون، إذ جرى تنفيذه تحت مظلّة هذه المنظمة، ويستند إلى بيئة رقمية متكاملة يمثل النظام البنكي القوي والمتطوّر أهمّ محاورها فضلا عن التشريعات والبنية الأساسية للاتصالات. فالمعاملات المالية في كل المرافق الحكومية الكترونية وجوبا ووسائل التحقق من هويات المستخدمين والتصدّي للغش مُتعدّدة وفعّالة وفي المتناول، وهي أقلّ تعقيدا من التوقيع الالكتروني الذي توقّفت عنده مخيّلة صناع القرار عندنا بما جعلنا لا نتقدم سنتمترات في هذا المجال.
بناء على ما تقدم يبدو أن خلاصنا في الأمد المنظور ليس في حاجة إلى ثروة طائلة كي يتحقّق بل إلى كثير من التّواضع لنقف على حقيقة حجمنا الراهن بعيدا عن منطق “ثلاثة آلاف سنة من الحضارة” المنطق الذي أضحى لا ينتج الاّ المزيد من البؤس والشقاء كلّما تقدّم العالم من حولنا أكثر.

نقلت وكالة «رويترز» للأنباء عن مصادر تجارية في أوروبا خبرا يتعلّق باقتناء تونس نحو 92 ألف طن من قمح الطّحين اللّين، وقدّمت تفاصيل ضافيةً عن هذه المناقصة الدولية التي كانت قد انفردت أيضا بالإعلان عنها في وقت سابق، فذكرت آجالها، ومراحل تنفيذها، والأسعار التي تمّ اعتمادها. والسؤال الوحيد الذي لم تجب عنه هو: لماذا تستورد تونس القمح من أوروبا؟إعلاميون في زمن الاستبداد كتاب جديد لعامر بوعزة يقرأ على مهل وبكثير من التدبّر، وقد نجح مؤلّفه في معادلة المزاوجة بين الذاتيوالموضوعي، وهي معادلة لا تخلو عادة من الاضطرار الى التجميل وتضخيم دور البطولة.
تحدّث بوعزة عن تجربته الذاتية في بيئة الإعلام في لحظة محفوفة بالمخاطر والمنزلقات والعوائق المبيتة فالتزم بالموضوعية واعاد تشكيل الأحداث كما وقعت وهنا تظهر قيمة شهادته إذ لم يجنح الى التباكي ولعب دور الضحية كما انه كان منصفا ولم يفتح النار على أحد ممن تداولوا على إدارة الإذاعات والتلفزيون وإن كنت عاصرت جميع ما ورد في الكتاب من وقائع ومناورات لم يسلم منها المؤلف.
إنها محاولة جريئة تطرح شهادة على قطاع الإعلام السمعي والبصري في لحظة تاريخية عرفت بالشمولية والاستبداد بالرّأي فلا صوت يعلو على صوت المعلّم المتمثّل في قرارات المستشار الإعلامي ومن يدور في فلكه .لقد سمّى عامر الأشخاص بأسمائهم وترجم لبعضهم ترجمة مختصرة مفيدة ووثّق كل الوقائع بتواريخ حدوثها وفسّر للقارىء ماخفي عنه من أسباب ومآلات. فأقحمنا في خفايا المطبخ السياسي وأسلوب إدارة الواجهة الإعلامية مع ربط بالمحيط الإقليمي والمحلّي.
ولا بد من تحية إكبار لعامر بوعزّة على وفائه لرفاق دربه المرحومة عواطف حميدة والصادق بوعبان ولتعاليه عن الإشارة الى من أساءوا اليه وتفنّنوا في وضع الحواجز في طريقه غيرة وحسدا أو حمقا مجانيا.
إن كتاب اعلاميون في زمن الاستبداد ذو قيمة وثائقية جليلة كتب بمنهجية علمية وبلغة راقية وعساه يفتح الدرب امام غير عامر من الإعلاميين لينسجوا على منواله ويدلوا بشهاداتهم على مرحلة من تاريخ الإعلام في تونس فكم من الحقائق ظلت محبوسة في الصدور ومن حقّ الجمهور معرفتها.إن هذا الكتاب من أفضل ما قرأت بعد ثورة ١٧-١٤ وإنه لجدير بأن يكون من بين مقرّرات طلاب معهد الصحافة وعلوم الإخبار في تونس.
د عبد الرزاق الحمامي

برهان بسيس

زين العابدين بن علي

ضريح الشاعر