مقالات رأي

لقد وقعنا في الفخّ

فخ العولمةوَصَفَ كتابُ فخّ العولمة بدقة ما حدث قبل حدوثه، ولم يكن ذلك تنبؤا بقدر ما كان استشرافا عميقا لما سيؤول إليه وضع الانسان والدولة في ظل دكتاتورية السوق والعولمة. فقد سارت الأمور في اتجاه مغاير لما بشّرت به الدعاية وانتهى الأمر إلى الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية على حد تعبير المؤلفين.

مع نمو العولمة ازدادت الفوارق بين البشر، وأصبحت نظرية الخُمُس الثري بمثابة الحتمية التاريخية، عشرون في المائة من السكان يمتلكون الثروة وثمانون في المائة سكانٌ فائضون عن الحاجة يعيش جزء كبير منهم بالتبرعات والإحسان والتكافل الاجتماعي. قلصت التكنولوجيا فرص العمل وألغت الفلسفةُ الليبراليةُ دورَ الدولة الاجتماعي واقتضت المديونية أن تنضبط الحكوماتُ بصرامة أمام مؤسسات النقد الدولية حيث يتحكم مضاربون كبار في اقتصاديات الدول وسياساتها من وراء وميض شاشات الكمبيوتر فتفاقم عجزها. كلُّ شيء كان مخططا له بدقة، والسؤال المحيّر حول: ماذا سنفعل بالفائضين عن الحاجة؟ كان مطروحا منذ البداية على منظري اقتصاد السوق، وقرّروا أن خليطا من التسلية المخدرة والتغذية الكافية يمكن أن يهدّئ خواطر المُحبطين. لن تلتزم مؤسسات الإنتاج بأي واجب اجتماعي تحت ضغط المنافسة التي تفرضها العولمة إذ الاهتمامُ بأمر العاطلين عن العمل هو من اختصاص جهات أخرى، وينبغي أن يقع عبء الأعمال الخيرية على عاتق الأفراد في مبادرات تضامنية يقومون بها لمساعدة بعضهم البعض. لقد أخذت المنافسة المعولمة تطحن الناس طحنا وتدمّر تماسكهم الاجتماعي، وقعنا في الفخّ، ولم يكن ثمة سبيل إلى القفز على هذه الهوة العميقة أو تجنبها، وأصبحت الهزات الاقتصادية تعصف بدول عريقة في الديمقراطية والرفاه الاجتماعي وتلقي بظلالها العميقة على أوضاع الناس فيها، أما في الدول التي تفتقر إلى الديمقراطية والتي كانت تتمتع في الماضي القريب بقدر نسبي من الرفاه الاجتماعي فإن الانقراض التدريجي للطبقة الوسطى وتوسع رقعة الفاقة والبؤس قادا إلى الانفجار.   (مواصلة القراءة…)


تحية العلم بطعم الدم

ثكنة بوشوشة

كان لا بدّ لوزارة الدفاع الوطني أن تجد وصفا لائقا بما حدث في ثكنة بوشوشة إبان حدوثه، فوسائل الإعلام ضيقت الخناق على العسكر من أجل الظفر بإجابة رسمية عن سؤال واحد وحيد لاذت إزاءه السلط المسؤولة بالفرار: هل هو عمل إرهابي؟

الترجمة العملية لهذا السؤال: هل ينتمي القاتل إلى الجماعة الإرهابية التي شنت الحرب على البلاد منذ صدرت فيها الفتوى بأنها أرض جهاد، وماذا نسمي القتلى هل هم شهداء عند ربهم يرزقون أم هم مجرد قتلى؟ وتهاطلت الصور الأولى على النت لصحافة الاستقصاء تنقل الأجواء من أمام بيت القاتل بعنوان لافت يتحدث عن الفقيد ولولا بعض من حياء لكتبوا الشهيد!! ولا عزاء للأبرياء العُزّل الذين انفتحت في وجوههم خزانة الرصاص بوحشية لا متناهية وهم يؤدون تحية العلم لم نقرأ حتى أسماءهم. يا الله، كم نحن خارج السياق!

الآن وقد حدث ما حدث، وسواء أكان الأمر قد دُبّر بليل في أقاصي الشعانبي أم إنه أزمة نفسية حادّة لشخص ممنوع من حمل السلاح يتجول بكل حرية بين زملائه المسلحين! هناك ثلاث حقائق تفرض نفسها:

الحقيقة الأولى: أن المقاربة اللغوية التي تستند إلى هوية القاتل مغلوطة، فالوقائع تؤكد أننا أمام عملية إرهابية بامتياز دارت بشكل ناجح داخل مؤسسة عسكرية محصنة أيا كان انتماء القاتل، ولا يغير القول بأنه كان يعاني من اضطرابات نفسية شيئا فكل القتلة لحظة ارتكابهم جريمة القتل هم في لحظة اضطراب نفسي بل إن كل الفيديوهات التي ينشرها الانتحاريون قبل تفجير أنفسهم تُظهرهم في شكل المضطرب النفسي أو المخدّر، لقد توفرت كل عناصر العملية الإرهابية وأبرزها وجود قاتل انتحاري لا تربطه بالقتلى علاقة عداء مباشرة وشخصية تبرر إقدامه على قتلهم بتلك الوحشية ناهيك عن وقوعها في محيط مغلق يشتهي كل إرهابي أن يفجر نفسه فيه، فأهدافهم معروفة وواضحة، والقاتل قد حقق هدفا إرهابيا سواء أكان مكلفا بذلك ومنتميا أو قام بما قام بشكل منفرد ومن تلقاء خلله النفسي. النتيجة واحدة فلنحسم أمرنا بشكل لا يترك للتردّد مكانا.

الحقيقة الثانية تبدو في الفوضى التي ظهرت عليها وسائل الإعلام أثناء تعاطيها مع هذا الحدث، نفس السيناريو الذي حدث يوم واقعة متحف باردو تكرّر رغم أن المجتمع المدني ومختلف الهياكل الفاعلة في الإعلام انتبهت آنذاك إلى وجود خلل ما في المقاربة وانتشر الحديث عن دورات تدريبية خاصة بمجابهة المخاطر والكوارث وعن معدات واستراتيجيات عمل لكن كل ذلك ذهب هباء منثورا وظلت حليمة في عاداتها القديمة، تتسابق الصحف والإذاعات خصوصا عبر وسائطها الالكترونية إلى نشر معلومات متضاربة فتتهاطل على الناس عشرات السيناريوهات المختلفة وتضيع الحقيقة، ويبدو الشخص المسؤول عن نقل الرواية الرسمية لوسائل الإعلام بمثابة المتهم  في القرجاني أمام هيئة محققين لا صحفيين تُجابه أقواله بأقوال وتكذيبات يتحصن أصحابها بعبارة: علمنا من مصادرنا!.

أما الحقيقة الثالثة فتتمثل في أن تونس أصبحت بلدا ينبغي أن تتوقع فيه الرصاص في أي مكان، في أي لحظة، تحت أي مسمى، هناك أطفال انبطحوا على الأرض في قاعات الدرس ثم هربوا تاركين كتبهم وأشياءهم وأغلقت المدرسة أبوابها بعد انتشار قوات مقاومة الإرهاب في محيط الثكنة، هؤلاء الأطفال وغيرهم يعيشون واقعا جديدا مختلفا عن واقعنا نحن الذين كنا لا نرى زخّات الرصاص بهذا الشكل العدواني الغريب السافر الا في أفلام الأكشن. هذا التطبيع مع العنف القاتل يستوجب ثقافة أمنية جديدة وتهيئة نفسية خاصة ومن العيب مداراتها والالتفاف عليها تحت داعي الحفاظ على صورة تونس في الخارج والخوف الساذج على السياحة التونسية، الحرب مع الإرهاب بمختلف أشكاله وصوره حرب طويلة المدى ينبغي أن نتوقع فيها كل شيء وعلينا مواجهة هذه الحقيقة بشجاعة كبيرة.


رسالة هادئة إلى دكتور غاضب

الدكتور فيصل القاسم

الدكتور فيصل القاسم

الدكتور فيصل القاسم
أنت لا تعرفني ومع ذلك اسمح لي أن أُعاتبك عتاب مودة، لا أعاتبك على موقف فالمواقف من شيم الرجال وهي ليست للعتب، بل للجدل والاختلاف فيها رحمة. لكن أعاتبك على قولك في ديباجة ما كتبت: “سمعت أن النظام الديمخراطي في تونس مزعوج من حلقة تلفزيونية…”.
لَهْ يا عيب الشوم!
أهكذا تورد يا فيصلُ الإبلُ؟!
لقد درستُ الأدب العربي على يدي رجل من أنبل الرجال، أديب من أمتن أدباء عصره معرفة، وهو الذي أستعير منه عبارة “عتاب المودة”، فقد كانت تجري على لسانه كلما أراد جدلا واختلافا، وكان يقول عندما يصحّح خطأ شائعا بصواب مهجور: ” أشيعوا عني في المدينة قولي كذا وكذا…”، لأنه يؤمن أن العلم بلا عمل مجرد هراء أو فساء. أستاذنا الجليل أطال الله عمره كان مفردا في صيغة الجمع، ونحن نعتز به وننتسب إلى علمه ونتمثل بمواقفه كلما فرضت علينا نفسها ونحن في تجليات الكتابة. لكنه وهذا بيت القصيد لم يكن من حملة الدكتوراه، عاش محروما من حرف الدال الذي يتدلدل من السطر قبل اسمك يا دكتور، ومع ذلك كان على خُلُق عظيم!
أرأيت كم هي ثمينة عندكم تلكمُ الدال التي تجرجرونها وراء أسمائكم، وكيف هي لا تساوي شيئا عندنا إذا لم تكن قرينة علم وأخلاق وأدب !!
عتبي عليك في انسياقك وراء الهوى، وتفريطك بسهولة وبلا تردّد في أعزّ ما تملك وما يُفترض أن يكون فيك من وقار العلماء، ذلك الذي يشعُّ من لفظ الدكتور وراء اسمك. بربّك هل رأيت دكتورا غيرك يستعمل لفظ “الديمخراطي”؟، لست أستغرب منك قولك “سمعت أنّ” رغم أنها كلمة معيبة في حقك وطعنة أخرى سددتها إلى شبح الدكتور الذي يلازمك كظلّك، فالدكاترة عادة لا ينطقون بمثل هذا الهراء، لا ينفعلون بمجرد السماع، بل تحركهم الحجج القوية الموثقة، الدكاترة يا دكتور يناقشون القضايا الأصلية ولا ينشغلون بهوامش الأمور…
تستبدل حرف القاف بحرف الخاء في عبارة الديمقراطية، فتوحي بما يحفّ بهذا الصوت من المعاني القبيحة في عبارة “الخرا”؟!، رسالتك وصلت، لكنها لا تستحق أن يُردّ عليها، لكونها أولا صادرةً عمّن لا صفة له، فالديمقراطية في تونس شأن تونسي، ولأنها حالة واقعية لا يعتدّ فيها بالسماع، سيما إذا كان محدّثك من الشق المهزوم في انتخابات تستطيع أن تقول فيها ما تشاء إلا أن تكون غير ديمقراطية، صحيح أن تونس تمرّ بظرف استثنائي صعب، لكن التونسيين  بأنفتهم وشموخهم يدركون أن للحرية ثمنا، وهو ثمن ضئيل لا يقارن بالخراب الذي حلّ باسم الديمقراطية في أوطان أخرى أنت تعرفها. وملخص ذلك أن الحرة عندنا تجوع ولا تأكل بثدييها كما يفعل آخرون وأخريات.
النظام الديمقراطي في تونس حقيقة كائنة بفضل دماء الشهداء البررة ولن يغير منها نعتك الشائن لها، لن ينقص منها ذلك بقدر ما ينقص منك، فلتراع حرمة الكلمة كلمةِ الدكتور التي تكاد تنطق من الضجر وراء اسمك في كل المحافل ولا تهبط درجة أخرى في الحضيض لتكتب كما يكتب صبيان الفايسبوك والسُّفهاء.


ضدّ الحكومة

الحبيب الصيد رئيس الحكومة التونسية

الحبيب الصيد رئيس الحكومة التونسية

المشهد ذاته تقريبا تخيله منذ سنوات قليلة علاء الأسواني في روايته عمارة يعقوبيان، يقف الطالب المتفوق أمام لجنة من الضباط لدخول أكاديمية الشرطة، فلا يشفع له نبوغه لأنه ابن حارس عمارة ولا يحق له الانتساب إلى الشرطة. وقد لا ينتبه كثير من القراء والمتفرجين في غمرة الأحداث الكثيرة المتشعبة التي تفيض على جانبي الرواية إلى العداء الرمزي الذي نشب بين هذا الشاب بعد أن انتمى إلى الإخوان المسلمين والشرطة ممثلة في شاب آخر لا يختلف عنه في العمر لكن من الواضح أنه قادم من “وسط محترم” على حد عبارة وزير العدل المصري المخلوع في الواقع. لم يختر هذان الشابان مصيرهما، كل ما حدث أن الانتماء الطبقي حدّد لكل واحد منهما دوره في مسرحية الحياة: فجعل أحدهما ضحية والآخر جلادا، وينتهي الاثنان قتيلين في معركة ينبغي لكل طرف فيها أن يلغي الآخر.

يحدث هذا في الخيال ويتجسد ما يشبهه في الواقع، هناك في مصر التي يرى بعض السّاسة هنا في تونس أنها غادرت حديقة الربيع العربي وتركت شعبنا يرفل لوحده في غابةٍ أزهارُها تخلب الأنظار تحت سماء ديمقراطية لا يعكر صفوها شيء غير بعض الأحداث المتفرقة التي تبدو بلا قيمة تُذكر لدى صاحب السعادة من فرط لامبالاته بها، كالاحتجاجات الموسمية في الجنوب والمناطق الفقيرة المهمشة وهي تعيد بقوة إلى الواجهة متلازمة الديمقراطية والتنمية. نحن إذن أمام نموذجين مختلفين، هناك في القاهرة أغلق العسكر قوسي الربيع العربي وزجّوا بالإخوان في السجون بعد أن حملتهم الصناديق إلى السلطة، وهنا في تونس انتقال ديمقراطي يتعايش فيه الحزب الإسلامي القادر على تغيير جلده كلما اقتضى الأمر مع الدولة العميقة وسائر مكونات المجتمع، لكن هناك في ظلّ الدكتاتورية العائدة بقوة يستقيل الوزراء أو يقالون “احتراما للرأي العام”، وهنا في ظل الديمقراطية الناشئة لا يستقيل الوزراء ولا الرؤساء ولو سلح عليهم جمهور الفايسبوك ولو أصبحوا أضحوكة أو طراطيرَ، يتوهم البعض منهم أن استقالته من منصبه ستؤدي إلى انهيار الجمهورية على رؤوس الناس وكأنه المحور الذي تدور عليه دواليب الحكم. والاستقالة الوحيدة التي حصلت كانت بتوقيع وزير التربية في حكومة الترويكا، وهي استقالة كان يمكن أن توضع هي أيضا في كتاب غينيس للأرقام القياسية إلى جانب منجزاتنا التنموية الأخرى كأكبر علم مفروش في الصحراء وأكبر عصير برتقال فهو تقريبا الوزير الوحيد في العالم الذي ظلّ يزاول عمله في الوزارة وهو مستقيل دون أن يعرف أحد ما إذا كان مسؤولا عن قراراته في تلكم الفترة أم لا؟!

استُقيل وزير العدل المصري، وهو اشتقاق لغوي جميل يصف حالة من تُفرض عليه الاستقالة حفاظا على ماء الوجه، ولم يُستقَل أي وزير عندنا رغم الحماقات الكثيرة المتكررة، والحالات القليلة التي اضطرّ فيها الحاكم إلى تسليم الأمانة والهبوط من كرسي العرش كان ثمنها باهظا جدّا ولم تكن في كل الأحوال تعبر عن احترام الرأي العام بقدر ما كانت فرارا من جحيم مفتوح على مصراعيه، كذلك فعل حمادي الجبالي عند اغتيال شكري بلعيد  ومن بعده علي العريض بعد اغتيال محمد البراهمي، وكأن التداول على السلطة لدى هؤلاء لا يحتكم إلى معايير الإخفاق والنجاح في قلب معادلات التنمية والرفاه التقليدية وإنما في حاجة دائمة إلى قرابين بشرية. وقد اعترف مؤخرا المنصف المرزوقي وهو يرمّم ما تهدّم من تمثاله السياسي والحقوقي بأنه كان ينبغي عليه الاستقالة من منصبه عندما كان رئيسا مؤقتا للجمهورية لكن هذا الاعتراف المتأخر لا يزيد الرأي العام الا إحباطا إزاء عقلية التشبث بالسلطة التي لا يختلف فيها الحكام الجدد عن سابقيهم، فلا اختلاف بين قوله ذلك وقول بن علي في اللحظات الأخيرة “غلطوني”، ولا يضيف شيئا قوله وهو خارج السلطة “كان ينبغي أن أستقيل” الا المزيد من المرارة والسخرية.

يستقيل الوزراء في العالم المتحضر لا لأنهم مسؤولون بشكل مباشر على ما يحدث في وزاراتهم ولكن لأن مسؤوليتهم السياسية والأخلاقية تقتضي ذلك، فالاستقالة في حالات كثيرة رسالة إيجابية من الحاكم إلى المحكوم، ويمكنها في الوقت المناسب أن تنزع فتيل الأزمة قبل اشتعالها. والمتابع للشأن السياسي والاجتماعي في تونس بعد مضي مائة يوم من انتصاب حكومة الحبيب الصيد يمكنه أن يتبيّن بسهولة أنها في حاجة إلى استقالات كثيرة في وزارات لم يرق أداؤها إلى النجاعة المطلوبة، لكن التعنت ومعالجة الأخطاء بأخطاء أفظع لا يزيد الأزمات الا استفحالا، لا يختلف في ذلك قول وزير التربية في حكومة النداء للممنوعين من اجتياز امتحان الكاباس “تو نرجعولكم الخمسطاش دينار”؟؟! عن قول وزيرة المرأة في حكومة الترويكا وهي تعضّ بالنواجذ على كرسي الوزارة: اشربوا ماء البحر…!، فلا عزاء للتونسيين في طبقة كاملة من المناضلين خيبت أمل الناس في السياسة والديمقراطية وجعلت بعضهم يغبط في سره الرأي العام المصري الذي أقال وزير العدل لحماقة ارتكبها في برنامج تلفزيوني وما أكثر الحماقات التي نتجرّعها يوميا.


رجـــــل الهــــــايكا

vintagestyle-radio-originalفي معرض دفاعها عما تبقى من الهايكا قالت الرئيسة السابقة للنقابة الوطنية للصحافيين: … الزميل الحبيب بلعيد، عضو الهايكا، المذيع المهني والغيور على الإذاعة والإذاعيين والوحيد الذي كان يخالف التعليمات ويمرر أغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة…. لتتربى أجيال وأجيال على أنغام الثورة والمعارضة رغم جماعة يا سيد الأسياد وجماعة “بوهم الحنين”….

هذا الكلام الناعم الجميل في شخص أول مدير لإذاعة الشباب في عهد بن علي وأول رئيس مدير عام للإذاعة التونسية بعد الثورة وعضو الهايكا الحالي لا يخلو من بعض التجاوزات التي تستحق أن نتوقف عندها قليلا رغم احترامنا لتجربة الرجل الإذاعية، فالأوصاف التي أغدقتها عليه قد لا يصدقها هو نفسه عن نفسه، سيما وقد ارتفع إيقاع الطبل كثيرا في عبارتها: الوحيد الذي كان يخالف التعليمات!!

لا شكّ أن الأغاني الملتزمة كانت مصدر امتعاض بعض المسؤولين من ذوي الأفق المحدود والرؤية المسطحة وقد كانوا كثرا في أروقة الإذاعة العمومية ومكاتبها، لكن لم تكن ثمة تعليمات بمنعها، وقد ارتبطت هذه الأغاني بسياقات لم تكن للنظام السياسي مشكلة معها، كالقضية الفلسطينية والحرب اللبنانية وغيرها من الثورات، وكان له من الدهاء ما يمنعه من الوقوع في مقاومة الأغاني وملاحقة الرسائل المشفرة التي يتوهم بعض المذيعين أنهم بصدد إرسالها إلى الناس إذا ما أسقطوا نصوص الأغاني على واقعهم. بل إن عبقرية التجربة التونسية جعلت من أغنية أولاد أحمد: “نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد” أغنية وطنية رغم أنها تنتقد التهجير والتشريد والإقصاء، وفي حفل مائوية الشابي قرأ أولاد أحمد أيضا أمام وزير الثقافة في توزر رسالة تضمنت نقدا سياسيا لاذعا بأسلوب ساخر، وعرضت القناة الثانية وقائع الحفل كاملة دون اجتزاء، هذه بعض النماذج وغيرها كثير لمن يريد إيهامنا اليوم بغاية رمي التاريخ في المزبلة أن الوضع الإعلامي والثقافي كان في عهد بن علي في منتهى القتامة والانغلاق والتردي، وأن ثقافة الأب الحنون وحدها هي الطاغية حتى أصبح مجرد بث أغنية للشيخ إمام هو عنفوان الثورة والمجد. هذا غير صحيح بالمرة، فالمشهد الإذاعي كان بانوراميا تتعايش فيه كل ألوان الطيف، ويمكن العودة بسهولة إلى شهادات ختم الدروس الجامعية بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار للوقوف على نماذج رائدة ومجددة في العمل الإذاعي احترمت العقل التونسي وحق المواطن في إبلاغ صوته وناقشت المسألة الاجتماعية دون أن تقدم بالضرورة أغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة وأخواتها مما اختص بها زميلنا المذكور أعلاه.

لم يكن الحبيب بلعيد الوحيد الذي بث أغاني الشيخ إمام في الإذاعة التونسية لكنه كان الوحيد الذي كافأته الثورة على ذلك وغفرت له بفضلها كل ما تقدم من عمله الإذاعي وما تأخر، وكأنه لم يفعل في حياته المهنية غير هذا، في وقت نصبت فيه محاكم التفتيش لقراءة الضمائر والنوايا وملاحقة الشبهات البنفسجية لدى الجميع. وكان مؤسفا حقا أن يلجأ زميلنا المتقاعد عندما أصبح الفاتق الناطق في المؤسسة إلى أساليب تَوهّمنا أن الثورة قد قضت عليها وأن من تربى على قيم الأغاني الملتزمة لا يمكن أن يقبل بها بأي حال، فما قيمة الأغنية إن لم تقوّم النفس الأمارة بالسوء وتهذبها وتزرع فيها بذور الحكمة والأمانة والصدق والإخلاص؟

ما كنت لأكتب في هذا لكن الشيء بالشيء يذكر، فمثل هذا الموقف يعيد بإلحاح إلى الواجهة ضرورة تحري المسألة الإعلامية في العهد السابق وقراءتها بتأن وبلا تشف، نريد قراءة ثلاثة وعشرين عاما من الإذاعة والتلفزة بعين العدل والقسطاس، بكثير من التواضع للحقيقة، بعيدا عن المعرفة المسطحة والإسفاف. فلقد قادتنا صفحات التواصل الاجتماعي إلى ثقافة سهلة مريحة ملطخة بالدماء الآدمية التي ينثرها هنا وهناك آكلو لحوم البشر، والنقيبة قد اكتوت بنيرانهم طويلا.


خارج عن السيطرة

Mosquée Ez-zitouna 04حدثني أحد الأصدقاء قال:

بعد رحيل بن علي اعتلى المنبر في المسجد الذي كنت أصلي به الجمعة رجل لا أعرفه، لم أسأل عن مآل الخطيب السابق فقد كان واضحا أنه أجبر على البقاء في البيت بعد أن عصفت به رياح لم يتهيأ لها.

تكلم الخطيب الجديد يومها فارتجل الكلام ارتجالا، ونظم الدعاء بطلاوة آسرة، كان صوته يعلو وينخفض، يسرع ويبطئ، يتلون ويتموج فانشدّت الأنظار إليه من أول كلمة نطق بها إلى أن أقام الصلاة، وما هي إلا أن فرغ الجمع من الركوع والسجود والدعاء فاستقبلهم الإمام الخطيب قائلا يا عباد الله، لقد بلغنا من الإخوة المصلين اقتراح بأن نُغــيّر وقت هذه الصلاة فنجعلها في الواحدة بعد الزوال فما قولكم؟

اشتدّ اللغط في المسجد وعلا هرج المصلين استنكارا لهذا الاقتراح، فقد حرص تنظيم المساجد منذ “العهد البائد” على أن تُصلى الجمعة في وقتين مختلفين: عند دخول الظهر وعند نهايته فتتصل بصلاة العصر وهو الأنسب في القيظ، وكان المرء يختار الوقت المناسب بحسب مهنته إذ لا تعطل أعمال الناس أيام الجمعة في تونس المحروسة إلا مساء خلافا لما هو سائد في الشرق.

ولما بدا واضحا أن الأمر لا يحظى بإجماع الحاضرين قال الإمام الجديد: لنحتكم إلى رأي الأغلبية، أو ليست تلك هي الديمقراطية، وليرفع يده كل من يرغب في تغيير وقت الصلاة في هذا المسجد! لكن الهرج تزايد واللغط اشتدّ وامتنع الحاضرون وكانوا بين جالسين وواقفين عن استفتاء الإمام، فما كان منه إلا أن صاح من جديد: يا عباد الله لا يجوز هذا اللغط في بيت العبادة، لنترك الأمر كما هو ولنؤجل النظر في اقتراح الإخوة إلى حين.

توقف صديقي قليلا ثم قال: وفي الأسبوع الموالي تغير وقت الصلاة وارتفع أذان الجمعة في الواحدة بعد الزوال، فانقطعت عن هذا المسجد الجامع وصرت أقطع عشرات الكيلومترات بحثا عن الصلاة الثانية ولم يتيسر لي سماع خطبة أخرى لهذا الإمام الخطيب إلا في مناسبتين اثنتين علقتا في بالي وكانتا الدافع الأكبر لحديثي هذا.

ازداد شوقي لمعرفة الحكاية بعد أن خلت أنها بلغت النهاية فاستسلمت لحديث الصديق وأصغيت بانتباه، قال: عدت إلى ذلك المسجد مرة في عطلة عيد الأضحى، يومها رفع ذات الإمام يديه إلى السماء متضرعا في خاتمة الخطبتين: اللهم عليك بالعلمانيين، شتت شملهم وأبد نسلهم… فتملكني خوف شديد من أن تفلت مني كلمة آمين وأنا أعتبر نفسي رغم مواظبتي على الصلاة أحد العلمانيين. أما الخطبة الثانية التي حضرتها إثر ذلك فكانت القطرة التي أفاضت كأس صبري، لقد فوجئت يومها بأذان واحد يرفع للجمعة ولم يخرج أحد كعادته لينبه المصلين بأن من لغا لا جمعة له كما درجت العادة في المساجد التونسية وعلمت آنفا أن رفع الأذان ثلاث مرات هو في المذهب الوهابي بدعة عثمانية وكل بدعة ظلالة وكل ظلالة في النار، وأن هذه البدعة قد ألغيت من هذا المسجد ، ليس هذا مهما فقد كانت خطبة الإمام يومها  أشبه بكابوس لم أفق منه حتى الساعة، لم يقتصر فيها على الدعاء على العلمانيين بل أضاف فيها حديثا عن الجهاد والجهاديين وبرأ نفسه من حث الشباب على الجهاد في سوريا لأن تونس على حد قوله أولى بجهاد شبابها، وقال لا فظ فوه: ينتظر العلمانيون منا أن نعود إلى السجون ويعودوا هم إلى سدة الحكم هيهات هيهات، لن يكون ذلك إلا أن تغرق البلاد في بحر من الدماء، فغايتنا التي لن نتنازل عنها هي تحكيم شرع الله طال الزمن أم قصر.

عند هذا الحد سكت صاحبي سكتة طويلة، خلت أنها استغرقت دهرا وأضاف: لقد سألت عن ذلك الإمام وعن الملّة التي ينتمي إليها فقيل لي إنه من أحد التيارات الإسلامية المعتدلة ! وهو معروف بانتسابه إلى الجناح الأكثر تشددا داخلها ! أما عن مستواه العلمي فهو لا يتجاوز الثالثة من التعليم الثانوي.

قلت لصاحبي لعلك قد انتهيت بمغادرة هذا المسجد الجامع إلى غير رجعة فالأئمة الخطباء تتباين مستوياتهم وتختلف، لكنه رمقني بنظرة تحمل أكثر من معنى: لقد أحدثت في خطب ذلك الرجل ندوبا عميقة لم أبرأ منها بعد، لقد احتقرت نفسي جالسا بين يدي ذاك الإمام ومن هم في درجته ونوع تفكيره فلعله أن يكون قاتلي من غير أن أدري لقد فقدت الرغبة في الصلاة وأخشى أن ينتهي بي الأمر إلى ما لا تحمد عقباه.


الاتجاه الظلامي في أفكار يمينة الزغلامي

يمينة الزغلامي

يمينة الزغلامي

تحولت قضية مضيفة الخطوط التونسية والحجاب إلى قضية رأي عام بعد أن تصدّت النائبة عن حركة النهضة بمجلس نواب الشعب يمينة الزغلامي للدفاع عن المضيفة ضد قوانين المؤسسة التي تشغلها. ويمكن إجمال آراء النائبة المحترمة في ثلاث نقاط: أولها ضرورة أن تتناسب الأنظمة الداخلية للمؤسسات مع ما جاء في الدستور، ثانيا تنزيل القضية في إطار حرصها والمجلس على الحقوق والحريات، وثالثا التزامها بأن يتبنى نواب المجلس قضية أي مواطن يلجأ إليه أيا كان انتماؤه السياسي وتنطوي هذه النقاط الثلاث على مغالطات استماتت النائبة في تغطيتها بالانفعال والصراخ والإيحاء بأن السعي حثيث إلى إعادة المنشور 108 الذي استخدم سابقا لمنع الزي الطائفي.
المغالطة الأولى تكمن في سحب مبدأ حرية الملبس الواردة في الدستور على الأنظمة الداخلية للمؤسسات، إذ تمثل هذه الأنظمة عقودا بين المؤسسة وموظفيها، والعقد شريعة المتعاقدين بما يجعل السياق مختلفا كليا عن أي تدخل سياسي أو إيديولوجي باسم السلطة، وما ينزع عن الأمر أي مظهر تعسفي هو البُعد الوظيفي للملبس، فالمظهر هنا هو أداة عمل مضيفة الطيران الأولى ولكل شركة طيران صورة خاصة تحرص عليها. وتتعلق المغالطة الثانية باعتبار النائبة أن القضية قضية حقوق وحريات وأن تدخلها للدفاع عن المضيفة إنما هو بسبب الخوف من التراجع عن المكاسب التي تحققت بفضل الدستور، إذ ليس يعرف لهذه النائبة ومن هم في صفها بمجلس نواب الشعب والمجلس التأسيسي مواقف تذكر في سياق الدفاع عن الحريات، بل إن كل فصول الدستور التي تدخل ضمن هذا الباب ما كانت لتنجو من مماحكات النهضة ودعواتها إلى فرض استثناءات بداعي تناسب حقوق الانسان الكونية مع الشريعة الإسلامية، كما لا يعرف للإخوان المسلمين في أي بلد يستفحلون به نضالٌ من أجل الديمقراطية والحرية إلا أن يكون مطيتهم في التمكين، من ثمة فإن الحرية التي يدافع عنها هؤلاء هي حريتهم هم في السيطرة على المجتمع وفرض الوصاية عليه. أما المغالطة الثالثة فتكمن في التزام النائبة بتبني قضية أي مواطن مهما كان انتماؤه السياسي فهي تستولي هنا بكل وضوح على جميع السلطات وتشلُّ أيدي الإدارة والقضاء وسائر المنظمات الموكول لها الدفاعُ عن حقوق العمال، وليس ذلك من مشمولات المجلس المختص في التشريع أساسا، أما الاستقواء بالمجلس ونوابه من قبل الموظف في قضية إدارية بحت فيدخل ضمن توجيه الرأي العام وإغراقه في قضايا وهمية يؤججها الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بينما لم تمرّ بمراحل التظلّم الأولى بعد عبر الإدارة والنقابة والقضاء، وما مرورها بهذا الشكل المفاجئ من قمرة القيادة في الطائرة إلى أحضان يمين الزغلامي في المجلس الا مبعث للريبة ولا شك!.

يبقى السؤال في النهاية، هل يتعلق الأمر بموقف فردي من النائبة يُفسّرُ بغلبة الطبع على التطبع، أم هو شغل سياسي متقن من جناح صارم داخل النهضة في وقت انشغل فيه الجميع بمواقف شيخ الحركة وتنازلاته الرشيقة حتى إذا ما تعلق الأمر بسؤال صحفي ماكر عن حقوق المثليين في بلد مسلم!


عدالة ساكسونيا

عدالة ساكسونيافي القرن الخامس عشر عرفت ولاية ساكسونيا الألمانية قانونا شهيرا ارتبط باسمها على مرّ العصور، وهو قانون يميّز بشكل سافر بين النبلاء والفقراء في تطبيق العقوبات، فالفقير الكادح يُعدَمُ في الساحات العامة بقطع رقبته، أما الغني ذو الحظوة والمكانة فيُعدمون ظلَّه!

وقضية نقابة التلفزة التونسية مع شركة “كاكتوس” لم تخرج بعد من نطاق عدالة ساكسونيا، فقد أنهت محاكم البلاد تقريبا النظر في كل الملفات المتعلقة بالثورة وبتّت فيها، فأطلقت سراح كبار مسؤولي الدولة في “العهد البائد” بعد أن لم تَجِدْ في ملفاتهم ما يمكن أن يُدينهم وأوصتهم بعدم الظهور في الأماكن العامة احتراما لمشاعر الراكبين على الثورة، ثم أغلقت المحاكمُ العسكرية قضايا الشهداء والجرحى ووضعت الختم العسكري الثقيل على مقولة السبسي الشهيرة: “القناصة إشاعة”، وأخيرا برّأت ابنة زين العابدين بن علي ذاته من تهمة تبييض الأموال ورفعت عنها قرار تحجير السفر حتى تتمكن من الذهاب إلى المملكة العربية السعودية لأداء مناسك العمرة! يحدث هذا بينما يتواصل تحجير السفر على الأستاذ محمد الفهري شلبي المدير العام الأسبق للتلفزة التونسية بوصفه أحد خمسة مسؤولين لم يقولوا: “لا” في وجه سامي الفهري عندما كان يصول ويجول، فالقضية الوحيدة التي ترتخي أمامها عضلات القضاءهي هذه القضية التي اتهم فيها المديرون باقتناء برامج خارج قانون الصفقات العمومية وهي قضية تأبى المحاكم البت فيها وغلق ملفّها وإعطاء المتصلين بها حقوقهم، مواصلةً تسليط عقوبةِ المنع من السفر على شخص حتى لو أدين لما عوقب بمثل هذا العقاب الظالم!

تستمرّ هذه القضية حتى الساعة رغم أن شركة كاكتوس التي صادرت الدولة نصيب بلحسن الطرابلسي في رأس مالها تبث برامجها بذبذبات الحوار التونسي القناة المعارضة الأولى لنظام بن علي وتحقق أعلى نسب المشاهدة(!). هكذا أعيد توزيع المقاعد من جديد، بقي من بقي في مكانه وغيّر من غيّر مكانه، حصل كثير من المذنبين على صكوك التوبة الغفران ودخل من دخل بيت أبي سفيان. ولم تنتبه العدالة إلى أن مماطلتها في هذه القضية لا تجعل منها مأساة انسانية واجتماعية في حياة الأستاذ محمد الفهري شلبي فحسب بل أيضا كوميديا سوداء مضحكة، لقد ظلّ الراكبون على هذه الثورة يبحثون عن مؤيدات تُـقنعهم هم أولا وتقنع العالم ثانيا بوجهة نظرهم، إذ ينبغي الكثير من الجرائم والكثير من المتهمين والكثير من الضحايا حتى يقتنع الناس بأن تونس كانت تعيش حالة الجاهلية الأولى قبل هذا الطوفان، ومثلما لم يجرؤ بن علي على محاكمة معارضيه باسم الاختلاف السياسي ولفق لهم قضايا تحرش و اغتصاب و تخابر مع دول أجنبية فعل خصومه أيضا عندما استلموا السلطة، فلم يقدموا مسؤولا واحدا إلى العدالة بتهمة الاستبداد والانحراف السياسي بل تركوا المحامين والنقابات والفضوليين يقدمون قضايا ذات خلفية سياسية تفوح منها روائح الانتقام الشخصي تحت مسميات مختلفة أبرزها إساءة التصرف في المال العام أو مخالفة قانون الصفقات العمومية، وهكذا اختلط الحابل بالنابل وَوُضِع البيض كله في سلة واحدة، ونظرا لتفاهة الكثير من القضايا المرفوعة وخواء ملفاتها من المؤيدات والقرائن الدامغة لم يعاقَبْ أحدٌ من الذين قال عنهم الرئيس في سويعاته الأخيرة: “غلطوني وسيحاسبون”، لكأنهم أول المستفيدين من الثورة التي قامت ضدّهم، “فسيادته” لو حاسبهم كما توعّد لما أطلق سراحهم مثلما فعلت عدالة ساكسونيا.


كنت دايخة سي علاء…

عبد الوهاب عبد الله

عبد الوهاب عبد الله

قدمت قناة الحوار التونسي حلقة مميّزة من برنامجها الشهير “عندي ما نقلّك”، وهي كذلك لأنها تضمنت حكاية غريبة  لم نتعوّدها، حكاية فتاة مقعدة بسبب إعاقة لازمتها منذ الصغر جاءت إلى البرنامج تشكو قريبا لها اغتصبها على سرير نومها، وعندما اشتكته إلى الشرطة ادّعى أن المواقعة كانت برضاها، ولمّا كان المدّعى عليه حرّا طليقا أربع سنوات بعد الواقعة فمن الواضح أن السلط القضائية اقتنعت بروايته هو ورمت بادعاءات المجنيّ عليها عرض الحائط، وهو ما دعاها إلى أن تجرّب وصفة تلفزيون الواقع علّها تظفر منه باعتراف على الملأ قد يعيد أوراق القضية إلى باحث البداية من جديد أو يغير وجهتها نحو قصر البلدية لعقد قران يحفظ لهذه الفضيحة ماء وجهها.

وشعورا منه بغرابة الواقعة التي جاءت من أجلها الفتاة مستضيفة مُغتصبَها حاول منشط البرنامج التثبت من بعض المسائل التقنية المتعلقة بحيثيات الاغتصاب إذ لا مناص في تلفزيون الواقع من جرأة تبلغ حدّ الوقاحة أحيانا من أجل المزيد من الإثارة وتصعيد التشويق، فسألها إن كانت بمفردها ساعة الاغتصاب أم لا وكيف تسنى لهذا الشاب أن يصل إلى فراشها دون أن يتفطّن إليه أحد، وإمعانا منه في الإثارة سألها كم استغرقت العملية فقالت نصف ساعة كاملة ولما سألها كيف تعجز طيلة هذه الفترة عن إبداء مقاومة تجلب انتباه النائمين معها في الغرفة أجابته: “كنت دايخة سي علاء…”!

(مواصلة القراءة…)


المهرولون

دموع التماسيح

دموع التماسيح

للتونسيين مع الدموع التلفزية تاريخ طويل، فمنذ زمن الأسود والأبيض لم تكن خطب الزعيم الحبيب بورقيبة تخلو من لحظات عاطفية تتغير فيها نبرته وتترقرق دمعته فيتوقف ليرفع النظارات ويمسح عينيه ويعدل صوته ثم يعود إلى السياق كأن شيئا لم يكن. كان يُحدث الناس عن طفولته وأمه ونساء عائلته فيبكي ثم يعلن أن تحرير المرأة هي قضيته الشخصية الأولى، ويحدث الناس عن الزنازين التي اقتيد إليها والمنافي التي أبعد فيها فيبكي ثم يؤكد أنه قد انتصر على الذين كانوا يعتقدون أن إخراج فرنسا أمر مستحيل، وكان يغالب دموعه كلما تذكر أن تونس ستستمر من بعده، وسرعان ما يطمئن جمهوره على مستقبلها لأن أساسها متين لا تقتلعه العواصف العاتية.

كنا نحب الزعيم ونحب خطبه ودموعه التي هي أبلغ من كل صيغ التوكيد في اللغة، وعندما كبرنا وحدثونا عنه اتضح أن كل تلك الدموع التي ذرفها في خطبه كانت جزءا من سيناريو متقن للتواصل الجماهيري في زمن كان فيه بعض الزعماء يستحوذون على مشاعر الملايين بدمعة وابتسامة. ورغم ذلك لم يشكّ أحد في صدقها لأنها كانت رسائل عاطفية مشفرة ترسخ في الأذهان العلاقة الأبوية التي تربط الزعيم القائد بالشعب وتجعله المرادف الرمزي للدولة.

وفي نهاية الثمانينات، عندما غنى محمد عبد الوهاب رائعته “من غير ليه” بكى صالح جغام في برنامج تلفزي غضبا على أشخاص لم تعجبهم الأغنية وقال كلمته الشهيرة: “لا تكتبوا عن الأشياء التي لا تعرفونها ولا تشعرون بقيمته لأنكم لم تعيشوها”. كان صالح جغام صوتا من أصوات الإذاعة في عزها ورمزا من رموز الثقافة العصامية، وقبل سنة واحدة من وفاته المفاجئة كان في قلب تحولات المشهد الثقافي والإعلامي كمن يقود عاصفة بمفرده، تلك العاصفة التي بشّر بها الشابي من قبل لاقتلاع الجذور اليابسة، وكان عندئذ صادقا في دموعه لأنه كان يخوض معركة حقيقية ضدّ الرداءة.

من شهد سهرة الوداع الفلسطيني ذات ليلة صيف من إحدى سنوات التسعينات لا يمكن الا أن تعلق بذاكرته كما تعلق الذكريات الجميلة دمعة محمود درويش، كانت دمعة صغيرة لكنها نهر من الأحاسيس نَبَع من جهة في القلب لا يدركها الا الشاعر، في تلك اللحظة لم تستطع اللغة أن تقول بمفردها مشاعر شعبين عاشا معا اثنتي عشرة سنة كاملة بحلوها ومرّها، “هل نسينا شيئاً وراءنا؟ نعم… نسينا تلفُّت القلب، وتركنا فيك خير ما فينا، تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرا”، هي دمعة ترجمت إلى كل لغات العالم عرفان فلسطين بالسخاء العاطفي التونسي، واختصرت عمرا مشتركا امتزجت فيه الدماء بالدماء عندما لاحقت طائرات العدوّ تحت أنظار العالم منظمة التحرير الفلسطينية حتى شواطئ الساحل الافريقي الشمالية، في ليلة الوداع تلك تلألأت في بريق الدمعة صور السفينة وهي تدخل صباحا ميناء بنزرت حاملة المقاتلين الفلسطينيين وأيتام الشهداء القادمين من جهنم بيروت، ضاقت بهم الأرضُ على رحابتها ففتحت لهم تونس أحضانها، تلفعت زوجة الرئيس بكوفية فلسطينية وحملت في ذراعيها طفلا وتقدمت المقاتلين وهم ينزلون من السفينة على وجوههم غبار المعركة الأخيرة والحصار وعلى أكتافهم رشاشات لم يطلب منهم أحد خلعها قبل الهبوط إلى أرض قرطاج. وظلت تونس تفتخر طويلا بأنها البلد العربي الوحيد الذي لم يخرج منه الفلسطينيون مطرودين، بل عادوا منها إلى ما يشبه البلد وما يمكن اعتباره بداية الاعتراف بالدولة.

وكم كان مؤثرا مشهد أرملة شهيد إسلامي وهي تقول لأحد قادة حركة النهضة باكية: لا تنتقموا، حدث ذلك في أعقاب الانتخابات الأولى بعد الثورة وكانت شماريخ الفرح تملأ سماء مونبليزير، كانت تلك المرأة التي تعرف الجمر أكثر من غيرها تبكي من شدّة الفرح، وكانت دعوتها أبناء الحركة للصمود في وجه ثعبان السلطة وإغراءاته ذروة الشموخ الذي يكلل كل القصص الأليمة، لكنّ صورتها ضاعت شيئا فشيئا في ضباب الكراهية السوداء وتلاشت في دخان الحقد الأعمى.   للدمعة هيبتها وللابتسامة رونقها عندما تنبعان من القلب وتفيضان صدقا وبهاء، لكننا صرنا إلى زمن تهاوت فيه القيم وتبعثرت تحت أقدام المهرولين والمتسلقين، ومثلما لا يشك أحد في صدق هذه الدموع التي ذكرت لا يختلف عاقلان في أن الدموع التي تقطر نفاقا ورياء لا تثير في النفس أي أسف أو أسى بل تستفز مشاعر السخط وتتحول بمرور الأيام إلى ما يشبه النكتة أو الموقف السخيف الذي يتندّر به الناس، يدخل ضمن هذا الباب بكاء ذلك الوجه الرياضي المعروف وهو يشكر “سيادة الرئيس” ويدعو لوالديه بالرحمة لما أنعم به على القـناة وباعثها، ولا يختلف عنه في شيء مدير الحملة الانتخابية للرئيس المنتهية ولايته عندما بكى بين يدي سمير الوافي نيابة عن مساجين العهد السابق من غير أن ينتبه إلى أن ضحايا القهر الحقيقيين لا يبكون، وليسوا في حاجة إلى من يبكي نيابة عنهم، فتلك خصلة أخرى من الخصال التي تجعل الناس أمامهم يتضاءلون، وكل بُكاء مأجور باسم معاناتهم هو ضرب من التحيّــل الموصوف.


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress