الدكتور المنصف المرزوقي

الدكتور المنصف المرزوقي

أعتذر سيدي الرئيس فأنا لم أشاهدك وأنت تفتح دولاب أسرارك في التلفزيون لمن يجرؤ فقط، الذنب ليس ذنبي، ليلتها كنت منشغلا بما كتبه على حائط بيته الافتراضي صديقي الأستاذ محمد الفهري شلبي فلم أشاهدك سيدي الرئيس.
لم أستطع النظر في وجهك رغم أنك رئيس البلاد (لاحظ أنني لا أستعمل لفظ المؤقت، فهي عبارة بلا معنى، وها هي الأيام المؤقتة تتمطط وتتمطط لتطول وتطول وتلتفّ حول أعناقنا كالأفاعي لتخنقنا، الذنب ليس ذنبك أنت أيضا فأنت الوحيد تقريبا الذي لم تنطل عليه حكاية العام)
كنت تتحدث في قناة التونسية التي أسسها سامي الفهري لبث برامج شركة كاكتوس بعد أن أغلقت أمامه أبواب القناة التلفزيونية العمومية، (قناة البيليك)، حدث ذلك بعد 14 جانفي.
لم أشاهدك ولم أتبيّن من اللغط الذي رافق بث البرنامج غير تلميحات مناوئة من هنا وهناك حول الساعة الرئاسية المعطلة التي لم ينتبه إليها مستشاروك، قبل بدء التسجيل.
سأشرح لك الأمر قليلا، فالرئيسُ ليس شمسا لتشرق على كل شيء.
الأستاذ محمد الفهري شلبي أحد مديري التلفزيون السابقين لفترة قصيرة لكنها كانت كافية لتجعله يقف أمام العدالة في قضية كاكتوس الشهيرة.
(طبعا ستقول في سرّك أو في علنك أنك غير معني بهذا، فمِن وجهة نظر “الثورة” في عقلها الانتهازي كل من عمل مع بن علي لا بدّ أن يدفع الثمن (هكذا!) وأن العدالة حرّة مستقلّة سيدة قرارها سواء أتعلق الأمر بقضية زطلة أم بقضية اغتصاب أو أموال عامة، ونحن لا نختلف معك في هذا بل نضيف إليه تواضع صلاحيات الرئاسة ورخاوة هذه القضية العجيبة لنقول لك إننا لا نأمل من سيادتكم شيئا وأن مخاطبتكم عبر هذه الرسالة هي حيلة شيطانية من حيل الكتابة لا غير).
عفوا سيدي الرئيس، هل تذكرت هذه القضية؟ هل تعرف تفاصيلها؟ هل تعني لك شيئا؟
إنها القضية الوحيدة الباقية من قضايا الثورة!
وزراء بن علي ومستشاروه، ومديرو أمنه وأمانه، أولئك الذين أنتم أول من يعرف أنهم مسؤولون سياسيون من الدرجة الأولى عن الحكم الدكتاتوري عادوا جميعا إلى بيوتهم فرحين مسرورين ورفع عنهم تحجيرُ السفر، أولئك الذين كانوا أهل الحل والعقد، المسؤولون عن كل شيء بدءا من تعبيد مائة متر في مارث وطلْيِ حوافّها باللون البنفسجي وصولا إلى اختيار مقدّم برنامج الأحد الرياضي، هم المسؤولون عن كل شيء صدقني، أولئك يمكنهم الآن استئنافُ حياتهم بشكل عادي هم الذين قضوا داخل ماكينة بن علي عشرات السنين والذين قال عنهم في آخر يوم له (غلطوني). صحيح أن القاضي لم يتردّد في أن يطلب من أحد أكبر المستشارين السابقين أن يتجنب الظهور في الطريق العام، لكن تلك الملاحظة الرشيقة لا تعني شيئا أمام الحرية!
مفتي الجمهورية نائب سابق في البرلمان، ومحافظ البنك المركزي وزير سابق، وفي الحوار الوطني وزراء سابقون في دولة بن علي شاركوا في اختيار رئيس حكومة الوفاق الوطني!
داخل الأحزاب والجمعيات سياسيون قدامى من عهد البايات يصبغون شعورهم ويعودون من جديد كالمومياء التي تستيقظ من موتها لترعب الناس!
والتونسيون لا يفهمون شيئا مما يحدث أمامهم!
يعلق البعض بسخرية مريرة وهم يضربون كفًّا بكف وينسحبون إلى شؤونهم الصغيرة يائسين من كل شيء: الحجرة لا تذوب (تلك طريقتهم في قراءة الواقع، لكنهم لا يفهمون حقا معنى العدالة الانتقالية المقبلة في مهرجان النفاق هذا).
أما أنت فعندما سألك محاورك عن سر استقبالك للوزير الأول في عهد بن علي الأشدّ قسوة وكيف خرج يتحدث بعد لقائكم الصّابوني هذا عن الثورة والثوار، قلت: “أنا هنا لا أفعل ما أحبُّ بل أفعل ما يجب!”
لا فُضَّ فوك، رغم أنك فعلت كثيرا من الأشياء التي تحبّ وليتك تستطيع أن تفعل في هذه القضية الوحيدة الباقية ما يجب وما نحب!
قضية شلبي سياسية بامتياز، بل قل القضية السياسية الوحيدة المرفوعة بالوكالة، القضاء يمططها والواقفون وراءها يتلذذون هذا التمطيط بشكل سادي، يفعلون ما بوسعهم لتظلّ معلقة بين أيديهم أطول عدد من السنوات، يحركهم دافع الانتقام لا غير، والمتهمون فيها يقضون عقوبة أقسى من عقوبة السجن، وأي عدالة في الأرض تمنح الشاكي مثل هذه المتعة غير عدالتنا، حتى الإعدام في كل الأعراف الإنسانية يكون بضربة واحدة، وأنت الحقوقي تعرف أن القتل بالتقسيط أبشع أنواع القتل.

عدالة ساكسونيا في تونس

عدالة ساكسونيا في تونس

لا تضحك سيدي الرئيس، ربما أبعدتك سنوات الظلم عن البلاد طويلا فاختلطت أمامك الوجوه، الطرف الذي يماطل في هذه القضية ويفتعل ما يديم بقاءها بين أيدي القضاة الأجلاء، كان يراقب برامج كاكتوس ويرفع عنها تقارير الثقة إلى الوزارة، هل رأيت واقعا كاريكاتوريا أبشع من هذا سيدي الرئيس، والله لو لا خشيتي من أن تفهم قصدي بشكل مغلوط لقلت إنه سرك عمار!!
القضية مطروحة من وجهة نظر البيروقراطية، حول مدى احترام قانون الصفقات العمومية في ظل دولة لم يكن أي قانون فيها محترما، (عذرا سيدي الرئيس، مضطر لقولها هذه المرة إنه سرك عمار)
(سيدي الرئيس، هل تذكرت عمّار؟)
قد ترى الأشياء بشكل مختلف عندما تنزل ضيفا على كاكتوس ونحن قاب قوسين أو أدنى من الانتخابات! (من حقك أن تمتعض هنا، فنصف الشركة صادرته الدولة! وأنت تستطيع أن ترفع عن نفسك الحرج وتنظر بثقة إلى النصف الملآن من الكأس كأن تعتبر نفسك في ضيافة تلفزيون عمومي عندما تجلس في الجزء الذي كان على ملك بلحسن الطرابلسي!).
ومؤكد أنك علمت بأن كاكتوس تستعدّ هذه الأيام لإرجاع البرنامج الشهير “دليلك ملك”!! مما يدل على أن الشعب بدأ يتعافى من ثورته، (هل تعرف ما هو “دليلك ملك” وماذا يمثل في ذاكرة الشعب الكريم وفي تاريخ التلفزيون؟ هل رأيت طوابير التونسيين في المنزه هذه الأيام لاجتياز اختبار البرنامج؟ هل رأيت أحلامهم ومطامعهم وهي تعلو كالدخان الأبيض في سماء الصورة الرمادية وذاكرتها؟ لا أعتقد، فقد كنتم منشغلين بإعداد هذه الثورة وإخراجها عندما كانت صناديق “دليلك ملك” تنافس البروموسبور في تسلية التونسيين وإنقاذ أرواحهم من الملل وإبقائهم ولو بشكل مجازي على قيد الأمل).
أرأيت إذن، كيف توزعت القطع على الرقعة من جديد، كل واحد وجد مكانه واتخذ موقعه، أتيتم من المنفى إلى قصر الرئاسة وعادت ماكينة كاكتوس محملة بالصناديق لتسلية أرواح يمزقها الملل وكأن شيئا لم يكن!
والأستاذ محمد الفهري شلبي لا يطلب شيئا أكثر من هذا!
أن يذهب إلى مكانه الجديد في هذه الرقعة، لكن القضاء يتباطأ في ذلك، (نعم هو نفس القضاء الذي ختم النظر في قضايا الشهداء وأطلق أحكامه الشهيرة عن القتل على سبيل الخطأ وأخرج المتهمين من السجون لأنهم قضوا عقوبتهم).
إنه ينشر على رؤوس الملأ شهادة إفلاسه المالي ويعلن رغبته الحارقة في أن يغادر البلاد عندما ينتهي مسلسل الظلم والعقاب المجاني (عفوا سيدي الرئيس، لا تعتبر هجرته إذا حصلت منفى، بل قل إنها تدخل ضمن باب التعاون الفني، فالأستاذ إذا حذفنا من حياته سبعة عشر شهرا فقط قضاها رئيسا مديرا عاما للتلفزيون هو قيمة ثابتة في العلم والمعرفة تخطب ودّه أكبر الجامعات في العالم، لكن تحجير السفر في هذه القضية الوحيدة التي لم تنته يعطل رحيله ويجعله يراوح مكانه رغم أنه على أبواب التقاعد الإداري).
لو كان محتجزا في قضية قتل شهيد لكان الآن قد انتهى منها!
معاذ الله أن نتطاول على هيبة القضاء فنناقش براءة الأستاذ من عدمها فلم يعد لذلك معنى.
بل ستعجب سيدي الرئيس لو همست لك: ليته كان مذنبا وبتّ القضاء في أمره وانتهينا، ليعرف طريقه الجديد.
حتى المحكوم عليهم بالإعدام مطمئنون نفسيا لأنهم يعرفون إلى أين هم ذاهبون، الا المتهمون في هذه القضية، يخرج الواحد منهم من بيته إلى المحكمة صباحا وهو لا يعرف إن كان سيعود إلى السجن التحفظي أم سيخرج بريئا أو ستصدر في حقه الأحكام، فقط يتقدم ممثل الادعاء فيفيد بأن في حوزته معطيات جديدة، وهكذا يؤجل القاضي الجلسة إلى حين، ويظل المتهمون عالقين.
بربّك يا سيادة الرئيس اخلع عنك كل الجمل الطنانة حول سلمية الثورة التونسية ووداعة ثوارها وحِلمهم فهي أضغاث أحلام رئاسية، أنت الوحيد الذي يعتقد أن المشانق لم تنصب وأن محاكم التفتيش لا وجود لها في تونس، بينما كل الوقائع تقول عكس طمأنينتك تلك، دع عنك هذا وقل أيهما أفضل: أن يصدر بحق شخص ما حكم بالسجن ولو ظلما فيقضي عقوبته وتعود إليه كل حقوقه المدنية ليستأنف حياته من جديد، أو أن يظل هذا الشخص معلقا على حبال الانتظار لفترة أطول من فترة السجن لو استقر في وجدان القاضي أنه مذنب؟ خلال هذه الفترة يمنعه القانون من السفر وتتردى أحواله الاجتماعية والنفسية يوما بعد يوم، ويتقدم به العمر وتتضاءل الآفاق فأي قيمة للبراءة عندما يعلنها القاضي بعد فوات الأوان؟

الدكتور محمد الفهري شلبي

الدكتور محمد الفهري شلبي

تحجير السفر في حد ذاته عقاب لأنه يسلب المواطن أحد أهم حقوقه الدستورية، و لا اعتراض على ذلك طالما كان هذا الإجراء ضروريا لضمان حسن سير العدالة، لكن عندما تنسى العدالة أنها قد سلطت عقابا مسبقا على أشخاص هم بحكم القانون أبرياء حتى تثبت إدانتهم، وعندما تنسى العدالة أن هذه العقوبة هي إعدام مهني قاسٍ فإن في الأمر خللا ما، لا اعتراض سيدي الرئيس على استقلالية القضاء بل على البطء الشديد الذي يجعل المتهمين وهم أبرياء في نظر القانون يعاقبون بما هو أشدّ من السجن، نعم، وضع الدكتور محمد الفهري شلبي إذ يخسر كل عام إمكانية الالتحاق بجامعة أجنبية للتدريس هو أقسى من السجن، وأنت يا سي المنصف المرزوقي تعرف ذلك لأنك كنت في عهد بن علي سجين بيتك في القنطاوي، ولطالما كنت تردّد أن ذلك السجن أبشع من سجن المرناقية، ويحدث في عهدك أن يعيد التاريخ نفسه بتعديل بسيط على بعض التفاصيل.
كيف تريد سيدي الرئيس أن يشاهد اعترافاتك التلفزيونية في تلك الليلة الخارجة من كتاب الإمتاع والمؤانسة من كانوا في وضع الأحرار السجناء. وكيف تريدهم ألا ينتبهوا إلى الساعة الرئاسية المعطلة وما يرفرف حولها من معان؟
معذرة عن الإزعاج يا سيادة الرئيس، أنتم الذين تساءلتم في حملتكم الانتخابية الأولى: أليس من حق التونسي أن يعيش في بلاده محتفظا بكرامته؟ وأنا من موقع التجربة المريرة أول شخص سيفرح يوم يجتاز الأستاذ عتبة الجمارك ويركب الطائرة مثلما فعلنا، فكرامته المحفوظة في قلوب تلامذته وأصدقائه سيجدها في انتظاره في أيّ بلد يحطّ به وسيستردّ هيبته ويحتلّ مكانه الذي هو أهل له. أما تونس فهي لكم الآن، أطلقوا سراحنا وافعلوا بها ما تشاؤون.

عامر بوعزة