نور الدين البحيري

نور الدين البحيري

عندما سئل نور الدين البحيري في وسائل الإعلام عن كتاب الصحفي الشاب أحمد نظيف “المجموعة الأمنية وانقلاب 1987″ لم يتردّد في إبداء استخفافه الشديد بهذا المؤلَّف مبرّرا موقفه بأنّ الكاتب لم يكن يتجاوز السّنتين من العمر عندما وقعت الأحداث التي يتناولها الكتاب! وبذلك يكون البحيري الذي يعتبر من القيادات الإسلامية المثيرة للجدل قد وضع الكتاب بموقفه هذا في اللّحظة الرّاهنة، مؤكدا أنه ليس كتابا يؤرخ لحدث مضى، بل هو كتاب عن “الآن وهنا” في تونس التي يمثل فيها الإسلاميون رقما صعبا، إذ ما تزال النهضة ممزّقة بين إنكار جهازها الخاص الذي عمل على قلب نظام الحكم سنة 1987 والاعتراف به بوصفه جزءا من تاريخها السرّي.

لم يكن الكتاب معنيا كثيرا بمسألة إثبات وجود الجهاز الأمني من عدمها، فذلك أمر هيّن لا يحتاج كتابا كاملا، إذ الأدلّة والشّهادات على سعي حركة الاتّجاه الإسلامي إلى إسقاط نظام بورقيبة في 87 أكثر من أن تحصى ولا تقبل الدّحض، ويكفي أن نقرأ البرقيّة التي توجّه بها أعضاء المجموعة الأمنية إلى رئيس الحكومة النهضوي في 2013 طالبين تمكينهم من شهادة العفو العام حتى نقف على جملة من المعطيات التّاريخية حول الجهاز والمنتسبين إليه موثوق في صحتها لأنها تأتي من داخل الحركة، لكنّ البرقية تكشف أيضا عن توتّر واضح بين أعضاء المجموعة وقيادة الحركة وهي في الحكم يصل حدّ التّهديد، بما يجعلها وثيقة نادرة تكشف الوجه الآخر لحركة النهضة التي تبدو حركة سياسية متماسكة وقوية ويصعب الوقوف على تناقضاتها الداخلية، لولا سعيها وهي في السلطة إلى التّنصل من بعض تاريخها وإنكاره، وإذا كان ذلك شأنها مع المناضلين الذين تحمّلوا فيها أخطر الوظائف الأمنية، فكيف به مع الآخرين ولا غرابة حينئذ أن تجابه كتاب أحمد نظيف باللاّمبالاة والسّخرية المفتعلة.

يعود إنكار النهضة أن يكون جهازها الخاص قد أعدّ خطة للإطاحة ببورقيبة وحدد موعد تنفيذها يوم 8 نوفمبر 1987 إلى جملة من العوامل منها رغبتها الدائمة في التّنصّل من كلّ شبهات استخدام العنف حتى إن اقتضى الأمر الإبقاء على جزء من تاريخها قيد الكتمان وفي أفضل الأحوال تعويمه في نظرية “المبادرة الحرّة” حيث ينكر شق من قيادتها دائما علمهم بوجود أي مخطّط يستهدف الدولة المدنية ومؤسساتها ويعرض حياة الأفراد فيها إلى الخطر وينسبون ذلك إلى تجاوزات فردية لا تلزمهم، وهي عملية إعادة توزيع للأدوار والمواقف لم تعد تخفى.

العامل الثاني وراء تمسّك النهضة بإنكار رواية القيادي المنصف بن سالم حول المجموعة الأمنية هو قيام مشروع الانقلاب على فكرة اختراق مؤسّسات الدّولة والتّغلغل في دواليبها، وهذا الأسلوب لا يمكن أن يكون تخطيطا ظرفيا لمواجهة نظام سياسي كانت كل الظروف مهيأة لإسقاطه، إنما هو أسلوبها الأصيل، لأنها تاريخيا حركة سرية ممنوعة قبل أن تصبح حزبا سياسيا معترفا به، ومن شبّ على شيء لا بدّ أن يشيب عليه، أما العامل الثالث الذي يفسّر إنكار قيادات النّهضة الدّائم رواية الخطة الانقلابية وحوادث العنف والتفجير المنسوبة إلى الحركة رغم مضي أكثر من ثلاثين عاما هو الذّعر الشديد من توظيف هذا الماضي في إعادة توزيع أوراق الحاضر وقراءتها بما يدفعها إلى التعويل على قصر الذاكرة والتمعّش من حالة التصحر الثقافي السّائدة وانقراض فضاءات الجدل السياسي، فالحركة خصوصا بعد انتخابات 2014 وفي ضوء المتغيرات الجذرية التي عصفت بالإخوان المسلمين لا سيما في مصر أخذت تتنصل من كل ما يمكن أن يربطها بهذا التنظيم حتى لو كان ذلك ماضيها الشخصي.

كتاب أحمد نظيف كشف المستور حول المجموعة الأمنية ووضع حركة النهضة أمام تحدّ كبير لطالما خشيته: مواجهة تاريخها بلا مساحيق أو رتوش والاعتراف به كاملا غير منقوص، والكاتب لم يـأت بشيء من عنده بل قام بتجميع وثائق وأدلة من مصادر لا يرقى إليها الشك وليس ثمة بين رواياتها اختلاف كبير، وهي تؤكد أن الاتّجاه الإسلامي كان يخطّط للإطاحة ببورقيبة في نوفمبر 1987، وأن بن علي لم يفعل سوى استباق الجهاز الخاص للحركة، وهكذا التقى الطرفان لاحقا في هدنة استمرت سنتين كاملتين قبل أن تجرى انتخابات 1989 ويعود شبح العنف من جديد إلى الشوارع في سيناريو لا يختلف كثيرا عن سيناريو صائفة 1987، لكن ساكن قصر قرطاج هذه المرّة لم يكن شيخا هرما يطالب بإعدام المعارضين على طريقة الأباطرة كما فعل بورقيبة، بل حسم أمره في ما اعتقد أنه استئصال للحركة بينما هو قد أرجأ وصولها إلى السلطة ثلاثة وعشرين عاما.