Tag: قطر

الريزو طايح

قبل أن أتجه نحو بوابة العبور حيث الطائرة المتجهة من الدوحة إلى تونس، كان لا بد من اغتنام الفرصة، والقيام بجولة سريعة في السوق الحرة. فمطار حمد الدولي مصنف ضمن أفخم مطارات العالم وأكثرها رفاهية، والجولة في سوقه تحت زخات الضوء وابتسامات الحسناوات المنهمرة من كل مكان إغراء لا يقاوم.

                اقتنيت بعض الحلويات وانتظرت دوري أكثر من خمس دقائق اعتراني خلالها بعض السأم، بل تأففت في داخلي أكثر من مرة لأن مسافرة أوروبية أطالت الوقوف لسبب لم أتبينه أمام المحاسب الذي كان بصدد إنهاء معاملتها بكثير من الرفق والكياسة والصبر. ويلتفت إلي بين الفينة والأخرى تعبيرا عن تواطؤ خفي، وكأن لسان حاله يقول: ماذا تريدني أن أفعل…!

tpe-paiement-carte-bleu-1غادرت المرأة، وتقدمت، فحياني الشاب بلطف وطلب مني جواز السفر وبطاقة العبور، وبعد أن أعادهما إلي سألني هل سأدفع نقدا؟ قلت بالبطاقة البنكية. فرد بطريقة سريعة (تي هي 50 ريال)! وعندما هممت بسحب البطاقة من جيبي انتبهت إلى أن المتبقي بحوزتي من العملة القطرية يفي بالغرض، فعلقت على كلمته تلك قائلا: (طيب، لا بأس، سأدفع نقدا).

كان المحاسب شابا تونسيا في العقد الثالث من العمر، وسيما وفي منتهى الأناقة مثلما تقتضي مهنته وصرامة الضوابط الإدارية والتنظيمية في المطار. وقد أكد لي تصرفه أنه تونسي جدا! تونسي حتى النخاع، تونسي أكثر مما يجب! وإلا فأي معنى لعبارته تلك؟ وهل كان سيقولها لمسافر ياباني أو إنجليزي أو أمريكي؟ ولو فعل كيف ستترجم تلك (تي) اللعينة إلى لغات العالم، وهي التي على قصرها تحمل شحنة من التأفف والضجر لا نعرف سرّهما إلا نحن التونسيين!

أرجح أن (تي) فرطت منه دون أن يدري عندما وجد أمامه مسافرا يشبهه. أرجح أنها قفزت من أعمق أعماق شخصيته التونسية الساكنة في اللاشعور، تلك الشخصية القلقة منغرسة في ذواتنا كالنصل الحاد، كالإبرة، أو كالشوكة التي يصعب استئصالها عندما تنغرس في الجسد. تلك الشوكة ذاتها جعلتني قبل قليل لا أحتمل الصبر طويلا أمام المرأة التي كانت تنهي أمامي معاملتها بكثير من البطء وراحة البال وقلة الاكتراث بالآخرين.

ولكي نفهم سرّ (تي) هذه علينا أن نتخيل مثلا أن هذا الشاب كان يعمل محاسبا في أحد الفضاءات التجارية الكبرى في تونس. قبل أن يظفر بهذه الوظيفة، فعندما تقدم بطاقتك البنكية هناك للقيام بعملية دفع الكتروني عليك أن تكون على الدوام جاهزا نفسيا لعبارة (الريزو طايح) وهي عبارة فضفاضة تستخدم لتفسير كل شيء، خصوصا حين ترفض الآلة إتمام عملية الخلاص بعد دقائق طويلة من الدوران في الفراغ لا تفضي إلى شيء.

لقد شهدت في قطر خلال العشرية الماضية كيف تم تنفيذ عملية الانتقال الرقمي بتدرّج وحزم وصرامة. وكيف أصبح الدفع الالكتروني إلزاميا أيا كان المبلغ المطلوب. وكانت شبكة الاتصالات فائقة السرعة مفتاح النجاح الأساسي، كما إن المشروع لم يتعطل بسبب وجود أفراد لا يستخدمون البطاقة البنكية أو يعيشون خارج عصر الانترنت، بل أوجد لهم حلولا تساعد ولا تعطل. لكن المعاملات الالكترونية عندنا أصبحت بسبب اهتراء الشبكة وبطئها اختبارا بسيكولوجيا مريرا. فبعد تكرار المحاولة أكثر من مرة عليك أن تسحب البطاقة تحت أنظار طابور من المتأففين. وفيما تلتهم الأعين الشرهة مقتنياتك التي ستدفع ثمنها يجتاحك شعور بالحرج والحشمة ويتصبب منك عرق بارد، لأنك تخشى في لا وعيك أن يعتقد هؤلاء أنك تجاوزت ما يسمح به رصيدك البنكي.

ويا لها من ورطة، لو كنت غير متهيئ لمثل هذا الموقف السخيف، فتركك سلة المشتريات وانصرافك (وهو الموقف الطبيعي في مثل هذه الحالات لأنك غير مسؤول عن حالة التخلف هذه) ستعتبره تلك العيون المفترسة موقفا غير متحضر ومتعجرف! لكنك لن تفعل وستدفع نقدا لأننا في الحقيقة مسالمون، وسبب تخلفنا عن الركب هو تواضع إمكانيات الشبكة الوطنية للاتصالات لا الجهل، لكن الإدارة التونسية تشعرك كلما دفعت دفعا إلى اعتماد الحلول الرقمية (كما حدث في خضم جائحة كورونا) بأننا نعيش في مجتمع غارق في الجهل والأمية والتخلف. وقصة «الريزو الطايح» ليست إلا ذريعة لإلقاء المسؤولية على المواطن بدل تحملها بشجاعة. و(تي) التي جلبها هذا المحاسب الشاب معه من تونس (دون أن يدري) تعكس حالة القلق السائدة في هذا المجتمع الذي يمشي على رأسه بدل استخدام قدميه مثل كل المجتمعات!


كيف أساء نبيل معلول إلى قطر

الدوحة

الدوحة

كل تونسي أصادفه زائرا الدّوحة للمرة الأولى أحرص على سؤاله بعد يوم أو يومين من وصوله عن رأيه فيما رأى وعن المقارنة بين انطباعاته الجديدة والصورة التي كان يحملها من قبل عن قطر. وغالبا ما يعبّر الزائرون على تنوّع مستوياتهم الثقافية والاجتماعية عن انبهارهم بمستوى العيش في هذه العاصمة الخليجية المثيرة للجدل وعن اختلاف مشاهداتهم العينية عن الصورة القبلية التي كانت لديهم. والسبب في تلك الصورة أحكام مسبقة لا تستند إلى معطيات موضوعية بقدر ما تعبر عن خلفية سياسية وحساسية إيديولوجية، إذ عادة ما يكون الجدل الدائر بين السياسيين حول علاقة قطر بالإخوان المسلمين منطلقا لجعل البعض يعتقدون أن هذا البلد غارق في التزمت وأن الحياة فيه تشبه حياة البدو في عصور الإسلام الأولى أو على أقل تقدير أن تكون ضمائر الناس فيه خاضعة لرقابة صارمة يفرضها الدعاة ولجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يجعل حياة المسلمين غير المتديّنين وحياة أهل الكتاب صعبة وعسيرة.

(مواصلة القراءة…)


الدور الإسرائيلي في انتخابات اليونسكو

د حمد بن عبد العزيز الكواريِ

د حمد بن عبد العزيز الكواريِ

  القول بأن الصهاينة هم أكبر المستفيدين من الخلافات العربية وأنهم أحرص الناس على تغذيتها ليس مجرّد نسج على منوال نظريّة المؤامرة وعزفا على وتر المظلوميّة، بل حقيقة تؤكدها أدلّة كثيرة عبر التاريخ، من ذلك ما وقع في باريس أثناء التصويت المشوّق طيلة أسبوع كامل من شهر أكتوبر العام 2017 لانتخاب خلف للبلغارية “ايرينا بوكوفا” على رأس اليونسكو. هذه الانتخابات دارت وسط أجواء مشحونة بالتوتر السياسي على خلفية أزمة الخليج ما أدى في نهاية المطاف إلى إسقاط المرشح القطري الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري بعد تحقيقه تقدّما لم يسبق أن حقّقه أي مرشّح عربيّ لهذا المنصب من قبل، لكنّ الديبلوماسية العربية عملت بضراوة على عرقلته في الأمتار الأخيرة وفسح المجال أمام المنافسة الفرنسية “أودراي أزولاي” بعد أن كان اللوبي الصهيوني أول من اعترض على ترشيحه لهذا المنصب.

خلال شهر مارس وعند الإعلان رسميا عن ترشّح حمد بن عبد العزيز الكواري وزير الثقافة السابق في دولة قطر لمنصب المدير العام لليونسكو، وجه سيمون صامويل مدير العلاقات الدولية في مركز سيمون ويزنتال رسالة احتجاج إلى رئيس المجلس التنفيذي للمنظمة، وهذا المركز هو جمعية غير حكومية معترف بها دوليا وتقوم بدور استشاري في الأمم المتحدة واليونسكو ومجلس أوروبا، تأسست هذه المنظمة اليهودية في العام 1977 ومقرّها في لوس أنجلس، أما نشاطها الرئيس فيتمثّل في ملاحقة المتبقين على قيد الحياة من الضباط النازيين والذين تعتبرهم مجرمي حرب، ومن أهدافها أيضا حفظ ذاكرة المحرقة النازية (الهولوكوست) لدى الأجيال الجديدة. وقد تضمنت رسالة الاحتجاج على ترشح الكواري تذكيرا بما رصدته المنظمة من منشورات تراها معادية للسامية وتحرض على كره اليهود في معرض قطر الدولي للكتاب خلال الفترة التي تولى فيها الكواري وزارة الثقافة والفنون والتراث. وتعتبر المنظمة كتاب “القدس في عيون الشعراء” الذي أصدرته الوزارة للكاتب محمد قجة دليل إدانة يكفي للاعتراض على وجود هذا الرجل في منصب مدير عام لليونسكو، ففي المقدمة التي تحمل1205 توقيعه يعتبر أن في وجود القدس ضمن سيطرة المسلمين رمزا لوحدة الـدولـة الإسلامية ورفعتها، وفـي احتلالها وضياعها رمـز لتفكّك الـدولـة وضعفها، ولم تتوقّف المنظمة عند المقدمة بل اعتبرت أن الكتاب رغم كونه يتضمّن مجموعة أشعار عن القدس ينطوي على معاداة للسّامية لا تخفى ويشيع نظرية المؤامرة، إذ يتبنى مقولة الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي عن الأساطير الصهيونية حول علاقة إسرائيل بالقدس، ويتضمّن اتهاما صريحا للكيان الصهيوني بالوقوف وراء كل مشاكل الشرق الأوسط من الحرب الأهلية اللبنانية حتى حربي الخليج الأولى والثانية وغزو العراق وأفغانستان كما يتهمه بالسيطرة على الإعلام الغربي ليستخلص محرر الرسالة أن الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري يتبنى أسلوب “جوزف غوبلز” وزير الدعاية السياسية في حكومة هتلر النازية وهو ما يكفي لتحذير اليونسكو من تبعات ترشيحه لمنصب المدير العام.

وبناء على هذا الموقف “شبه الرسمي” نشر موقع Jforum الناطق باسم اليهود الفرنكوفونيين على الانترنت، مقالا بعنوان “العرب لا يريدون اليهودية أزولاي في اليونسكو” اعتبر الترشيح الفرنسي عملا استفزازيا، وتوقّع أن تتأجّج مشاعر الغضب في الدول العربية لاختيار الإيليزي شخصا من أصل يهودي لقيادة اليونسكو التي تعتبر مسرحا تقليديا للنزاع حول القدس، لكن ذلك لم يقع البتة إذ كانت دول عربية عدة قد انحازت إلى إسرائيل في رفضها المرشّح القطري حمد بن عبد العزيز الكواري وأخذت تشتغل نيابة عنها لإقصائه. وقد تناقلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الافتراضي في شتى أنحاء العالم مشهدا مؤسفا لمسؤول مصري ينادي في كواليس اليونسكو بسقوط دولة قطر، وهو مشهد على ما يخلّفه في النفس من حسرة ومرارة يختصر عمق الأزمة التي تشقّ الصفّ العربي وتمنعه من التقدّم إلى العالم بالتّماسك المطلوب في خضم تدافع طاحن بين الهويّات والثقافات.


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress