Tag: عواطف حميدة

أعلى من النسيان

عواطف حميدةعواطف حميدة أول امرأة تونسية تدير الإذاعة الوطنية على امتداد تاريخها الطويل، عُيّنت في هذا المنصب في شهر أوت العام 2001، لكنْ بعد أشهر قليلة فقط رحلت بشكل صاعق ومفاجئ، فانتهت قبل الأوان واحدة من أجمل التجارب الإذاعية وأكثرها تنوّعا وفرادة. لقد احتلّت عواطف حميدة مكانة ممتازة في ذاكرة الإعلام الوطني، و أضحت علامة فارقة في تاريخه، إذ أشرفت بشكل مباشر على المرحلة التحضيرية المكثفة التي سبقت انطلاقة إذاعة الشباب في العام 1995، فلم يقتصر عملها على تخطيط الدورات البرامجية واستنباط الأفكار وصياغة العناوين والألحان المميزة بل تجاوز ذلك ليشتمل على وضع برنامج تدريب عمليّ لتأطير الوافدين الجدد وتكوينهم، ثمّ كُلّفت بإدارة هذه الإذاعة من 1997 إلى 2001، وسَعت أثناء ذلك باجتهاد يشهد به القاصي والداني في تحقيق أهداف هذه التجربة الفتية، إذ أريد لها أن تكون منطلقا لتجديد الإذاعة وتطوير مضامينها بضخّ دماء جديدة في شرايينها ومقاومة الشيخوخة التي دبّت في أوصالها وهي على مشارف قرن جديد.

 ولقد كان لإذاعة الشباب فعلا دور كبير في إنجاز نقلة نوعية حقيقية داخل مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية وفي المشهد الإعلامي عموما، ناهيك عمّا كانت تقوم به الإذاعات الجهوية وقناة 21 التلفزيونية أيضا من أدوار مهمة في اكتشاف المواهب ورعايتها، وكثير من نجوم الميكروفون والشاشة اليوم هم نتاج تلك المرحلة وثمارُها، ولا أدلّ على ذلك أيضا من عواطف حميدة ذاتها، فتجربتها بدأت ذات صيف من أصياف نهاية الثمانينات في إذاعة المنستير، ولم يكن أحد ليتوقّع عندئذ أن تفضي بها تلك البداياتُ الخجول إلى ما آلت إليه في عقد وجيز من الزمن.

        التحقت عواطف حميدة بإذاعة المنستير صائفة العام 1988 متعاونة في نطاق مشروع الإذاعة السياحية وتعلّمت فيها أبجديات العمل الإذاعي، كان لهذه الإذاعة أسلوب متفرد لاسيما في مجال المنوعات الفنية المباشرة والبرامج الترفيهية والأفكار المجدّدة، لكن عواطف تكلّمت امام الميكروفون أولا باللّغة الألمانية التي كانت تتقنها جيدا، إذ كانت متحصّلة على الأستاذية المزدوجة في اللّغات من معهد بورقيبة للّغات الحيّة، ولم تشتغل في مجال الترجمة، بل درّست اللّغة الفرنسية في المعاهد الثانوية كما هو شأن معظم خريجي هذه الشعبة وكثير من خريجي معهد الصحافة في تلك الأيام. وبعد نهاية تجربة الإذاعة السياحية ظلّت تتردّد على الإذاعة لإنجاز برامج قصيرة مسجلة إلى جانب عملها في المعهد الثانوي بالوردانين، فعايشت فترة من أخصب الفترات في تاريخ إذاعة المنستير.

 حاول صالح شبيل الذي تولى الإدارة العام 1989 خلفا للمنصف الهرقلي أن يحدث تغييرات عميقة في إذاعة المنستير وأن يكسبها شخصية جديدة مختلفة تتناسب وطبيعة المرحلة، واقتضى منه ذلك بمعية الإذاعي الصادق بوعبان الذي أوكل إليه مهمة الإشراف على قطاع الإنتاج البحثَ عن أصوات جديدة ذات كفاءة علمية عالية لتقديم المنوّعات ومخاطبة الجمهور في أوقات الذروة، ولم ينهجا المنهج السائد آنذاك والذي يحصر دور المتعاونين مع الإذاعة من الجامعيين في تقديم البرامج الثقافية الليلية الموجّهة إلى النخبة.

اقتحمت عواطف حميدة مجال المنوّعات الإذاعية ببرنامج «همس المساء» ثم طوّرت تجربتها وأداءها في وقت وجيز بشغف وإخلاص ومثابرة، فقدّمت أعمالا كثيرة يصعب حصرها، من أبرزها «بشائر الصباح» المنوعة التي كانت مجالا للتنافس بين فريق من المنشطين يطمح كل واحد منهم إلى تقديمها بأسلوب مختلف تظهر فيه بصمته الخاصة، ولم تكن عواطف ترتجل شيئا من الكلام حتى في هذه المنوعة التي يعتقد البعض خطأ أنها تقوم على التخاطب العفوي التلقائي مع الجمهور، بل كانت تُعدّ كل شيء وتكتبه بدءا من التحية الأولى وصولا إلى الخاتمة وهي عادة أغنية كاملة لنجاة الصغيرة المطربة المفضلة لديها أو مقطع محدّد من أشهر مطوّلاتها تسهر على اختياره بعناية فائقة قبل موعد البث. كان ذلك دأبُها في كل البرامج التي أنتجتها بحرص فطري على الإتقان وهوس عجيب بالتفاصيل واندماج كلّي في ما تذيعه يبلغ حدّ الذوبان.

       

حفل بإذاعة المنستير

حفل بإذاعة المنستير

ومن الأعمال التي أنتجتها للإذاعة أو اشتركت في إنتاجها مع زملاء آخرين ما كان يستدعي جهدا كبيرا ووقتا طويلا في التخطيط والإعداد والتنسيق، حتى باتت الإذاعة تستحوذ على وقتها كله بعد ساعات الدرس. من هذه البرامج على سبيل الذكر «مخبر الحياة» و«قوس قزح» و«على خطّ التماس» وهي سهرة رياضية تُقدّم لأول مرة بصوت نسائي. ثمّ دفعها عبد القادر عقير الذي تولّى إدارة الإذاعة في العام 1991 دفعا إلى الاضطلاع ببعض مهامّ الإنتاج بعد أن لاحظ جدارتها بذلك من خلال مشاركتها الفاعلة والحاسمة في الإعداد المادي لملتقى أدب التسعينات[1]، لكنها خيّرت في خريف العام 1994 أن تقتحم غمار الإنتاج التلفزيوني بالإشراف على إعداد برنامج «شباب على الدوام» فحقّقت به نجاحا منقطع النظير منذ عرض حلقاته الأولى في قناة 21، وسرعان ما دعاها عبد الحفيظ الهرقام المدير العام لمؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية للانضمام إلى الفريق المكلّف بتأسيس إذاعة الشباب، فأخذت مسيرتها الإعلامية منعرجا حاسما، إذ ابتعدت عن المكروفون والتدريس نهائيا وتفرّغت كلّيا للعمل الإداري.

في ملتقى علمي نظّمه مهرجان المنستير الدولي العام 1989 التقيت عواطف حميدة لأول مرة، كنّا في السّاحة الخلفية لمسرح الرباط الأثري مع تقني الإذاعة الذي جهّز كلّ شيء لتسجيل المحاضرات بينما كانت الكراسيُّ ما تزال فارغة في انتظار أوّل القادمين. في قيظ تلك الظهيرة تعارفنا. وأمام باب الإذاعة في نهج الكويت بالعاصمة رأيتها آخر مرة خريف العام 2001، كان لقاء سريعا خاطفا لأنها كانت مشغولة بوضع اللمسات الأخيرة على البرمجة الرمضانية في الإذاعة الوطنية، وكعادتها في مثل هذه المناسبات كانت تعيش حالة توتّر إبداعي قصوى، فيستبدّ بها التفكير في كل التفاصيل حتى تكاد لا تجد متّسعا من الوقت لأيّ شأن آخر من شؤون الحياة.

وبين هذين المشهدين مرّت اثنتا عشرة سنة بحلوها ومرّها، بأفراحها وخيباتها، بأحلامها وانكساراتها، وتدفّقت مياه غزيرة تحت الجسور. كانت التسعينات مرحلة خصبة وغنية بالأحداث الحاسمة وطنيا وإقليميا وعلى نطاق العالم بأسره، وكان لذلك انعكاس مباشر على المضامين الإعلامية في مشهد يطمح إلى أن يتغيّر من الدّاخل دون التفريط في الجوهر. كانت الإذاعة مخبرا حقيقيا لفهم مختلف التوازنات والإكراهات، بين الانحياز للرأي العام والالتزام بالخطاب الرسمي، بين التحفّظ ومسايرة وعي الجمهور، بين الشعارات والواقع.

في تلك المرحلة التأسيسية خطت عواطف حميدة في الإذاعة خطوات عملاقة بفضل قدرتها على التعلم الذاتي وامتثالها لضوابط العمل الجماعي وقوة شخصيتها، وكانت تفرض في كل عمل تقوم به أو تساهم فيه أسلوبها الخاص الذي يجمع بين الدقّة والصرامة من جهة والمشاعر الإنسانية الراقية النبيلة من جهة أخرى. فتجعل من كل فريق تنضمّ إليه أسرة صغيرة، وفي إذاعة الشباب تجلّى حرصها على أن تكون الروابط الإنسانية أقوى وأعمق من علاقات الزمالة وواجبات الوظيفة، وكان مكتبها مفتوحا على الدوام أمام أبناء الإذاعة كلهم، امتدادا لقاعات الإنتاج واستوديوهات التسجيل، وخلق هذا الجوّ الأسري إحساسا جماعيا بالانتماء إلى فكرة وحلم وطموح، وأصبح العمل مصدر متعة لا تضاهيها متع أخرى، ولربّما كان هذا من الأسباب التي جعلتها تتقبّل نبأ تكليفها بإدارة الإذاعة الوطنية بمزيج غريب من الفرح والكآبة. فاعتزازها بالنّجاح لم يكن ليحجب حزنها العميق على مغادرة إذاعة الشباب التي كانت تشعر أنها جزء منها، وهي لم تخطط يوما لنيل منصب إداري ولم تفكر مطلقا في السلّم الوظيفي، إنما كانت الإذاعة حياتها كلّها وكان أسلوبها في العمل وفي نسج العلاقات العامة والصداقات صورة عنها بلا تكلّف ولا مساحيق.

تجربة عواطف حميدة في الإذاعة التونسية عبر مختلف المحطّات التي مرّت بها قصّة نجاح غنية بالرموز والمعاني، لقد كانت تعتبر «السيدة علياء ببّو» مثلها الأعلى وتكنّ لها مودّة عميقة وأنجزت عنها أجمل البورتريهات تكريما لها واعترافا بفضلها على أجيال من التونسيين في وقت كانت الإذاعة فيه أداة للتنشئة الاجتماعية، هكذا صاغت تجربتها الخاصّة بالإصغاء الجيد إلى تجارب الآخرين ولم تشعر يوما أنها نسيجُ وحدِها، لم تفصل بين حياتها والإذاعة فقد كانت الإذاعة حياة بأسرها، ولم تدّخر جهدا في مساعدة الآخرين في وقت لم يكن فيه طريق النجاح معبدا أو محفوفا بالورود والأزهار. كرّست عواطف حميدة ولاءها للعمل وجعلت من خبرتها وتجربتها جسرا عبر عليه جيل جديد من الإذاعيين تحيا كلماتها فيهم على مرّ السنين.

[1] ملتقى أدبي دولي نظمته إذاعة المنستير في دورات متعددة من 1991 إلى 1997


اذكُروا قتْلاكُم بخير

في مئوية أبي القاسم الشابي، زار وفد من الكُتّاب والإعلاميين روضة الشاعر للاطّلاع على معرض وثائقي أعدّته وزارة الثقافة والمحافظة على التراث هناك، وما أن ألقى الإعلامي الشّهير فرج شوشان نظرة على المكان وتفرّس في وجوه المحيطين بالشّابي من رموز الحياة الثقافية في تونس الثلاثينات حتى استشاط غضبا وانبرى يقول: هؤلاء هم الذين قتلوا الشّابي فكيف تجلبونهم إلى قبره ليلازموا روحه كظلّها؟
كان واضحا أن الوزارة لم تنظر إلى الشاعر انسانا مفردا بل رمزا لمرحلة، فكرّمت في عيد ميلاده الثلاثينات التي هي من أهمّ مراحل التّاريخ الثّقافي والاجتماعي في تونس، لكنّ فرج شوشان نظر يومها إلى الأمور من زاوية سريالية تتعالى على سلطان الموت، فتخيّل الشاعر محتفظا في مكان ما من الأبدية بوعيه كاملا، وفجأة يجد كل المحافظين الذين تربّصوا به حيّا وآلموه يحيطون به من جديد في حفلة عيد ميلاده!!

عواطف حميدة
عواطف حميدة

لقد سعدت أيّما سعادة بتدشين ساحة في مدينة المنستير باسم الإعلامية الراحلة عواطف حميدة، إذ سيكون على أشخاص كثيرين أن يتذكّروا أفعالهم مع المرحومة كلّما عبروا هذه السّاحة وهُم سيعبرونها مرارا في اليوم الواحد لأنها تقع قبالة الإذاعة وعواطف قضّت حياتها كلّها هناك ولم تكن لها حياة أخرى خارج بيت العائلة وأشرطة نجاة الصّغيرة وعلب الموسيقى والبرامج، ستكون هذه السّاحة إبرة تخز ضمائرهم الاّ أن تكون ضمائرُهم قد ماتت، فالضّمائر لا تنطلي عليها المساحيق التي يرتديها النّاس عند الموت ولا تُصدّق أكاذيب عاطفية يصطنعونها اصطناعا ويخفون تحتها كلّ الجرائم المعنوية التي ارتكبوها.

عواطف حميدة حاربوها وهي في أوج طموحها، وآلَمُوها وهي تشقّ طريقها كمن ينحت في الصّخر، وحسدوها وهي تنتصر على المصاعب وتصعد السّلم درجة درجة بمحض إخلاصها للمهنة وتعبها وسهر الليالي، لقد فعلوا كلّ ما لا يخطر على بال من أجل أن تُخطئ أو تُعاقَب أو تُطرد وتَشفّوا فيها عندما وبّخها مسؤول رفيع المستوى يوما ما، بل إنّ كثيرا من الذين كانت ستشملهم حملة التنظيف التي باشرتها في الإذاعة الوطنية يوم أن كُلّفت بإدارتها تنفّسوا الصّعداء عندما بلغهم نبأ مقتلها.
لم تكن حياة عواطف في الإذاعة الاّ مزيجا من كثير من الألم وقليل جدا من الفرح، كانت تصرّ على المضيّ قُدُما، فعملت بلا هوادة، ولم تَرمِ المنديل أو ترفع الرّاية البيضاء، لم يكن صعبا عليها قبل التفرّغ للمهنة التي أحبّتها أن توفّق بين عملها الأصلي في التعليم الثانوي والإذاعة والتلفزيون بل كان أصعب شيء هو المحافظة على الثّبات والتوازن وسط العواصف العاتية التي لم تهدأ يوما، وأشهد أن عواطف لم تُمنح يوما فرصةَ الابتعاد عن خطّ المواجهة الأماميّ كي ترتاح قليلا وتنظر إلى الأشياء بذهن أكثر صفاء، لكنّ العداواتِ والأحقادَ التي تؤلم النّفس وتُعذّب الرّوح وتُمزّق الوجدان سرعان ما تصبح بمجرد أن يأتي الموت كأن لم تكنْ، فيتساوى الأصدقاء والأعداء في حفلة تنكرية باذخة تُنفَق فيها مشاعرُ الودّ بسخاء، تلك المشاعر التي لا تظهر أبدا الاّ في الجنازات ما كان أحوج الموتى إلى قليل منها وهم على قيد الحياة!

ساحة عواطف حميدة قبالة إذاعة المنستير لن تعيد صديقتنا إلى الحياة فهي حيّة في القلب والذاكرة ولم تغادر مكانها أصلا، كلّ ما في الأمر يا عواطف أنّ كثيرا من الأوغاد الذين تعرفين والذين كانوا ينتظرون سقوطك من على السلّم بفارغ الصّبر والشّماتة بل يسعون إليه سعيا سيظلّ شبحك يرفرف فوق رؤوسهم ينتقيهم دون غيرهم في مسرحية النفاق الاجتماعي العظيمة هذه، سيظلّ شبحك ينظر إلى هؤلاء الذين يرتدون وجوها كثيرة بعد أن فقدت وجوههم ملامحها الأصلية من فرط الكذب، هؤلاء الذين يذرفون الدموع على الموتى ممدّدين في توابيتهم ويمشون وراء الجنازات ولا يذكرون قتلاهُم الاّ بخير.


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress