السبسي والغنشيفي السنوات الأخيرة من حكم بن علي، تفاقمت الخلافات داخل التجمّع بشكل لم يعد يخفى على الأنظار، وأثناء الانتخابات البلدية 2010 بلغ الاحتقان في بعض الولايات حدّ استخدام العنف تعبيرا عن عدم رضا شقّ من القواعد على اختيارات القيادة المركزية وترشيحاتها.

في ذات الفترة وبمناسبة تجديد الشعب الدستورية حدّثنا تجمّعي ضليع في الشأن الحزبي القاعدي بكثير من المرح عن عملية تجديد مكتب الشعبة في منطقته التي تعدّ واحدة من أفخم المناطق بالمدينة، فروى لنا كيف كان المترشّحون في الانتخابات منقسمين إلى شِقّين وكيف انتدب كل شِقّ يوم المؤتمر مجموعة من “الخلائق” من ذوي العضلات المفتولة للحضور أمام مقرّ الشعبة حيث يشرف أحد أعضاء الحكومة على الاجتماع، وكيف أن هذه الخلائق تمت دعوتها من الجانبين إلى فطور صباحيّ فاخر في نزل واحد كان على ملك أحد المترشحين، وكيف كان هؤلاء الفُتوّات المنتدبون في غاية الانسجام خلال السّاعات التي سبقت انطلاق مهمتهم الرسمية، فهم محترفون وبحكم تبادل الأدوار والمواقع قد يجد أيّ واحد منهم نفسه في مواجهة زميله بعد أن كانا معا في مهمة سابقة. وإجابة عن سؤال يبدو ساذجا في إبّانه عن الجدوى من توظيف هؤلاء الخلائق وتنصيبهم أمام مقرّ الاجتماع طالما أنْ لن تكون هناك معركة حقيقية في الأفق أجاب محدّثنا بأنّ ذلك كان بغاية تنفير الناس النظاف من الاقتراب من مقرّ الاجتماع ومجرّد التفكير في حضوره حتى لا تتلخبط أوراقُ المشاركين في الانتخابات المعروفة نتائجُها سلفا، وختم صاحبنا حديثه بالقول: إنّ المضحك في الأمر أن الجماعة قد صرفوا يومها على “لجنة التنظيم” هذه ما يقارب الألفي دينار بينما كانت موازنة الشعبة تشكو عجزا يقدر بثلاثمائة دينار فقط، وقد تبرّع الوزير المشرف على الاجتماع بهذا المبلغ من ماله الخاص تقديرا لوطنية المنتسبين إلى هذه الشعبة وتثمينا لتضحياتهم الجسام في سبيل الصالح العام!.

أبطال هذه المسرحية الواقعية لم ينسحبوا من المشهد بعد سقوط النظام بل توزعوا على عدة أحزاب وأصبح جزء كبير منهم من “مناضلي نداء تونس”، وظلّوا يمارسون السياسة بالعضلات المفتولة في ضوء التفكّك العلائقي المزمن بين مكوّنات البيت الواحد كما كان الشأن دائما،  فالتجمع الدستوري الديمقراطي لم يكن عند تكوّنه في 1988 حزبا عقائديا بالمعنى الإيديولوجي الذي تقوم عليه الأحزاب، كلّ ما في الأمر أن الجنرال عندما أزاح بورقيبة سحب البساط من تحت أقدام الدساترة الذين حكموا البلاد بمقتضى شرعية حركة التحرير الوطني وبناء الدولة الحديثة ثلاثين عاما، وكان على هؤلاء أن يصطفّوا وراءه تحت مظلّة شرعيّة الإنقاذ إذ كانوا أعرف الناس بأنهم لا يمكنهم الوقوف في وجه التيّار، والحقّ أن ذلك لم يكن ليزعجهم، ففي أقلّ من أربع وعشرين ساعة تغيّرت الهتافات من الدّعاء للمجاهد الأكبر بدوام الصّحة والبقاء قرونا على عرش الجمهورية  إلى التهليل بما أقدم عليه وزيره الأول بينما كانوا يغُطّون في نوم عميق، كان ذلك سهلا جدّا، بل كان ذلك أسهل شيء يمكن أن يقوموا به، لكنّ الرئيس الجديد كان يعمل على دمج مختلف ألوان الطيف السياسي تحت مظلة مشروعه الذي تضمنه بيان 7 نوفمبر والذي تحمّس له المعارضون أكثر من الموالين، وهو ما كان صعبا عليهم  استيعابه والترحيب به، كان اسم التّجمع جبّة فضفاضة تتسع للجميع وبدا منذ اللّحظات الأولى أن المراجعات الكبرى سيُعهد بها إلى أشخاص ينتمون فكريا إلى اليسار، وأن ما كان يطلق عليهم حينها “جيوب الرّدة” ستقتصر مهمتهم لفترة قد تطول على التصفيق والمساندة والهتاف وإرسال برقيات الدّعم وتشكيل لجان اليقظة الليلية وكتابة التقارير الأمنية لا غير، وبالعودة إلى صحافة تلك الأيّام يتّضح الشّرخ العميق بين توجهات الوافدين الجدد إلى السّلطة والمنتسبين القدامى الذين ورثهم بن علي عن سلفه، وكان إعلان الرئيس عن تشكيل الحكومة الجديدة قبل انعقاد “مؤتمر الإنقاذ” لا بعده مراوغة  لم تخطر على بال أحد للفصل بين الشأن التّجمعي والشأن الحكومي وتخليص المؤتمر من كل الضّغوط كما قالت الجرائد تعليقا على ذلك. وظلت قبضة الجنرال الحديدية ممسكة بخيوط لعبة التناقضات بمهارة شديدة طيلة عقدين من الزمن، فلم يكن الطّرفان ليجتمعان الاّ في مواجهة الخطر الأصولي، وكان الإسلاميون يعرفون أكثر من غيرهم أن الشقّ اليساري في الحكومة هو الأخطر والأشدّ مراسا لأنه يواجههم من منطلقات عقائدية، وأنه لولا ذلك لكان التّقارب ممكنا مع بن علي فقد قدّموا تنازلات كثيرة لم يقدّرها أحد حقّ قدرها منذ التّوقيع على الميثاق الوطني والتخلي عن الاسم التاريخي للحركة “الاتجاه الإسلامي” وتنويه بعضهم إلى أن تونس حققت نهضة اقتصادية واستقرارا اجتماعيا ملحوظا في التسعينات ولا يعيب نظام حكمها الا إقصاؤهم من المشاركة في الحياة السياسية والتنكيل بهم.

martgannouchi1وعندما أسّس الباجي قائد السبسي حركة نداء تونس بتجميع روافد مختلفة تحت مظلّة إنقاذ البلاد من الخطر الأصولي سارعت النهضة بنعته بالتجمّع، ولم يكن القصد من ذلك الإساءة للتجمعيين، فلا مشكلة لديهم من هذه الناحية، إذ كانوا أول من فتح لهم أبواب التّوبة على مصراعيها منذ 2011 واستفادوا كثيرا من مواهب المطبّلين منهم الذين لا يستغنى عنهم أيّ ماسك بزمام السلطة وإن تعفّف، وتخلّوا تحت إكراهات الانضباط الحزبي عن مطلب تحصين الثورة، بل مثّلت سنوات الترويكا العصر الذهبي للخلائق الذين وجدوا مسميات عديدة لتصريف طاقاتهم وتوزعوا بين حماية الثورة وتثبيت الإسلام ونصرة الشريعة.  لكن كانت عبارة التجمع في خطاباتهم تعبيرا عن التركيبة الهجينة التي تجمع اليساري بالدستوري، هذه الخلطة العجيبة هي أكثر ما يزعج الإسلاميين وهم يعتبرونها سبب محنتهم في عهد بن علي، ونكاد نجزم أن نقمتهم على محمد الشرفي الذي تُنسب إليه سياسة تجفيف المنابع هي أضعافُ نقمتِهم على بن علي ذاته، وكلما اتجه حزب النداء الآن إلى التطهّر من روافده اليسارية بعد أن وظّفها بنجاح في معركة الوصول إلى السّلطة اقتربت النهضة من النداء وتعانقا كمن يضع ساقا على ساق وهو جالس في المقهى.