عمار عمروسية التائب عن الجبهة الشعبية

عمار عمروسية التائب عن الجبهة الشعبية

يُروى أن الصّاحب بن عباد كان مولعا بالسّجع، فلمّا قال لقاضي مدينة “قم”: أيّها القاضي بقُمْ، قَدْ عَزَلْنَاكَ فَقُمْ، ظلّ القاضي يقول إذا سُئِل عن سبب عزله: أنا معزولُ السّجع من غير جرمٍ ولا سببِ! والذي حصل تحت قبة البرلمان التونسي في جلسة الحوار مع رئيس الحكومة يشبه هذه الحال التي تسيطر فيها اللّغة على صاحبها وتشلّ قدرته على الإدراك والتمييز، فقد استبدّت شهوة البلاغة بأحد أبرز وجوه المعارضة حتى وقع في الفخ.

لا يحتاج الأمر جهدا كبيرا لتبيّن الفرق بين دعوة الحكومة إلى رفع رجليها عن الشّعب وبين تهديدها بأن رجليها ستُرفع إذا لم تفعل ذلك، ففي علم اللسانيات للّغة ذاكرةٌ تجعل المجاز يحلّ محلّ الحقيقة بقوّة التداول، ونحن هنا أمام ظاهرة لغوية معروفة وطبيعية، والدليل على ذلك أن جزءا كبيرا من كلام الشارع التونسي يستوجب الحذر مغبّة الوقوع في ما يُعرف “بالغَشّة”، وهي ظاهرة شائعة تقوم على شحن المفردات اليومية بدلالات جنسية، والكلام التونسي يمتاز بقدرته على استيعاب المعاني الجنسية والتعبير عنها في عملية تفريغ جماعية للعواطف المكبوتة تحت وطأة المواضعات الاجتماعية، وعبثا يحاول بعض المفسّرين إقناع العامة بأن “نيتهم السيئة” هي التي جعلتهم يفهمون ما يفهمون في كلام المعارض لرئيس الحكومة لأن المتلقي لا يتحكم في الصورة الذهنية التي تكونها لديه العبارات التي يسمعها.

ظاهرة “الغشّة” قديمة في التراث العربي، وأبرز دليل على ذلك المعنى الذي يوحي به كلام التاجر في “المقامة المضيرية” للهمذاني وهو يفتخر أمام ضيفه بمكوّنات ثروته، إذ يقول “وَهذَا المِنْدِيلُ سَلْنِي عَنْ قِصَّتِهِ،..، وَقَعَ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُهُ، فَاتَّخَذَتَ امْرَأَتِي بَعْضَهُ سَرَاوِيلاً، وَاتَّخَذْتُ بَعْضَهُ مِنْدِيلاً، دَخَلَ فِي سَرَاوِيلهَا عِشْرُونَ ذِرَاعاً”، وكان أستاذنا الجليل توفيق بكار يقول في شرح هذه المقامة: “إن ظاهر الكلام يدلّ على كمية القماش التي صنعت منها السراويل، أما باطنه فله معنى آخر والعياذ بالله!، وكنّا جميعا ونحن في ميْعة الصّبا وريعانه نفهم المعنى بجلاء، ونضحك في استحياء إجلالا للمقام الذي نحن فيه.

لا خلاف إذن في أن الاستعارة الأولى التي استخدمها عمار عمروسية النائب عن الجبهة الشعبية تعني شيئا أكثر من القهر والاستبداد، فوضعُ الرِّجلِ أعنف دلالةً من وضع اليد، إذ توحي بالإذلال، وهي استعارة موفقة في سياقها، أمّا التّهديد برفع الرجلين فلا معنى له في الذهنية العامة حقيقة ومجازا الا الجنس. وهكذا تضمحل الصورة التي ترسمها الاستعارة الأولى للحكومة وهي تضع رجليها على الشعب لتحلّ محلها صورة الاستعارة الثانية صورة الحكومة المهدّدةُ بالاغتصَاب.

إن حرص النائب على صياغة تدخله مشهديا وبمكونات خطابية استفزازية مبهرة جعله يمنح خصومه كرة ثمينة يسجلونها في مرمى المعارضة، فالانحراف بالنّقاش العام إلى حلبة “الأخلاقوي” بادّعاء العفّة والنّقاء لعبة معروفة في سياق التوزيع التقليدي للفصائل السياسية إلى فصيلين كبيرين: فصيل الأتقياء الأنقياء في مقابل الأشرار الفسّاد (بالمعنى العامي الأخلاقي الصرف). ومن السهل تسجيل الهدف، فمن الصعب على شعب يتحاشى استخدام عبارة “الفقوس” وهو يتبضّع في الأسواق أن يتقبّل بسهولة تهديد المعارضة للحكومة في مجلس النواب برفع رجليها. كلّ شيء الا الشرف!