Tag: حزب حركة النهضة

حرب الداندورمة

بائع الداندورمة

بائع الداندورمة

على بعد أمتار قليلة من تمثال الزعيم التاريخي الحبيب بورقيبة، يقف في مدينة سوسة بائعُ الدندرمة التّركي بملابسه الفولكلورية المميّزة وعربته الأنيقة الحمراء، ها هنا في الشارع الرئيس لواحدة من أجمل المدن السياحية في تونس يشاهد المارّة أمرا جديدا مختلفا ويقبلون على اقتناء بضاعة لم يألفوها من قبل وسط دهشةٍ وإعجابٍ لا يخفيان.

يلفت بائع الدندرمة الانتباه إليه بطريقة عرضه الشهيرة المميّزة، فأسلوب بيع المثلّجات التركية يكاد يكون واحدا في كل مكان، وفي السنوات الأخيرة بدأ هؤلاء الباعة يجرّون عربات الدندرمة خارج تركيا، يتجوّلون بها في بلدان عربية شتّى سبقتهم إليها المسلسلات التركية المدبلجة بقصصها المشوّقة وحسناواتها المثيرات. لكن على مواقع التّواصل الاجتماعي ينتشر الذّعر من بائع الدندرمة هذا بوصفه رمزا لعودة الاحتلال العثماني البغيض، ويمثّل الفزع من “الغول” التركي أحد امتدادات الصراع السياسي والإيديولوجي القائم بين العلمانيين والإسلاميين، فتركيا التي يناهض الكثيرون في تونس تغوّلها الاقتصادي والثقافي هي تركيا التي يقودها حزب إسلامي، أما تركيا العلمانية التي خلّصها كمال أتاتورك من قفطان الخلافة الثقيل فقد كان الحبيب بورقيبة يعتبرها نموذجا أعلى. لقد عاشت تونس قبل الاستقلال قرونا تحت راية الخلافة العثمانية وارتبطت صورة البايات وكبار موظفي الإيالة في ذهن العامّة بالجباية وما يعتريها من مظالم، فاقترنت صورة الأتراك بالشّرور والمصائب لا سيّما بعيدا عن المركز الحضري، حيث كانت تقيم قبائل وعشائر لا تتمي إلى الدولة بقدر انتمائها إلى مذهب صوفي يمثله وليّ صالح، كانت التجمعات السكنية في الأرياف والقرى تتحلّق حول الزوايا ولا يربطها بالدولة الاّ المجْبى، لذلك تحتفظ الذّاكرة الشعبية بعبارة “التّتريك” لوصف الشيء الذي لحقه الخراب، ومن ثمة يقال مجازا عند حدوث المصيبة: “لقد تترّكنا”. وفي سياق التذمّر الحالي من حضور البضائع التركية في الأسواق التونسية يردّد البعضُ هذه العبارة لا على سبيل الاستئناس ببلاغتها فحسب بل اختزالا للرأي القائل بأن لتركيا الأردوغانية مطامعَ توسّعيةً إحياء لمجد الإمبراطورية العثمانية التّليد، والتوسّع في ظلّ النّظام العالمي الجديد لا يعني الاحتلال العسكري بل فرض النموذج الثقافي بالمعنى الشامل للكلمة.

لقائل أن يقول: إنّ خوف شقّ من التونسيين من التّـتريك والأفغنة وخوف شقّ آخر من الأمركة والفرنسة لهو دليل إيجابي على اعتزاز الشعب بهويته الوطنية وقدرته على مقاومة النماذج الوافدة، هذا صحيح نظريا لكنّ الواقع يشير إلى أنّ هذه الفوبيا لا تعدو أن تكون أداة لتكريس الانهزامية والشعور المرضي بالاضطهاد الثقافي، لا سيّما في صفوف مستعملي وسائل التّواصل الاجتماعي حيث يهيمن بشكل قوي خطاب جلد الذات وتدميرها، فتزداد الهوّة بين الصورة الافتراضية ونظيرتها الواقعية عمقا واتّساعًا كما يتواصل تسطيح الفهم العامي للواقع والتحديات المفروضة عليه، فالكل يشتكي ولا أحد يبادر بالتغيير الإيجابي.

هناك في مدينة سوسة التي يُسمّيها التّونسيون جوهرة السّاحل، غير بعيد عن بائع الدندرمة التركي، قد تفاجئك في موسم الصّيف أوساخ متراكمة لم تأت شاحنات البلدية لرفعها، في ذات الشّارع سيؤلمك حتْما مشهدُ فنادق مهجورة وأخرى متداعية للسّقوط تطلّ على شاطئ بوجعفر الذي كان فيما مضى لا يقلّ جمالا وروعة عن شواطئ الإسكندرية وبيروت وسائر المدن المتوسطية. وأنت تتجول وسط كثير من الفوضى المرورية قد يبدو لك بائع الدندرمة النقطة المضيئة الوحيدة التي تسرُّ النفس وتبهجها. في تركيا سواء أكنت في إسطنبول أم في واحدة من المدن السياحية الشهيرة، ستعجب أولا بنظافة المكان وشغف الأتراك بمدنهم وأعمالهم واعتزازهم بالوطن الذي ينتمون إليه. لكننا نخاف من التّتريك وعندما يشير أحدهم بإصبعه إلى القمر يتوقف نظرنا دائما عند حدود الإصبع ولا يتعدّاها.


الباتيندة

الباجي قايد السبسييخلص فقيد الصحافة العربية قصي صالح درويش في كتابه “يحدث في تونس” إلى استشراف مستقبل الأحداث بعد تفاقم أزمة الخلافة سنة 87، فيصنّف المرشحين للفوز بعرش بورقيبة إلى مجموعات، ثم ينتهي إلى القول بأن مجموعة “زين العابدين بن علي والهادي البكوش” هي الأقدر على الإطاحة بالرئيس العجوز بإثبات عجزه عن ممارسة وظائف الرئاسة وتطبيق الفصل 57 من الدستور!!!!

نُشر الكتاب ومنع من التداول في تونس وقد أثبت فيه صاحبه أنّ دلائل عجز بورقيبة عن ممارسة وظائفه السّامية تعود إلى سنة 1973 عندما أقدم في خطوة مُحيّرة على إبرام اتفاقية وحدة مع العقيد معمر القذافي وهو الذي يعارض دائما توجهات جيرانه الوحدوية بشكل استعراضي مرتكزا أساسا إلى عدم نضج أسبابها، وبدا تراجعه عن الإيفاء بالتزامات جربة تلعثما سياسيا مُهينا لمكانة الزعيم التاريخية وبُعدِ نظره الاستراتيجي، لكن لم يكن ممكنا للهادي نويرة أو لمحمد مزالي طيلة سنوات الهبوطِ إلى الجحيم استصدارُ شهادة طبية لإقالة الزعيم من مهامّه بوصفه “صاحب الباتيندة” في دولة الاستقلال لا في الحزب الاشتراكي الدستوري فقط .

وفعلها زين العابدين بن علي!
لكنه ولأسباب تتعلق بالباتيندة وبعقلية القطيع قدّم للجميع تبريرا عاطفيا لما حصل، فهو “قد أنقذ بورقيبة من بورقيبة”، وشكّل هذا التبرير قاعدة دعائية استراتيجية “للعهد الجديد”، فزعموا أنه يقوم على التواصل والاستمرارية لا مع البورقيبية فحسب مع بل مع كل رواد الإصلاح بدءا من خير الدين!! وهكذا صدّق الشعب الذي بلغ ساعتئذ من الوعي والنضج “ما يسمح لكـلّ أبنائـه وفئاتـه بالمشاركة البنّاءة في تصـريف شؤونه” بوعي قطيعي أن الباتيندة لم تخرج من بيت الحزب الاشتراكي الدستوري وأن ما حدث لا يعدو أن يكون عملية ترميم وإعادة طلاء للجدران والأبواب والسقوف، وقد فتحت أثناء هذا الترميم نوافذ للتهوئة تسلّل منها معارضون قدامى ونقابيون ويساريون إلى سدّة الحكم وظلّوا هناك حتى النهاية. وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاما لم يتمرّد أحد من داخل البيت على صاحب الباتيندة الجديد رغم الفساد وإرادة التوريث ونكث العهود إلى أن وقعت الثورة وحصل الذي حصل.

rached-ghannouchi1لا غرابة إذن في ظلّ هذه العقلية التونسية الفريدة، أن يُنظّر “مناضلو نداء تونس” للتوافق فهو الطريقة الوحيدة لحماية صاحب الباتيندة وأبنائه وأحفاده من خطر الانتخابات “عافانا وعافاكم الله” ومن إمكانية أن تنتقل الزعامة من المؤسس إلى شخص آخر تتجه إليه إرادة الناخبين “لا قدّر الله”. لم يخرج أحد على سلطة بورقيبة رغم عجزه، ولم يتمرّد أحدٌ على بنْ عَلي رغم فساده، ولن يقول أحد: “لا” للباجي قايد السبسي رغم ما يرتكبه من أخطاء في حق نفسه أولا والحزب الذي قاده إلى الرئاسة ثانيا. لا يقول أحد: لا في وجه الزعيم المؤسس القائد الملهم البطل المنقذ الواحد الأحد!، ولا يختلف في ذلك دستوري عن نهضوي، فهؤلاء أيضا لا يستطيعون الخروج من جلباب راشد الغنوشي مهما كان حجم التنازلات الموجعة والمهينة التي أضحت الحركةُ تقدمها من أجل البقاء، ومهما كانت الصورة الكاريكاتورية التي أصبحت عليها بسبب مفارقات الحكم وإكراهات البراغماتية. الحركة تغيّر مواقفها دون مراجعات علنية واضحة، والصقور الذين كانوا يهدّدون بالسّحل وقطع الأيدي والأرجل لا يستقيلون لعدم انسجام مواقف الحركة الجديدة مع ما يؤمنون به وما قضوا في سبيله أحلى سنوات العمر وراء القضبان، لا يحتجون لا يعلنون صراحة تخليهم عن ثوبهم الإيديولوجي القديم، كل ما في الأمر أن الحركة تتقدّم دائما إلى الجمهور في شكل كتلة واحدة مبهمة، تحتوي صراعاتها في داخل الداخل وتأتمر بأوامر الشيخ الذي يعلو ولا يُعلى عليه!

الوعي القطيعي في تونس وعقلية الباتيندة ليستا حكرا على حزب دون آخر بل ثقافة أصيلة متجذرة ومقاومة لا واعية ومتوارثة للفعل الديمقراطي الذي يُعلي مكانة المؤسسة على الأفراد ويفرض التداول الانتخابي على القيادة، يتشابه في ذلك أكبر حزبين في تونس كما يتشابه الجناحان حقا!


دورْ يا كلامْ على كيفَكْ دُورْ…

الأمين العام لحزب حركة النهضة

حمادي الجبالي

بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات أضحت مراقبة الوضع تحتكم بالدرجة الأولى إلى الملفوظ السياسي لأنه لم يعد مجرّد نوايا تصدر عن طرف معارض وإنما صارا أفكارا قابلة للتشكل كليا أو جزئيا في برامج سياسية، وفي هذا السياق تجتاز عربة الانتقال الديمقراطي طريقا محفوفة بالمآزق اللغوية بما يجعل إجادة فعلي القراءة والتأويل بشروط الموضوعية الفكرية والشجاعة الأخلاقية تمرينا صعبا على الانتقال السريع من وضع التلقي السّـلبي لأطنان من الملفوظات الخشبية إلى الاستجابة بكفاءة لتحديات لغوية دقيقة ومؤثرة.

جلّ قضايا “الكلام السياسي” نابعة من ملفوظ ممثلي حزب حركة النهضة لأنهم يستعدون لتولي بعض مقاليد السلطة بينما لم يعد لمواقف الأطراف الأخرى أهمية تُُـذكر لدى قطاع عريض من الرأي العام، لقد انتهت الحملة الانتخابية التي قامت في جزء كبير منها على التواصل اللغوي وعلى الوعود المُنْصبَّةِ بشكل مباشر في اتجاه الناخب، وأصبح كلام الأحزاب الفائزة بأوفر المقاعد يخضع آليا لقراءة بقية مكونات الطيف السياسي والمجتمع المدني والرأي العام وتأويلها مختلَفَ أبعادِه ودلالاتِه، وهو ما يفسّر الزوابع الإعلامية التي أثارها كلام سعاد عبد الرحيم إلى إذاعة مونتي كارلو حول الأمهات العازبات بإرادتهنّ، أو استعمال حمادي الجبالي عبارة الخلافة الراشدة السادسة، أو كلام راشد الغنوشي في التلفزيون حول موقفه من النظام السوري الحالي وحقِّ حزب التحرير في أن يعترف به القانون. (مواصلة القراءة…)


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress