Tag: تونس

البحث عن فضيحة

مشهد مخاطبة قيس سعيد للرئيس المدير العام للخطوط التونسية وسؤاله إياه عن الطائرة التي (خرجت ولم تعد) مشهد مثقل بالدلالات، فمن الواضح أن السيد الرئيس وصله تقرير من جهة ما يثق فيها ثقة عمياء، الأمر الذي جعله يندفع إلى المطار دون إخضاع المعلومات التي وصلته إلى المراجعة والتثبت ودون تريث لطلب تقارير من مصادر أخرى لاستقصاء الحقيقة بهدوء، واتخاذ ما يلزم بروية.

الرئيس قيس سعيد في زيارة غلى المطار

الرئيس قيس سعيد في زيارة غلى المطار

والرئيس في هذا المشهد لا يصغي إلا لنفسه، ولا يسمع إلا صدى صوته، فرغم تأكيد مخاطبه أن الطائرة بيعت ومحاولته اليائسة إرجاء الخوض في الموضوع إلى جلسة انفرادية (تحفظ ماء وجه الرئاسة)، ظل هو يردد: (لكنها لم تعد!)، (لكنها خرجت ولم تعد!) وهذا (لعمري) مشهد في منتهى السريالية يؤلم أكثر مما يضحك، فالرئيس هو ممثل الدولة ورمزها الأعلى، ولا أحد يتمنى أن يرى رئيس بلاده في موقف مماثل. 

لكنه هو الذي وضع نفسه في هذا الموقف السخيف، فهذه الزيارة غير المعلنة (كما تسمى في أدبيات الاتصال الرئاسي) تبدو أشبه بالكمين الذي أراد بواسطته إشهاد الناس على وجود الفساد (رغم أنه لا يوجد شخص واحد يمكنه إنكار ذلك) وعلى وجود عصابات كل همها (العبث بأموال المجموعة الوطنية والتفريط في مكاسب البلاد عبر تسهيل بيع ممتلكات المؤسسات العمومية) إلى آخر الأسطوانة التي حفظها الجمهور التونسي عن ظهر قلب من فرط تكرارها بلا جدوى ولا نتيجة.

لقد فقدت هذه المروية طعمها ورائحتها في ضوء إقرار الرئيس الواضح والصريح بأنه لم يحقق شيئا يذكر في حربه ضد الفساد، فتكراره يوميا في لقاءاته مع رئيس الحكومة وفي كل مكان يزوره الحديث بنفس الطريقة عن المحتكرين والمتآمرين والمتلاعبين بقوت الشعب ليس إلا إعلان فشل وهزيمة، وهو لا يكترث كثيرا بذلك، فالزمن الرئاسي يبدو مسترخيا أكثر من اللازم، بما يعطي الانطباع أن (محاربة الفساد) غاية في حد ذاتها، ليس مهما أن ننتصر فيها وأن نغير واقع الناس نحو الأفضل، بل المهم أن تتواصل ولا تتوقف، فاستمرارها هو الشماعة الوحيدة التي يمكن أن تعلق عليها حكومة الرئيس إخفاقاتها.

ومحاربة الفساد مظلة مثالية كذلك تستخدم للقفز على التقاليد السياسية وتحييد الجميع، فهي حرب من نوع (الوان مان شو)، لهذا يتقمص الرئيس في كل خرجاته و(زياراته غير المعلنة) دورا غير دوره، فهو المعتمد والوالي ورئيس مصلحة النظافة، والوزير، وعمر بن الخطاب، وهو الحاكم، والمعارض، الذي يبكي مع الراعي ويشتكي من الذئب، وله في كل مجال القول الفصل يلقيه على أسماع المحيطين به، لا يجرؤ أحد على مقاطعته، وإن قاطعه (كما فعل مدير الخطوط التونسية مرارا) فإنه لا يسمعه. و(فرجة الرجل الوحيد) هذه تجعل المؤمنين بالرئيس (أبناء المشروع) متضامنين معه أكثر من أي وقت مضى، رغم البؤس الذي لم يستطع أن يفعل شيئا لإنقاذهم من براثنه، فهم مقتنعون أنه يريد لهم الأفضل لكن الآخرين يمنعونه. ولا يستطيعون النظر إلى الموضوع من زاوية (انعدام الكفاءة).

وفي نازلة الطائرة تقمص الرئيس شخصية حاكم التحقيق، لينظر في قضية تعود إلى سنة 2017 بما يؤكد أنه عالق في الماضي وعاجز عن مشاهدة المستقبل، ومر بسرعة قصوى إلى الاستنتاج متجاوزا الإجراءات والأعراف والقوانين والمؤسسات ليعلن بنفسه عن وجود جرم مشهود، دون أن يعرف أحد ما هو هذا الجرم، فمرة يقول: (لكنها لم تبع)، ومرة أخرى يقول: (وبأي ثمن بيعت) ومرة يقول (هناك من شاهدها في فلوريدا) ومرة أخرى يقول (لكنها خرجت دون تصريح لدى الديوانة). لا أحد يرى هذا الارتباك والتلعثم والتذبذب في الأداء الرئاسي المهم (البحث عن فضيحة) يقتات منها الجياع وتتواصل بفضلها المهزلة.


الريزو طايح

قبل أن أتجه نحو بوابة العبور حيث الطائرة المتجهة من الدوحة إلى تونس، كان لا بد من اغتنام الفرصة، والقيام بجولة سريعة في السوق الحرة. فمطار حمد الدولي مصنف ضمن أفخم مطارات العالم وأكثرها رفاهية، والجولة في سوقه تحت زخات الضوء وابتسامات الحسناوات المنهمرة من كل مكان إغراء لا يقاوم.

                اقتنيت بعض الحلويات وانتظرت دوري أكثر من خمس دقائق اعتراني خلالها بعض السأم، بل تأففت في داخلي أكثر من مرة لأن مسافرة أوروبية أطالت الوقوف لسبب لم أتبينه أمام المحاسب الذي كان بصدد إنهاء معاملتها بكثير من الرفق والكياسة والصبر. ويلتفت إلي بين الفينة والأخرى تعبيرا عن تواطؤ خفي، وكأن لسان حاله يقول: ماذا تريدني أن أفعل…!

tpe-paiement-carte-bleu-1غادرت المرأة، وتقدمت، فحياني الشاب بلطف وطلب مني جواز السفر وبطاقة العبور، وبعد أن أعادهما إلي سألني هل سأدفع نقدا؟ قلت بالبطاقة البنكية. فرد بطريقة سريعة (تي هي 50 ريال)! وعندما هممت بسحب البطاقة من جيبي انتبهت إلى أن المتبقي بحوزتي من العملة القطرية يفي بالغرض، فعلقت على كلمته تلك قائلا: (طيب، لا بأس، سأدفع نقدا).

كان المحاسب شابا تونسيا في العقد الثالث من العمر، وسيما وفي منتهى الأناقة مثلما تقتضي مهنته وصرامة الضوابط الإدارية والتنظيمية في المطار. وقد أكد لي تصرفه أنه تونسي جدا! تونسي حتى النخاع، تونسي أكثر مما يجب! وإلا فأي معنى لعبارته تلك؟ وهل كان سيقولها لمسافر ياباني أو إنجليزي أو أمريكي؟ ولو فعل كيف ستترجم تلك (تي) اللعينة إلى لغات العالم، وهي التي على قصرها تحمل شحنة من التأفف والضجر لا نعرف سرّهما إلا نحن التونسيين!

أرجح أن (تي) فرطت منه دون أن يدري عندما وجد أمامه مسافرا يشبهه. أرجح أنها قفزت من أعمق أعماق شخصيته التونسية الساكنة في اللاشعور، تلك الشخصية القلقة منغرسة في ذواتنا كالنصل الحاد، كالإبرة، أو كالشوكة التي يصعب استئصالها عندما تنغرس في الجسد. تلك الشوكة ذاتها جعلتني قبل قليل لا أحتمل الصبر طويلا أمام المرأة التي كانت تنهي أمامي معاملتها بكثير من البطء وراحة البال وقلة الاكتراث بالآخرين.

ولكي نفهم سرّ (تي) هذه علينا أن نتخيل مثلا أن هذا الشاب كان يعمل محاسبا في أحد الفضاءات التجارية الكبرى في تونس. قبل أن يظفر بهذه الوظيفة، فعندما تقدم بطاقتك البنكية هناك للقيام بعملية دفع الكتروني عليك أن تكون على الدوام جاهزا نفسيا لعبارة (الريزو طايح) وهي عبارة فضفاضة تستخدم لتفسير كل شيء، خصوصا حين ترفض الآلة إتمام عملية الخلاص بعد دقائق طويلة من الدوران في الفراغ لا تفضي إلى شيء.

لقد شهدت في قطر خلال العشرية الماضية كيف تم تنفيذ عملية الانتقال الرقمي بتدرّج وحزم وصرامة. وكيف أصبح الدفع الالكتروني إلزاميا أيا كان المبلغ المطلوب. وكانت شبكة الاتصالات فائقة السرعة مفتاح النجاح الأساسي، كما إن المشروع لم يتعطل بسبب وجود أفراد لا يستخدمون البطاقة البنكية أو يعيشون خارج عصر الانترنت، بل أوجد لهم حلولا تساعد ولا تعطل. لكن المعاملات الالكترونية عندنا أصبحت بسبب اهتراء الشبكة وبطئها اختبارا بسيكولوجيا مريرا. فبعد تكرار المحاولة أكثر من مرة عليك أن تسحب البطاقة تحت أنظار طابور من المتأففين. وفيما تلتهم الأعين الشرهة مقتنياتك التي ستدفع ثمنها يجتاحك شعور بالحرج والحشمة ويتصبب منك عرق بارد، لأنك تخشى في لا وعيك أن يعتقد هؤلاء أنك تجاوزت ما يسمح به رصيدك البنكي.

ويا لها من ورطة، لو كنت غير متهيئ لمثل هذا الموقف السخيف، فتركك سلة المشتريات وانصرافك (وهو الموقف الطبيعي في مثل هذه الحالات لأنك غير مسؤول عن حالة التخلف هذه) ستعتبره تلك العيون المفترسة موقفا غير متحضر ومتعجرف! لكنك لن تفعل وستدفع نقدا لأننا في الحقيقة مسالمون، وسبب تخلفنا عن الركب هو تواضع إمكانيات الشبكة الوطنية للاتصالات لا الجهل، لكن الإدارة التونسية تشعرك كلما دفعت دفعا إلى اعتماد الحلول الرقمية (كما حدث في خضم جائحة كورونا) بأننا نعيش في مجتمع غارق في الجهل والأمية والتخلف. وقصة «الريزو الطايح» ليست إلا ذريعة لإلقاء المسؤولية على المواطن بدل تحملها بشجاعة. و(تي) التي جلبها هذا المحاسب الشاب معه من تونس (دون أن يدري) تعكس حالة القلق السائدة في هذا المجتمع الذي يمشي على رأسه بدل استخدام قدميه مثل كل المجتمعات!


خلّي بالك من زيزو

الزبيدي يعلن عن ترشحه للانتخابات الرئاسية

الزبيدي يعلن عن ترشحه للانتخابات الرئاسية

يصور الفيلم الكوميدي «الرجل الغامض بسلامته» بطريقة كاريكاتورية كيف يمكن امتطاء المصعد السياسي بارتداء بدلة فخمة واستعمال حقيبة جلدية فاخرة. إذ تدفع الظروف الاجتماعية الصعبة البطل «هاني رمزي» إلى البحث عن شغل، فيتقمص شخصية رجل أعمال حتى يغير مظهره، ومكنه ذلك من تحقيق هدفه، حيث أبدى أحد الوزراء إعجابه بأفكاره، ورأى فيه نموذج الشابّ المصري الطموح الذي يستحق الوصول إلى أعلى المراتب بسرعة، فاتّخذه مستشارا. أما العنوان فمن أغنية لصلاح جاهين غنتها سعاد حسني في فيلم «خلي بالك من زوزو» وتقول فيها «الرجل الغامض بسلامته متخفي بنظارة…» وأصبحت هذه العبارة تستخدم في الشارع المصري للتعبير عن الوجاهة الزائفة.

ولا شك أن هذا الوصف ينطبق بشكل ميلودرامي على صورة عبد الكريم الزبيدي وهو يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية المبكرة واستقالته من وزارة الدفاع، حيث يظهر فيها على يمينه رجل بنظارات سوداء وشعر حليق يجعلان ملامحه صامتة خالية من أي تعبير، ولولا تحريكه الرأس بين الفينة والأخرى تعبيرا عن موافقته المطلقة لكل ما يقوله المترشح لكان أشبه بالتمثال، قبل أن يضع إصبعه على فمه في إشارة آمرة للصحفيين بأن يصمتوا، بشكل يعطي انطباعا لا يرقى إليه شك في أنه حارس شخصي للوزير، لكن قلة من الملاحظين اهتموا بهذا الرجل وبرمزية إصبعه الآمرة بالسكوت أمام هجمة تبدو منظمة ضد المكلفة بالاتصال والتي يبدو أن ظهورها في الصورة إلى جانب المترشح تسبب إحراجا كبيرا لمهندسي الحملة وتلخبط أوراقهم في وقت قاتل، ما دعا إلى اتخاذ قرار استعراضي بتقديمها كبش فداء في محاولة لتدارك الأمر، وقد تقدمت باعتذاراتها للصحفيين في حوار إذاعي مؤكدة أن الشخص الثاني الذي ظهر رفقة الزبيدي وكان يحمل نظارات شمسية، لا أحد يعلم من هو! ezgif-5-b4d51b54e07f

وهكذا تتخذ الصورة بفضل التسونامي الذي أثارته في المجال الاجتماعي بعدا آخر ينحو بها في اتجاه السريالية، إذ نكتشف أن الرجل الغامض صاحب النظارة السوداء والإصبع الصارمة ليس ملاكا حارسا بل هو شخص مجهول لا علاقة له بالمترشح ولا بفريقه الأمني أو الاتصالي، ومن ثمة تنقلب الدلالات رأسا على عقب، وننتقل من صورة الرئيس المحتمل المدجّج بالحراس والمرافقين إلى وضع آخر مغاير تماما وشخص عارٍ من أي حماية ويمكن لكل من هبّ ودبّ أن يخترق فريقه بسهولة ويقف إلى جانبه في لجظة تاريخية وصورة رمزية. والتونسيون في هذه المسألة منقسمون منذ الإطاحة بزين العابدين بن علي إلى فريقين: فريق تعجبه صورة الرئيس المتخفّف من كل مظاهر الهيبة والصرامة وفريق آخر تزعجه!

والحق أن الرجل الغامض في الصورة ليس مجهولا بالشكل الذي قد يسمح لهواة نظرية المؤامرة بابتكار قصص عن اختراقات مخابراتية للمشهد الانتخابي، فبالرجوع إلى صفحته على الفايسبوك وتأمل منشوراته، ستكتشف أنه شخص عادي، مواطن تونسي، أستاذ جامعي شاب، مواقفه منحازة بوضوح للعائلة الوسطية، وله بعض النشاطات في المجتمع المدني، ويظهر من خلال صوره الشخصية أنه مغرم كثيرا بالنظارات السوداء التي تجعل مظهره أقرب ما يكون إلى رجل الأمن، كل شيء يبدو عاديا لديه باستثناء أمر واحد فقط، ماذا يفعل يومها إلى جانب عبد الكريم الزبيدي؟ ومن كلفه بمرافقته واللّصوق به؟ لا أحد يمكنه أن يجيب عن هذا السؤال، فمن الواضح أن أسهل شيء في بلادنا اليوم هو امتطاء المصعد السياسي، بعد أن اختلط الحابل بالنابل واشتبك الكوع بالبوع..


حرب الداندورمة

بائع الداندورمة

بائع الداندورمة

على بعد أمتار قليلة من تمثال الزعيم التاريخي الحبيب بورقيبة، يقف في مدينة سوسة بائعُ الدندرمة التّركي بملابسه الفولكلورية المميّزة وعربته الأنيقة الحمراء، ها هنا في الشارع الرئيس لواحدة من أجمل المدن السياحية في تونس يشاهد المارّة أمرا جديدا مختلفا ويقبلون على اقتناء بضاعة لم يألفوها من قبل وسط دهشةٍ وإعجابٍ لا يخفيان.

يلفت بائع الدندرمة الانتباه إليه بطريقة عرضه الشهيرة المميّزة، فأسلوب بيع المثلّجات التركية يكاد يكون واحدا في كل مكان، وفي السنوات الأخيرة بدأ هؤلاء الباعة يجرّون عربات الدندرمة خارج تركيا، يتجوّلون بها في بلدان عربية شتّى سبقتهم إليها المسلسلات التركية المدبلجة بقصصها المشوّقة وحسناواتها المثيرات. لكن على مواقع التّواصل الاجتماعي ينتشر الذّعر من بائع الدندرمة هذا بوصفه رمزا لعودة الاحتلال العثماني البغيض، ويمثّل الفزع من “الغول” التركي أحد امتدادات الصراع السياسي والإيديولوجي القائم بين العلمانيين والإسلاميين، فتركيا التي يناهض الكثيرون في تونس تغوّلها الاقتصادي والثقافي هي تركيا التي يقودها حزب إسلامي، أما تركيا العلمانية التي خلّصها كمال أتاتورك من قفطان الخلافة الثقيل فقد كان الحبيب بورقيبة يعتبرها نموذجا أعلى. لقد عاشت تونس قبل الاستقلال قرونا تحت راية الخلافة العثمانية وارتبطت صورة البايات وكبار موظفي الإيالة في ذهن العامّة بالجباية وما يعتريها من مظالم، فاقترنت صورة الأتراك بالشّرور والمصائب لا سيّما بعيدا عن المركز الحضري، حيث كانت تقيم قبائل وعشائر لا تتمي إلى الدولة بقدر انتمائها إلى مذهب صوفي يمثله وليّ صالح، كانت التجمعات السكنية في الأرياف والقرى تتحلّق حول الزوايا ولا يربطها بالدولة الاّ المجْبى، لذلك تحتفظ الذّاكرة الشعبية بعبارة “التّتريك” لوصف الشيء الذي لحقه الخراب، ومن ثمة يقال مجازا عند حدوث المصيبة: “لقد تترّكنا”. وفي سياق التذمّر الحالي من حضور البضائع التركية في الأسواق التونسية يردّد البعضُ هذه العبارة لا على سبيل الاستئناس ببلاغتها فحسب بل اختزالا للرأي القائل بأن لتركيا الأردوغانية مطامعَ توسّعيةً إحياء لمجد الإمبراطورية العثمانية التّليد، والتوسّع في ظلّ النّظام العالمي الجديد لا يعني الاحتلال العسكري بل فرض النموذج الثقافي بالمعنى الشامل للكلمة.

لقائل أن يقول: إنّ خوف شقّ من التونسيين من التّـتريك والأفغنة وخوف شقّ آخر من الأمركة والفرنسة لهو دليل إيجابي على اعتزاز الشعب بهويته الوطنية وقدرته على مقاومة النماذج الوافدة، هذا صحيح نظريا لكنّ الواقع يشير إلى أنّ هذه الفوبيا لا تعدو أن تكون أداة لتكريس الانهزامية والشعور المرضي بالاضطهاد الثقافي، لا سيّما في صفوف مستعملي وسائل التّواصل الاجتماعي حيث يهيمن بشكل قوي خطاب جلد الذات وتدميرها، فتزداد الهوّة بين الصورة الافتراضية ونظيرتها الواقعية عمقا واتّساعًا كما يتواصل تسطيح الفهم العامي للواقع والتحديات المفروضة عليه، فالكل يشتكي ولا أحد يبادر بالتغيير الإيجابي.

هناك في مدينة سوسة التي يُسمّيها التّونسيون جوهرة السّاحل، غير بعيد عن بائع الدندرمة التركي، قد تفاجئك في موسم الصّيف أوساخ متراكمة لم تأت شاحنات البلدية لرفعها، في ذات الشّارع سيؤلمك حتْما مشهدُ فنادق مهجورة وأخرى متداعية للسّقوط تطلّ على شاطئ بوجعفر الذي كان فيما مضى لا يقلّ جمالا وروعة عن شواطئ الإسكندرية وبيروت وسائر المدن المتوسطية. وأنت تتجول وسط كثير من الفوضى المرورية قد يبدو لك بائع الدندرمة النقطة المضيئة الوحيدة التي تسرُّ النفس وتبهجها. في تركيا سواء أكنت في إسطنبول أم في واحدة من المدن السياحية الشهيرة، ستعجب أولا بنظافة المكان وشغف الأتراك بمدنهم وأعمالهم واعتزازهم بالوطن الذي ينتمون إليه. لكننا نخاف من التّتريك وعندما يشير أحدهم بإصبعه إلى القمر يتوقف نظرنا دائما عند حدود الإصبع ولا يتعدّاها.


تحت سماء مرصعة بالكاميرات

 

8-adhensive.jpg_50x50لم تتبقّ لي الاّ بعض الصّفحات من رواية بدأت قراءتها منذ أكثر من شهر، لكنني عندما بحثت عنها في مكتبتي لأكملها لم أجدها، فتّشت بلا جدوى في كل مكان أرتاده، فتأكدت أنني قد أضعتها في مكان ما ولم أتفطّن. بدأت أعيد في ذهني ترتيب الأحداث التي عشتها منذ الأسبوع الماضي، لقد أخذت معي هذا الكتاب إلى أحد المجمّعات التجارية الكبرى هنا في الدوحة، وقرأت منه فصلا في المقهى قبل أن أذهب لاقتناء بعض حاجات البيت، فثبت لديّ إذن أنّه لا يوجد الا احتمال واحد قويّ: لقد نسيت أن آخذ الكتاب من عربة المشتريات بعد أن أفرغتها في السيارة!، فما كان الغد، عدتُ إلى المُجمّع التّجاري وأعطيت مواصفات الكتاب لأحد أعوان الحراسة، فتخاطب مع جهة ما هاتفيا، ثم طلب مني الذهاب إلى الإدارة لأتسلّمه، فلم يستغرق الأمر الاّ دقائق حتى عدت ومعي حاجتي.

عندما فكّرت في الذّهاب إلى المجمّع التجاري لاسترجاع الكتاب المفقود كان ذلك اختبارا لذاكرتي أوّلا، فقد كنت على يقين من أنني سأجده لو صحّ أنني قد نسيته فعلا في العربة، فما سيحصل في مثل هذه الحالات معروف، سيأتي أحد هؤلاء العمال الآسيويين الذين يعملون في مأوى السيارات ليعيد العربات الفارغة إلى مكانها في مدخل المجمّع كما يفعلون دائما عندما تتبعثر هنا وهناك، وعندما ينتبه إلى الكتاب لن يكون بوسعه الاّ أن يحمله إلى الإدارة كي تضعه على ذمّة من سيأتي ليسأل عنه، لا يتعلّق الأمر بالكتاب لأن قيمته المادية ضئيلة ولا تغري أحدا بالاستحواذ عليه، فالأمر ذاته سيحدث لو كانت الحاجة المفقودة هاتفا أو حاسوبا أو بضاعة أخرى ثمينة. هؤلاء العمّال الذين ترتسم على وجوههم معالم البؤس لا يجرؤ أحدهم على فعل أي شيء خارج عن القانون هنا حيث يعملون، إنهم يأتون من أماكن مختلفة من العالم، ليعملوا في دول الخليج العربي من أجل تغيير حياتهم، والمبالغ الزهيدة التي يحصلون عليها ذات قيمة لا يستهان بها في بلدانهم الأصلية، وأي مخالفة يرتكبها أحدهم ستجعله بمقتضى قوانين الكفالة عرضة للترحيل شأنه شأن كل المقيمين على تباين درجاتهم واختلاف وظائفهم. صرامة القوانين وحدها تجعل أكثر من سبعين جنسية تتعايش تحت سماء واحدة على اختلاف أعراقها وأجناسها ودياناتها، بينما تشتعل حروب في مناطق أخرى من العالم بين أبناء الجنسية الواحدة لاختلاف في الأيديولوجيا فقط أحيانا، لكنّ صرامة القوانين لا تقاس بعدد رجال الأمن في الأماكن العامة، فذلك يشعرك بأنك تتحرّك داخل زنزانة كبيرة ويجعل من الانضباط سلوكا ظرفيا لا غير، إنما تضطلع كاميراهات المراقبة الموجودة في كلّ مكان بخلق إحساس عام بأنّ كل شيء تحت السيطرة، وأنّ كلّ ما يقوم به الانسان في الفضاءات العامة مكشوف، فهل يمثّل ذلك تعدّيا على الخصوصية وانتهاكا للحرّية الشخصية رغم أنه ضروري لصنع مجتمع آمن تنعدم فيه الجريمة أو تكاد؟

إن فرضية استرجاعي الكتاب لو فقدته في أحد المُجمّعات التّجارية في تونس تظلّ قائمة لكن بنسبة ضعيفة جدّا، فكثير من المشاكل التي باتت تؤرق المواطنين في السنوات الأخيرة تتّصل بانعدام الأمن والأمان وارتفاع منسوب العنف والجريمة، رغم كلّ منجزات الثّورة السياسية لا سيّما في باب التشريعات الخاصّة بحقوق الانسان ما يزال المجتمع في حاجة إلى نظام مراقبة أمنية شامل ودائم يضمن الانضباط لقواعد العيش المشترك ويوفّر الأمان، لا يعني ذلك العودة إلى المربّع الأول، حيث تتمّ مقايضة الحرّيات بالأمن، فما يحصل في الأنظمة الاستبدادية عادة هو الانحراف بهذه الأجهزة سواء أكانت بشرية أم الكترونية عن وظيفتها الأمنية الوقائية واستغلالها في تعقّب الرأي المخالف والتصدي له بوليسيا، لكنّ ذلك لا يعني إلغاءها كلّيا في سبيل مقاومة الاستبداد، وهو الخطأ الذي قد تكون تونس وقعت فيه خلال السّنوات الأولى التي أعقبت سقوط نظام بن علي.

لكن إمكانية ضياع الكتاب في أحد المجمعات التجارية في تونس يبقى أمرا نادر الحدوث، إذ لا أحد يفكر في سرقة كتاب، وهناك يتعيّن عليك أن تعيد بنفسك العربة إلى مكانها بعد إفراغ محتوياتها في السيّارة، فأنت لا تحصل عليها الا بمقابل مالي، ولو حصل أن حدث هذا الأمر فليس بوسعي أن أتخيّل حقا ما إذا كان العثور عليه ممكنا وبنفس السّهولة التي تجري بها الأمور في مناخ اجتماعي وسياسي مختلف كالذي يوجد في الخليج، لكن السّؤال عن الخصوصيّة في مقابل الأمن يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة ليكون سؤالا كونيا وحيرة أصيلة، أيّهما أفضل أن تعيش آمنا تحت سماء مزروعة بالكاميراهات مطمئنا إلى أن عيْنا ما ترعاك فيما هي تحصي أنفاسك، أم أن تعيش حرّا متمرّدا على كل أشكال التّعقب والمراقبة دون ضمانات حقيقية تكفل لك أمنك؟ وأي معنى للحرية الشخصية والخصوصية ولم يعد ممكنا الاستغناء عن التكنولوجيا التي اخترقت كل الخصوصيات، تلك هي المسألة.


فلسطين أولا، فلسطين دائما

Michel Boujenah

ميشال بوجناح

خريف العام ألفين وعشرة، أياما قليلة قبل أن تندلع شرارة الثورة في تونس، انشغل التونسيون بمقطع فيديو لمطرب يغنّي في أحد الفنادق بالأراضي الفلسطينية المحتلة، ويهتف وسط جمهور من السّكارى بحياة بن علي ونتانياهو معا، الضجّة التي أثارتها الحادثة أجبرت هذا المطرب التونسي على الانسحاب كلّيا من السّاحة الفنية والاختفاء تماما من المشهد، كانت تلك لحظة جماعية فارقة انضافت إلى لحظة أخرى سبقتها، حينما وجّه بن علي دعوة إلى شارون لحضور القمّة العالمية لمجتمع المعلومات العام 2005، فدقّ مسمارا آخر في نعش حكمه المتهالك، ومنح المعارضة الديمقراطية فرصة ذهبية لتسجيل نقاط أخرى قرّبتها أكثر من الجماهير الشعبية، فالتّطبيع مع الكيان الإسرائيلي الغاصب خطّ أحمر لدى التونسيين جميعا حتى تلك اللحظة.

هناك أكثر من سبب يجعل من التّطبيع فكرة مرفوضة في الشّارع التونسي، أوّل هذه الأسباب دون شكّ الموقفُ التاريخي الذي يحسب لتونس في سجل القضيّة الفلسطينية، فبعد اجتياح القوات الإسرائيلية بيروت عام 1982 وإرغام الفلسطينيين على مغادرتها، اتّخذ الرئيس الحبيب بورقيبة قرارا شجاعا باستضافتهم وتمكينهم من إدارة شؤون القضية من تونس، واستُقبل كوادر منظمة التحرير الفلسطينية وعائلاتهم استقبالا شعبيا هائلا في ميناء بنزرت، وعندما لاحقتهم طائرات العدوّ يوم غرة أكتوبر 1985، إلى حمّام الشطّ اختلط الدّم التونسي والفلسطيني، فالغارة لم يكن لديها متّسع من الوقت لتفادي التونسيين واستثنائهم من المجزرة.

أبو جهاد

أبو جهاد 1936-1988

في تونس أيضا امتدّت يدُ الغدر إلى أحد أبرز قادة المنظّمة التّاريخيين الشّهيد أبو جهاد، وخرجت جموع التونسيين مندّدة، فالمظاهرات الوحيدة التي كانت السّلطات السّياسية تسمح بتنظيمها هي المظاهرات المُساندة للقضيّة الفلسطينيّة، وعلى امتداد أكثر من عشر سنوات ظلّت فلسطين بكل مكوّناتها التّاريخيّة والسّياسية والثّقافية جزءا من الحياة التونسية اليومية، باندماج الفلسطينيين في المجتمع التونسي، إلى أن قرّرت قيادة المنظمة العودة بموجب اتّفاق “أوسلو” إلى ما أسماه الشّاعر الراحل أحمد دحبور “الجزء المتاح من الوطن”، فخرج الفلسطينيون من تونس كما لم يخرجوا من قبل، من أيّ مكان عربي أقاموا فيه منذ النّكبة، عبّر عن ذلك محمود درويش ليلة الوداع صيف عام 1994 بقوله: “لقد رأينا في تونس من الألفة والحنان والسند السمح ما لم نر في أي مكان آخر، لذلك نخرج منها كما لم نخرج من أي مكان آخر نقفز من حضنها الى موطئ القدم الأول في ساحة الوطن الخلفية بعدما تجلّت لنا فيها في البشر والشجر والحجر صور أرواحنا المحلّقة  كعاملات النّحل على أزهار السّياج البعيد”.

فعلت تونس ذلك رغم بعدها الجغرافي عن الشّرق الأوسط، ورغم أن خلاف بورقيبة مع عبد الناصر بعد خطاب أريحا جعل منه في أنظار المسحورين بالمضامين الثورية الشرقية عميلا وخائنا، ولم يكن ذلك صراعا بين زعيمين تاريخيين، بقدر ما كان انعكاسا للتناقض الحادّ بين الواقعية السياسيّة و المثاليّة الايديولوجية.

قصص التّضامن التّونسي مع الشّعب الفلسطيني في قضيته العادلة لا تنتهي، وآخرها ما كشفته حركة المقاومة الإسلامية حماس حول النشاط الحركي للمهندس التونسي محمد الزواري الذي اغتيل أمام بيته في صفاقس في ديسمبر 2016 ضمن كتائب عز الدين القسّام جناحها العسكري مُتّهمةً جهاز المخابرات الإسرائيلي بتصفيته، هذه الحادثة تبعتها إهانة أخرى لم يتردّد التونسيون في التعبير عن غضبهم إزاءها، إذ ظهر صحفيّ من القناة العاشرة الإسرائيلية وهو يتكلّم بطلاقة من أمام مقرّ وزارة الدّاخلية في قلب العاصمة دون أن يطرف له جفن، لكن الاستقطاب الثنائي الذي يقسم السّاحة السياسية بين الإسلاميين والعلمانيين ألقى بظلاله في هذه الحادثة على الموقف المبدئي التّاريخي من القضيّة الفلسطينية وظهر بعض التردد والارتباك في تقدير الموقف لا سيما بعد دخول حماس على الخطّ.
لا يعني هذا بالطبع، انعدام أي شكل من أشكال التطبيع مطلقا أو بما يسمح على الأقل بالتباهي إزاء الدول العربية الأخرى التي

محمود درويش

محمود درويش

تصنّف في خانة “المهرولين”، لكن كان ثمّة موقف شعبيّ يعتبر التطبيع خطيئة ويعادي الصهيونية باعتبارها حركة عنصريّة بوضوح شديد وبلا أي التباس، فاليهود في تونس يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، وزوّار معبد الغريبة لم يتوقفوا يوما عن الزيارة رغم كل المتغيرات السياسية. فما الذي يجعل إذن الرأي العام ينقسم هذه المرّة بخصوص قضية “ميشال بوجناح” والحال أنها قضية واضحة وبسيطة ولا تحتمل التعقيد؟ هو فنان فرنسي يهودي من أصول تونسية يحبّ تونس ولا يتردّد في الدّفاع عنها، لكنه أيضا مناصر للفكر الصهيوني وللنزعة الاستيطانية التوسعيّة التي تقتات من عذابات الشعب الفلسطيني اليومية، والاعتراض على تمكينه من تقديم عرضه على ركح مسرح قرطاج موقف سياسي مناصر للشعب الفلسطيني الشعب الذي يخوض معركته وحيدا في زمن أصبحت فيه الدول العربية تطالب بتجريم المقاومة ونسبتها إلى الإرهاب.

كل طرح يتجاهل هذا المعطى ويتناول المسألة من زاوية حرية التعبير والديمقراطية فقط هو طرح يتغافل عن الجوهر، فإيمان التونسيين بعدالة القضية الفلسطينية إيمان راسخ جعلهم على امتداد عقود طويلة يناهضون كلّ أشكال التّطبيع، وما الاختلاف في هذه القضية والبحث عن مبررات هامشية للالتفاف على كونها موقفا سياسيا قبل كلّ شيء الاّ دليل على أنّ تنوّع الطيف السياسي والإيديولوجي وإن كان دليلا على حيوية المشهد الديمقراطي فإنه جعل بعض الثوابت المبدئية تتصدّع وتتداعى للسقوط.


طهّر يا مــطهّر

لوحة للفنان عز الدين البراريلوحة للفنان عز الدين البراري

لوحة للفنان عز الدين البراري

شوف هاك العصفور عيش ولدي، الجملة هذي هي اللي يستعملها الطهار قبل بش يلهِّي الصغير اللي بين ايديه ويهبط عليه بهاك الجلم ويقولو العرب رحلت. ومن حينك تتكسر قلة الفاكية في الوطا ويترماو فوقها الزغار والزغاريط يعطي مسد، وهاك المطهر أربعة م الناس شادينو من ساقيه عرقو شرتلة ويعيط لين يفحم في وسط هاك الزازة. من بعد يرميوه وسط النساء على جلد علوش جديد مخبي م العيد، وتبدا خالتو تْمروَح عليه وأمو تقبض في الرشوق.

صُغرنا الكل عدّيناه خايفين م الغول والطهّار، كيما يقول لطفي بوشناق في غنايتو، مللّي يطلّ في راس الزنقة بالطبلية البيضاء والفاليجة الجلد تسمع كان فر فر وكل واحد يِترمى في دارهم.

الطهّار هو أول الناس اللي كذبو علينا واحنا صغار، وقتللي يقولك شوف عيش ولدي هاك العصفور تصدقو وتسرح بعينيك معاه وتسهلو مهمتو من غير ما تشعر وما يجيش لبالك اللي المقص بش يضرب ضربتو

كي تجي تشوف واستنادا لنظريات علم النفس الحديث عندنا الحق نخافو م الطهار، الضربة موجعة ومن غير بنج ومفاجأة لأنه في أغلب الحالات تلقا الصغير ماهوش فاهم كوعو من بوعو لا عارف علاه حنّاولو، لا علاه لبسوه جبة، لا علاه ركبوه فوق حصان، يعيش سبعة أيام وسبعة ليالي كيف السلطان ومن بعد ما يفيق كان بالمقص هبط عليه والناس الكل تضحك شايخة.

(مواصلة القراءة…)


عَلمتَ شيئًا وغابتْ عنكَ أشياءُ

حنبعلاهتمت إذاعة البي بي سي بخبر العثور في المهدية على جرة من العهد الفينيقي وُجد بداخلها هيكل عظمي، وخصصت جانبا من برنامجها اليومي بي بي سي اكسترا يوم الرابع من أغسطس لإلقاء مزيد من الضوء على هذا الحدث الهام والتوسّع فيه، لكنها اقتصرت على دعوة مراسلها في تونس لمحاورته ولم تستضف للغرض باحثا مختصّا من علماء التاريخ أو الآثار.

قد يكون هذا الأمر عاديا لو اقتصر الحوار على الجانب الخبري وهو ما يفي فيه المراسلون بالغرض عادة، لكن المذيع في لندن استرسل في الحوار وتجاوزَ بالمراسل حدود الإخبار إلى الاستقراء والتأويل وهي منطقة محفوفة بالمخاطر، فسأله إن كان العثورُ بمحض الصدفة على هكذا قطعة يعني أن الدولة مقصرة في القيام بالحفريات اللازمة؟، ولمّا كان مثل هذا السؤال فخّا يتطلب قدرة على المناورة أرهفنا السّمع لنصغي بانتباه إلى الطريقة التي سيتوخاها الزميل في تفنيد هذا الاستنتاج ونستفيد من قدرته على تجاوز السؤال المفخخ دون إحراج السائل، إذ العثور على الكنوز الأثرية بمحض الصدفة عادة ما يكون منطلقا لحفريات جديدة في مناطق غير متوقعة ولا يعني أبدا تقصيرا المؤسسات. ومن ثمة لا توجد منطقيا علاقة سببية مباشرة بين الخبر والاستنتاج، لكن المراسل لم يُكذِّب، بل استرسل في شرح مظاهر التقصير في التنقيب عن الآثار ورعاية التاريخ في بلاده!إذاعة بي بي سي

لا شكّ أن المذيع قد طرح سؤاله ذاك وهو تحت تأثير الضجيج الصادر عن تونس وهي تعيش في الغليان، فلا أحد يعجبه شيء هنا مطلقا، وتنتشر شظايا هذا التذمر الوطني حتما عبر أدوات التواصل الاجتماعي الالكتروني الذي جعل العالم أرضا مسطّحة، لكنْ عجبًا من ذاكرةِ الزميل وقد اعتراها الوهنُ، وأيُّ وهنٍ هو، سيّما وقد تعلّق الأمر بأحداث وقعت في السابق، قبل سقوط النظام. وقد كنا نودّ لو تفضّل بالإشارة ولو لمامًا إلى مشروع الخارطة الوطنية للمواقع الأثرية والمعالم التاريخية الذي انطلق العمل فيه وفق قانون وضع منذ بداية تسعينات القرن الماضي ويشهد بوضوح على أن جهد المعهد الوطني للتراث في هذا الصدد يشمل مختلف بقاع الجمهورية ولا يُميّز جهة عن أخرى كما ادّعى الزميل في ردّه على السؤال.

لكم نتمنى أن يكون هذا مجرّد خطأ في التقدير، فالزميل ثامر الزغلامي علاوة على خطته الوظيفية في الإذاعة التونسية يراسل بانتظام إذاعة البي بي سي في لندن وراديو مونت كارلو في باريس، ويفترض فيمن يتصدّى لهذه المهام الصعبة في آن معا أن يتوفّر على قدرات خارقة. أما أن يكون خطأ فذلك أفضلُ طبعا من أن يكون عزفا على وتر الخراب وتبنيا لنظرية العدم التي لا يعترفُ أصحابها بأي شيء إيجابي تحقق قبل مجيئهم إلى ساحة الحكم بعد الرابع عشر من جانفي، وهي رذيلة أخرى نُنزّهُ الزميل من أنْ يكون قد وقع فيها أيضا.


أحمد اللُّغماني

جنازة أحمد اللغمانيجنازة أحمد اللغماني

جنازة أحمد اللغماني

ينبغِي أنْ تَموتَ قليلاً
لِيمشِيَ خلفَك
يومَ وَداعِكَ هذا الوطنْ
ينبغي،
لِيُمَدَّدَ جِسمُكَ في رايةٍ
ويقولَ النُّحاةُ كلامًا كثيرًا بِلا غَايَةٍ
أنْ تَسيلَ دِماءُ القَصائِدِ بيْنَ يديكْ
في هِجاءِ الزَّمنْ
كيْ تقولَ البلادُ “لقَدْ كانَ مِنَّا وَكَانَ لَنَا”
ينبغِي أنْ تكونَ القَتيلَ الذِي يَتَبسَّمُ
للقاتلينْ
من وراءِ بيَاضِ الكفنْ
غير أنّك والكلماتُ ترفرفُ حولَك
في شُرُفَاتِ الغِيابْ
كنتَ ذاكرةً للجراحِ القديمةِ
كنت َالفُصولَ التي نَسيتْها الفُصولُ
وكنتَ الحَنينَ
 وكُنتَ الشَّجنْ


رسالة هادئة إلى دكتور غاضب

الدكتور فيصل القاسم

الدكتور فيصل القاسم

الدكتور فيصل القاسم
أنت لا تعرفني ومع ذلك اسمح لي أن أُعاتبك عتاب مودة، لا أعاتبك على موقف فالمواقف من شيم الرجال وهي ليست للعتب، بل للجدل والاختلاف فيها رحمة. لكن أعاتبك على قولك في ديباجة ما كتبت: “سمعت أن النظام الديمخراطي في تونس مزعوج من حلقة تلفزيونية…”.
لَهْ يا عيب الشوم!
أهكذا تورد يا فيصلُ الإبلُ؟!
لقد درستُ الأدب العربي على يدي رجل من أنبل الرجال، أديب من أمتن أدباء عصره معرفة، وهو الذي أستعير منه عبارة “عتاب المودة”، فقد كانت تجري على لسانه كلما أراد جدلا واختلافا، وكان يقول عندما يصحّح خطأ شائعا بصواب مهجور: ” أشيعوا عني في المدينة قولي كذا وكذا…”، لأنه يؤمن أن العلم بلا عمل مجرد هراء أو فساء. أستاذنا الجليل أطال الله عمره كان مفردا في صيغة الجمع، ونحن نعتز به وننتسب إلى علمه ونتمثل بمواقفه كلما فرضت علينا نفسها ونحن في تجليات الكتابة. لكنه وهذا بيت القصيد لم يكن من حملة الدكتوراه، عاش محروما من حرف الدال الذي يتدلدل من السطر قبل اسمك يا دكتور، ومع ذلك كان على خُلُق عظيم!
أرأيت كم هي ثمينة عندكم تلكمُ الدال التي تجرجرونها وراء أسمائكم، وكيف هي لا تساوي شيئا عندنا إذا لم تكن قرينة علم وأخلاق وأدب !!
عتبي عليك في انسياقك وراء الهوى، وتفريطك بسهولة وبلا تردّد في أعزّ ما تملك وما يُفترض أن يكون فيك من وقار العلماء، ذلك الذي يشعُّ من لفظ الدكتور وراء اسمك. بربّك هل رأيت دكتورا غيرك يستعمل لفظ “الديمخراطي”؟، لست أستغرب منك قولك “سمعت أنّ” رغم أنها كلمة معيبة في حقك وطعنة أخرى سددتها إلى شبح الدكتور الذي يلازمك كظلّك، فالدكاترة عادة لا ينطقون بمثل هذا الهراء، لا ينفعلون بمجرد السماع، بل تحركهم الحجج القوية الموثقة، الدكاترة يا دكتور يناقشون القضايا الأصلية ولا ينشغلون بهوامش الأمور…
تستبدل حرف القاف بحرف الخاء في عبارة الديمقراطية، فتوحي بما يحفّ بهذا الصوت من المعاني القبيحة في عبارة “الخرا”؟!، رسالتك وصلت، لكنها لا تستحق أن يُردّ عليها، لكونها أولا صادرةً عمّن لا صفة له، فالديمقراطية في تونس شأن تونسي، ولأنها حالة واقعية لا يعتدّ فيها بالسماع، سيما إذا كان محدّثك من الشق المهزوم في انتخابات تستطيع أن تقول فيها ما تشاء إلا أن تكون غير ديمقراطية، صحيح أن تونس تمرّ بظرف استثنائي صعب، لكن التونسيين  بأنفتهم وشموخهم يدركون أن للحرية ثمنا، وهو ثمن ضئيل لا يقارن بالخراب الذي حلّ باسم الديمقراطية في أوطان أخرى أنت تعرفها. وملخص ذلك أن الحرة عندنا تجوع ولا تأكل بثدييها كما يفعل آخرون وأخريات.
النظام الديمقراطي في تونس حقيقة كائنة بفضل دماء الشهداء البررة ولن يغير منها نعتك الشائن لها، لن ينقص منها ذلك بقدر ما ينقص منك، فلتراع حرمة الكلمة كلمةِ الدكتور التي تكاد تنطق من الضجر وراء اسمك في كل المحافل ولا تهبط درجة أخرى في الحضيض لتكتب كما يكتب صبيان الفايسبوك والسُّفهاء.


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress