Tag: الثورة

عدالة ساكسونيا

عدالة ساكسونيافي القرن الخامس عشر عرفت ولاية ساكسونيا الألمانية قانونا شهيرا ارتبط باسمها على مرّ العصور، وهو قانون يميّز بشكل سافر بين النبلاء والفقراء في تطبيق العقوبات، فالفقير الكادح يُعدَمُ في الساحات العامة بقطع رقبته، أما الغني ذو الحظوة والمكانة فيُعدمون ظلَّه!

وقضية نقابة التلفزة التونسية مع شركة “كاكتوس” لم تخرج بعد من نطاق عدالة ساكسونيا، فقد أنهت محاكم البلاد تقريبا النظر في كل الملفات المتعلقة بالثورة وبتّت فيها، فأطلقت سراح كبار مسؤولي الدولة في “العهد البائد” بعد أن لم تَجِدْ في ملفاتهم ما يمكن أن يُدينهم وأوصتهم بعدم الظهور في الأماكن العامة احتراما لمشاعر الراكبين على الثورة، ثم أغلقت المحاكمُ العسكرية قضايا الشهداء والجرحى ووضعت الختم العسكري الثقيل على مقولة السبسي الشهيرة: “القناصة إشاعة”، وأخيرا برّأت ابنة زين العابدين بن علي ذاته من تهمة تبييض الأموال ورفعت عنها قرار تحجير السفر حتى تتمكن من الذهاب إلى المملكة العربية السعودية لأداء مناسك العمرة! يحدث هذا بينما يتواصل تحجير السفر على الأستاذ محمد الفهري شلبي المدير العام الأسبق للتلفزة التونسية بوصفه أحد خمسة مسؤولين لم يقولوا: “لا” في وجه سامي الفهري عندما كان يصول ويجول، فالقضية الوحيدة التي ترتخي أمامها عضلات القضاءهي هذه القضية التي اتهم فيها المديرون باقتناء برامج خارج قانون الصفقات العمومية وهي قضية تأبى المحاكم البت فيها وغلق ملفّها وإعطاء المتصلين بها حقوقهم، مواصلةً تسليط عقوبةِ المنع من السفر على شخص حتى لو أدين لما عوقب بمثل هذا العقاب الظالم!

تستمرّ هذه القضية حتى الساعة رغم أن شركة كاكتوس التي صادرت الدولة نصيب بلحسن الطرابلسي في رأس مالها تبث برامجها بذبذبات الحوار التونسي القناة المعارضة الأولى لنظام بن علي وتحقق أعلى نسب المشاهدة(!). هكذا أعيد توزيع المقاعد من جديد، بقي من بقي في مكانه وغيّر من غيّر مكانه، حصل كثير من المذنبين على صكوك التوبة الغفران ودخل من دخل بيت أبي سفيان. ولم تنتبه العدالة إلى أن مماطلتها في هذه القضية لا تجعل منها مأساة انسانية واجتماعية في حياة الأستاذ محمد الفهري شلبي فحسب بل أيضا كوميديا سوداء مضحكة، لقد ظلّ الراكبون على هذه الثورة يبحثون عن مؤيدات تُـقنعهم هم أولا وتقنع العالم ثانيا بوجهة نظرهم، إذ ينبغي الكثير من الجرائم والكثير من المتهمين والكثير من الضحايا حتى يقتنع الناس بأن تونس كانت تعيش حالة الجاهلية الأولى قبل هذا الطوفان، ومثلما لم يجرؤ بن علي على محاكمة معارضيه باسم الاختلاف السياسي ولفق لهم قضايا تحرش و اغتصاب و تخابر مع دول أجنبية فعل خصومه أيضا عندما استلموا السلطة، فلم يقدموا مسؤولا واحدا إلى العدالة بتهمة الاستبداد والانحراف السياسي بل تركوا المحامين والنقابات والفضوليين يقدمون قضايا ذات خلفية سياسية تفوح منها روائح الانتقام الشخصي تحت مسميات مختلفة أبرزها إساءة التصرف في المال العام أو مخالفة قانون الصفقات العمومية، وهكذا اختلط الحابل بالنابل وَوُضِع البيض كله في سلة واحدة، ونظرا لتفاهة الكثير من القضايا المرفوعة وخواء ملفاتها من المؤيدات والقرائن الدامغة لم يعاقَبْ أحدٌ من الذين قال عنهم الرئيس في سويعاته الأخيرة: “غلطوني وسيحاسبون”، لكأنهم أول المستفيدين من الثورة التي قامت ضدّهم، “فسيادته” لو حاسبهم كما توعّد لما أطلق سراحهم مثلما فعلت عدالة ساكسونيا.


بما غُـــفِر لك؟

freedom-of-expression-1rubdo1خلال السنة التي سبقت رحيله والتي اصطلح على تسميتها بالسنة الدولية للشباب قرر بن علي  بطريقته الخاصة “إضفاء المزيد من الديمقراطية على المشهد السياسي والإعلامي”، وأعطى الإذن بإجراء حوارات مباشرة مع الوزراء يحضرها ويشارك فيها المواطنون.

عند التنفيذ تحولت الفكرة إلى واحدة من أقوى المسرحيات الكوميدية التي يمكن أن يشاهدها المرء إطلاقا، مواطنون مسيّسون حدّ النخاع متنكرون في أثواب الناس البسطاء في قاعة مسرح يتصدّرها الوزير وأعضاده وأسئلة معدّة سلفا في مطبخ التلفزيون. وبعد الحلقة الأولى مباشرة أدرك الجميع أن لا منفعة تُرجى من ذلك، وأن دار لقمان باقية على حالها.

الأهمّ من هذا، كيف تفاعلت الصحافة المحلية مع هذه المسرحية الكوميدية؟ (مواصلة القراءة…)


زرزيس: على هذه الأرض ما يستحق الحياة !

عندما دعاني الصديق  جمال الزرن إلى المشاركة في مراسم العرض الأول لشريط “زرزيس” لم أمانع البتة في الانضمام إلى قافلة الإعلاميـين والضيوف الذين ستأخذهم طائرة الخطوط الداخلية من مطار تونس قرطاج الدولي إلى مطار جربة ومن ثمة عبر الحافلة السياحية إلى مدينة جرجيس حيث سيستقبل المخرج ضيوفا اختار كثيرا منهم بعناية فائقة لتنفيذ هذه الفكرة بالنجاح الذي تستحق.

الفكرةُ، أن يُعرض فيلم “زرزيس” وسط الناس الذين صنعوه ببساطتهم وعفويتهم ونقاء الأفق الذي ينظرون إليه وأن يشارك في هذه الاحتفالية السينمائية الخارجة عن السياق المعتاد رجال عايشوا سينما محمد الزرن وأحبوها منذ “الفاصلة” و “كسّار الحصى” في بدايات تجربته حال عودته من فرنسا إلى تونس نهايةَ الثمانينات وصولا إلى أفلامه الجديدة التي حقق بها نجاحات فنية وجماهيرية وحصد بها تتويجات لا يستهان بأهميتها في سياق تطور تجربة سينمائي من الجنوب وتقدم خطوته بثبات، وهي أفلام أسقطت الضوء على المدينة وعرّت جراحها، فرسمت أوجاعَ مُتسوِّليها وسكّانَ أحيائها الخلفية الفقيرة المؤلمة حيث يكمن جمال نادر لن تتفطن إليه إلا عينُ رسّام مُـلهَم (السيدة)، أو تغنت بحلم مجنون في شوارع عاصمة صنعت تاريخها الجمالي والعاطفي أكشاك بيع الورد في “شارع الشوارع” قبل أن تقضي عليها يد التغيـــير القاسية وتطرد من سمائها العصافير (الأمير).

في هذه الرحلة الحالمة التي اكتنفها ربيع الجنوب التونسي الساحر شاهدنا “زرزيس” لأول مرة في جرجيس، ثم تجولنا في شوارعها مرفـــوقــين بالناس البسطاء الذين صنعوا الفيلم، زرنا بدءا  حانوت سيمون العطار اليهودي فعاينّا إقبال العامّة من أهالي المدينة عليه وتحادثنا مع ابنته، سيمون توفي في الفترة الفاصلة بين التصوير وسنة العرض فلم يتسن له التمتّع بالهالة التي واكبت حضوره في هذا العمل فقد اعتبر البعضُ حانوتَـه “صُـرّة العالم” في جرجـيس مؤكدين أن طيبته (السينمائية) المفرطة و إيجابيته الاجتماعية والنفسية تفتح أبواب الريبة على مصراعيها، بل ويذهب البعض حدّ القول: إن التركيز لم يكن  على جرجيس كمدينة حافلة بالموروث الثقافي والاجتماعي وغيره بقدر ما هو إبراز لفكرة أن اليهود يمثلون جزءا من حياة المدينة بل هم الجزء المضيء الذي يتوفر على قدر عال من الحكمة والطيبة والرحمة والتقدير للمحيط الاجتماعي والديني… (مواصلة القراءة…)


كــــلنا محمد شلبي، كلنا ذاك الرجــــل!

الدكتور محمد الفهري شلبي

الدكتور محمد الفهري شلبي

في صائفة سنة 2005، انطلقت في المركز الافريقي لتدريب الصحفيـين والاتصاليـين حلقات تكوين علمي ضمن برنامج الاتحاد الأوروبي لتطوير وسائل الإعلام في عدد من بلدان الجنوب وفي مقدمتها تونس، ولم تكن الجهة المانحة لتعترف بالكسل الصيفي المعتاد لدى التونسيين ولا بالعطلة المدرسية المقدسة لدى بعضهم، وقد كان واضحا أن الدكتور رضا النجار مدير المركز آنذاك قد خطط مع شركائه لصائفة استثنائية مصمّما على تنفيذ مخططه ذاك ببراعة فائقة.

كانت العاصمة تذوب شيئا فشيئا منذ ساعات الصباح الأولى في حرارة خانقة مثلما تذوب قطعة الصابون، وكانت قاعة المركز محتشدا حقيقيا طيلة أسبوعين، محترفون ومدرسون يشتغلون لأكثر من خمس ساعات متواصلة بلا هوادة في مسائل بيداغوجية تتصل بتكوين المكونين وتُــعلم المُعلمين كيف يأخذون بأيدي الكِبار من المُـتعلمين، كانت الأصوات تعلو وتنخفض كسفينة تَـشقُّ طريقها رغم كل شيء، وكان علينا جميعا من خلال الحوار الصّعب الشاق المضني أن نُسلّط الكشافات على المرآة فنرى أنفسنا في ضوئها ونكتشفها ثم نعيد اكتشاف كل ما يقع حولنا كما يكتشف الطفل الشغوف أسرار لعبته المُرْبكة. وفي تلك المرآة، عرفتُ رجالا ونساء كثيرين وشدّني أكثر الدكتور محمد الفهري شلبي لتنطلق مذّاك أواصرُ مودّة لم يعترها الصدأ، رغم أن لقاءاتنا بعدها كانت طفيفة وصِلَـتَـنا لم تتجاوز الأطُـرَ المهنيةَ كثيرا.

يفاجئك الدكتور محمد الفهري شلبي بِحسِّه الانساني الرفيع وهدوئه الرائع الجميل، ولا تملك إلا أن تغبطه على محبة المحيطين به وإجماعهم حول شخصه في ذلك المرجل الذي غرقنا فيه طيلة فترة التكوين، فلم يكن من اليسير جمع ذلك العدد الغفير من المكونين الجامعيين والمحترفين دون الاصطدام بعوائق بسيكولوجية جمة كان يدركُها كل واحد من الحاضرين، ولكن المُدرّب الفرنسي المكلف بإدارة الحوار وتنشيطه لم يكن بقادر على تخيل حجم الصراع النفسي الذي فرض على النقاش التوتر والحدة والعصبية في أحيان كثيرة وجعله يقول في الاختتام عبارة لخّص بها تقريبا أزمة الإعلام التونسي ببلاغة يتمنى المرء لو يتقنها: “إن أهم شرط للتكوين الصحيح عدم إلغاء الآخر وقبول الاختلاف وفي تونس ينتظركم عمل كبير لتحقيق هذا الشرط”. (مواصلة القراءة…)


الــــرّهيـــنة

الصحافة في تونس

الصحافة في تونس

يبدو الفصلُ بين الإعلامي والسّـياسي إسقاطا أكاديميا على واقع مختلف، فمن البديهي أن الإعلام هو الذي صنع منظومة الاستبداد السياسي وأرسى دعائمها وقوّى بنيانها بأن كيّف الرأي العام بصورة غير متناسبة مع الواقع وحجب عن مواطنيه منابع الحقيقة الصحفية أو شكّك ما استطاع في صدقها وإخلاص مقاصدها، ولا مفرّ من الإقرار بأن الإعلام في المجمل كان رهينة بين أيدي السّـاسة وصناع القرار في الظلّ والعـلن، ومن ثمة فنحن ملزمون بأن نتحدّث عن توظيف وسائل الإعلام سياسيا وهو توظيف اتّخذ صيغا وأشكالا شتى لم يكن من الممكن التفصّي منها في ظلّ منظومة الحكم التي تفتقر إلى أبسط مظاهر الديمقراطية: استقلالية السلط وعلوية القانون، كما لم يكن من اليسير مناهضة هذا الأسلوب وهو يتخفّى وراء المصلحة الوطنية والحكم الرشيد.

إن أبرز مظهر من مظاهر التحكم في الإعلام وخصوصا العمومي منه خلال العشر سنوات الأخيرة من حكم بن علي كان يتجسّد في فرض المضامين وربطها بقرارات رئاسية، فقد كان ضبط المحتوى الإعلامي على مدى سنة كاملة ممكنا انطلاقا من قراءة الخطاب السياسي والقرارات المعلن عنها في المناسبات الوطنية الرسمية، وكانت هذه البرامج الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية تفضح صلتها النفعية المباشرة بالنظام القائم بدرجات متفاوتة، فتـثمين المجلة الانتخابية المنقحة والتغني بمفاتنها الديمقراطية نفي ضمني لشبهة أن تكون غاية التنقيح استبعاد خصم سياسي يتحرك خارج دائرة الموالاة، وتنظيم حملة إعلامية مكثفة حول مخاطر السرطان وضرورة تقصيه مبكرا تُـستـشف منه رائحة مشروع استشفائي خاصّ، والاستغراق في عرض نشاطات السيدة الأولى كان يعني لدى الناس انطلاق السباق في معركة الخلافة، أما مائويات الشعراء والكتاب والمسرحيـين فلم يكن أحد ليتبين من ورائها منفعة مباشرة غير التلهية وتعبئة الفراغ وإسالة اللعاب بما كان يرصد لهذه المواعيد والأعراس من مبالغ مالية طائلة يغني التفكير فيها ضعاف النفوس عن الاهتمام بالديمقراطية والحرية والكرامة الوطنية. (مواصلة القراءة…)


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress