لو وضعنا صُورَ الجنازة المهيبة التي ودّع بها التونسيون رئيس الجمهورية جنبا إلى جنب مع الصور التي رافقت ظهوره من جديد في الساحة السياسية قبل ثمانية أعوام لوقفنا على واحدة من أكبر المفارقات، فالسبسي حين كلفه الرئيس المؤقت فؤاد المبزع برئاسة الحكومة الانتقالية لم يكن معروفا بالقدر الكافي لدى قطاع عريض من «شباب الثورة»، والمعلومات القليلة التي تناقلوها عنه في وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن لصالحه البتة لأنه يتوفّر على كل المواصفات التي تصدّى لها الراديكاليون جميعا من اليمين إلى اليسار.
من هذه المواصفات سنّه التي تجاوزت الثمانين عاما آنذاك، وانتماؤه إلى ما يُسمّى لديهم «الدولة العميقة»، وانحداره من طبقة تُعتبر دائما في «المخيال الثوري» أحد أهم أسباب اختلال الميزان الاجتماعي. واشتغلت ماكينة الدعاية على هذه المحاور الثلاثة لتخرج منها قصصا جعلته وهو يعود إلى الحكم بعد نحو عشرين عاما من الانقطاع في مواجهة تجربة جديدة مختلفة كليا عن تجاربه السابقة، كل شيء فيها منفلت، بدءا من طموحات الفاعلين المحيطين به وتعطشهم الحارق إلى السلطة، وصولا إلى الشعب الذي كان يعتقد أن تغيير النظام يكفي لحل كل مشاكله وتلبية كل تطلعاته، مرورا بوسائل الإعلام التي أصبحت تعتبر نقد الحكومة المعيار الأول للاستقلالية. وكان عليه أن يواجه جبالا صلبة من الأحكام المسبقة تذهب حدّ المطالبة بمحاسبته على مواقفه في مختلف المعارك القديمة، ولا تهدأ البتة عن تكفيره لمبادئه المتحررة في مسألة العلاقة بين الدين والدولة. كانت تجربة مضنية ومشوّقة لرجل في سنّه المتقدّمة وخبرته المُعتّــــقة، لا تشبه في شيء زمن بورقيبة حيث كان كل شيء يسير بدقة وانضباط، في كنف الالتزام التام بمكانة الزعيم الرمزية ودوره التاريخي. فكان السبسي في 2011 أشبه بمروّض الثيران الهائجة، أو مُربّي التماسيح المتوحشة في سرك مفتوح على كل الاحتمالات. (مواصلة القراءة…)