Tag: الإذاعة التونسية

راديو البشير رجب

 

على مشارف بلدة الصمار الجنوبية كنا نحن الثلاثةَ تخترق بنا السيارة صمت الخلاء وقيظ بواكير الصيف الأولى، كان سي البشير رجب يلقي بصوته الوقور الدافئ من حين لآخر كلمات تحرّك ذلك الهدوء الجاثم على صدر الظهيرة ثم سرعان ما نسرح بنظرنا معا في الفراغ الشاسع الممتدّ والطريق.

لقد قررنا يومها أن نغادر الفندق السياحي ونتوغل قليلا في الجنوب في اتجاه بني قردان، والحق أن سي البشير رجب فاجأني منذ يومنا الأول معا في تطاوين بل منذ بدايات الرحلة الإذاعية الشيقة برغبته العارمة في التهام المناظر والصور ومعرفة الأسماء والتفاصيل والإنصات بعمق وانتباه إلى الآخرين، رغبة لا حدّ لها في احتضان المكان والتجاوب بعمق مع فيض المشاعر والأحاسيس التي اكتنفتنا ولذا كان البقاء في غرفة الفندق شيئا مملا بالنسبة إليه حتى في هذه القيلولة الشاقة.

والبشير رجب الإذاعي الكبير الذي تسيلُ شعبيته لعابَ كلّ محترفي الإذاعة وتحرّك غيرتهم، ما يزال يحافظ على تواضعه الجمّ وتلقائيته الصادقة رغم شهرته الواسعة وحبّ الناس الجارف له، وليس عسيرا إدراكُ السرّ في هذا النجاح الأسطوري فقد كان واضحا أن البشير رجب ينتمي إلى جيل لا يضع مساحيق على صوته الإذاعي ولا يتجمل بمناسبة الذهاب إلى الأستوديو ولا يضع قناعا فاصلا بين روحه الاجتماعية وشخصيته الإذاعية وإنما صوتُه يوم الأحد بعض منه وقطعة من تجربته وخلاصة عمره الذي قضى أكثره في شارع الحرية.

بشير رجب وبابا بلقاسم

بشير رجب وبابا بلقاسم

بينما بدأت تلوح في الأفق ملامح البلدة العائمة في الفراغ الصحرواي مشبعةً بالتفاصيل الريفية القاسية ملفوفةً في وهج القيلولة، أخرج سي البشير هاتفه النقال من جيب سترته وأجرى اتصالا هاتفيا سريعا مع “بابا بلقاسم” أحد مستمعي برنامجه الأسبوعي “ميعاد الأحد” وأحد كبار المساهمين في تنشيط فقرته الشهيرة “مع آبائنا المسنين” ، وكان واضحا من خلال ما وصلنا من هذه المكالمة أن الصدفة وحدها جعلت بابا بلقاسم العائد للتو من صلاة الجمعة يلتقط المكالمة الهاتفية بعد أن ترك هاتفه النقال في البيت، وأن القدر كان يرتب له لقاء من نوع خاص…

كان يمكن لبابا بلقاسم أن يتأخر قليلا في الرد على هذه المكالمة التي خطر فجأة ببال سي البشير أن يُجريها قبل أن تُـسرع السيارة في تجاوز بلدة الصمار…

كان يمكن لهذه المكالمة أن تظلّ معلقة على خيط الانتظار…

لو حدث ذلك لما أخذنا قليلا من الراحة في بيت بابا بلقاسم ولما كان هذا المقال الصحفي الذي أكتبه الآن وأتذكر فيه تفاصيل لقاء غير مرتب بين الإذاعة والواقع، بين الصوت وصداه، بين سي البشير وبابا بلقاسم، هناك في الصمار في أعماق الجنوب التونسي و قاع هدوئه الرتيب…

– أستأذنكم في بضع دقائق نقضيها مع بابا بلقاسم، سنرتاح قليلا ثمّ نواصل طريقنا، لن نـتأخر…

لم نكن نملك إزاء فكرة سي البشير هذه غير الموافقة فقد كان سائـقُنا مستمتعا برحلته الجنوبية إلى أقصى الحدود أو لنقل كان مستمتعا برفقة البشير رجب منذ لحظة خروجهما من العاصمة وقد شعرت بهذا عندما التحقا بي في المنستير لمواصلة الرحلة معا إلى تطاوين حيث دعتنا الإذاعة إلى تنشيط دورة تكوينية في فن إدارة الحوار الإذاعي…

وما هي إلا أن توغلت بنا السيارة في بلدة الصمار التي كانت تغفو في كنف الظهيرة ،كانت البيوت المتواضعة البيضاء رابضة في هدوء رصين والشوارع الضيقة مستقيمة في انضباط صارم، وكان المارة القليلون الذين يَجُرّون الخطى عائدين من المسجد، يتحرّكون في هذه اللوحة الزيتية الساكنة ويذلّلون المسافة بين الحلم والواقع.

لم يصدق بابا بلقاسم عينيه عندما توقفت السيارة أمام بيته ورأى ضيفه يترجل منها ويتجه إليه ليعانقه، اختلطت المشاعر بالمشاعر عندما تعانق الرجلان وانهال بابا بلقاسم لثما وتقبيلا على صديقه الذي يزوره عبر ذبذبات الأثير كل يوم أحد والذي يضبط إيقاع حياته الرتيبة على موعد إطلالته الأسبوعية تلك…

أخذنا بابا بلقاسم إلى بيته، قال: هاذاكة الحانوت، وهاذي داري بينهما بضعة أمتار، هذا صاحبي يطلّ عليّ مرة كل نصف شهر، يجيب السلعة من المهدية يبات ليلة ثم يرجع، أولادي كبرو، عرسو ومشاو على رواحهم…

كان بابا بلقاسم كما يصرّ على تسميته سي البشير رجب رجلا في حوالي الثمانين من العمر تقريبا، يحتفظ بصلابة ورثها من قساوة الحياة التي عاشها، حدَّثـنا في لحظات عن عمره الشاسع الطويل، طفق يسرد بحماس بعضا من طفولته وكيف بدأ حياته راعيا في الحقول مُختصرا ما يناهز القرن في كلمات قليلة طافحة بالرضى عن النفس والقناعة التونسية الأصيلة: ربيت أولادي وكبرتهم الحمد الله….

ثم سرعان ما ينتبه مجدّدا إلى سي البشير فيـتوقف قليلا ليتأمله ثم ينطلق بصوت متهدّج في تذكر الألغاز التي كان يقترحها على المستمعين في البرنامج ويحدّثنا عن الظروف التي ابتكرها فيها، كان يتمتّع بحافظة عجيبة وصفاء ذهن نادر ولم يكن من السهل علينا أن نغادر هذا الصدفة الجميلة دون أن نصيب شيئا من ضيافة بابا بلقاسم، لقد ألحّ في ذلك ولا فائدة في معاندته، وبينما كان يتحدّث بغزارة وسخاء عن ذكرياته مع برنامج ميعاد الأحد كان أفراد أسرته يتحرّكون في كل الاتجاهات لتنظيم غداء مرتجل للزائر المفاجئ ورفاقه…

بعد الغداء والقهوة اللذيذة وحكايات بابا بلقاسم عن برنامجه الإذاعي الذي ينتظره صبيحة كل يوم أحد والذي خصص لأجله خطي هاتف قار أحدهما في البيت والآخر في الحانوت إضافة إلى الهاتف النقال الذي لولاه لما كان هذا اللقاء، بعد استراحة قصيرة في بيت جنوبي مضياف اهتـز سكونه بمناسبة نزول الإذاعة ضيفة عليه، بعد عبارات الوداع المرتجلة كانت الطريق في انتظارنا لتخترق بنا مجدّدا فراغ الفيافي وامتداد المدى حتى الحدود الشرقية للبلاد التونسية.

عامر بوعزة والبشير رجب

عامر بوعزة والبشير رجب

وفي الساعات الأخيرة من إقامتنا بتطاوين حرصت جمعية الخير لرعاية المسنين على أن تستضيف البشير رجب في النادي النهاري الذي يلتمّ فيه شمل الآباء والأمهات لممارسة أنشطة شتى، وحول مائدة عامرة بالحلويات والمشروبات تحدّث مستمعو ميعاد الأحد إلى منشطهم المحبوب ولخّصوا في كلمات قليلة فيض الحياة العارم المعتمل في نفوسهم معربين عن رغبتهم في المشاركة في هذا البرنامج ولو بأحجية أو طرفة أو زجل شعبي آملين في أن يجد نشاط النادي صدى في البرنامج وهو ما وعدهم به سي البشير بعد أن تهاطلت عليه أرقام الهاتف من كل الجهات.

في طريق العودة الطويلة إلى العاصمة وبينما كانت زياتين صفاقس تغطي خضرة المدى متلامعة تحت ضوء الأفق الطلق،تذكرت سعادة بابا بلقاسم وروحه الجميلة وانتظار رواد نادي الخير لضيفهم ما يناهز الساعتين دون ملل أو شعور بالصدأ وأحسست أنّ هذا المقال قد أصبح في مرتبة الضرورة فمن خلاله يمكن أن نقلب النظر مجددا في هذه العلاقة العجيبة التي تجمع الإذاعيين بعشاق الراديو في زمن يتوهم فيه البعض أن لم يعد للراديو زمن يسبح فيه وتلك حكاية أخرى.


عن المنصف المرزوقي وحرّية الإعلام في عهده

الدكتور المنصف المرزوقي

الدكتور المنصف المرزوقي

يتباهى الدكتور المنصف المرزوقي بأنه لم يسجن طيلة فترة إقامته في قصر قرطاج رئيسا للجمهورية أي صحفي، وهو يعتقد أن هذا التسامح الرئاسي مع الصحافة هو أحد أهم الإنجازات التي يمكن التباهي بها. والمرزوقي يصدر في هذا الموقف عن خلفية حقوقية تقوم على الاعتقاد بأن السلطة السياسية لا تملك إزاء الصحافة الحرّة والمنفلتة إلاّ التهديد بالسجن، وهو تصور نمطي أحادي ضيق الأفق يتجاهل عمدا أن مجالات التضييق على الصحفيين أكثر من أن تحصى، بل قد يكون السجن أحيانا أقلها عبئا لا سيما إذا ما تعلق الأمر بثلب ومخالفة صريحة لمواثيق المهنة وأخلاقياتها.

للتدليل على ذلك وشرح الموضوع للدكتور المنصف المرزوقي إذا ما أتيح له الاطلاع على هذه الكلمات، أنقل هنا نص تدوينة سرعان ما حذفها صاحبها بعد نشرها لأسباب غير معروفة، وهي «رسالة مضمونة الوصول إلى عبد اللطيف المكي وتنبيه إلى بعض المخبرين بالتلفزة من هذا الطرف أو ذاك» وفق تعبير الكاتب، ولا ضير في إعادة نشرها مع تغطية بعض الأسماء احتراما لرغبة صاحبها في سحبها، يقول: «ذات مساء من سنة 2012 رتب لنا (م.ع) الاجتماع بالسيد لطفي زيتون المستشار السياسي لرئيس الحكومة حمادي الجبالي قصد مناقشة مشاكل التلفزة التونسية. كنا مجموعة من التلفزة يرافقنا محمد المدب من الإذاعة الوطنية، وقد وقع الاستعداد لهذا اللقاء عبر تقسيم الأدوار بيننا، ووقع الاتفاق على أن أبدأ أنا الحديث بإعطاء بسطة عن التلفزة الوطنية وعن مشاكلها وكيفية النهوض بها لتصبح مرفقا عموميا يستجيب لتطلعات المواطنين، وهكذا كنت أعتقد، غير أن الحقيقة كانت غير ذلك، واللقاء كان مرتبا لأمر آخر.

حوالي الساعة الخامسة مساء وقع استقبالنا بقاعة محاذية لمكتب رئيس الحكومة، وبعد عبارات الترحيب والمجاملة أخذت الكلمة، وبدأت الحديث كما اتفقنا، ولكن في الأثناء لمحت نظرة استهزاء من كلامي من لطفي زيتون، وعند سؤالي أجابني حرفيا بأنه ومن معه لا يعنيهم كلامي ولا تعنيهم مشاكل التلفزة بقدر ما تعنيهم «الأخبار» وكيف يمكن تطويعها لفائدتهم، أحسست حينها أنني في المكان الخطأ مع الأشخاص الخطأ!
مباشرة أخذ هو الكلمة وتساءل عمّن يمكنه أن يتقلّد منصب رئيس مدير عام الإذاعة التونسية عوضا عن السيد الحبيب بلعيد، أجابه في الحين (م.ع) بأنه أحضر معه «محمد المدّب» لتقلّد هذا المنصب وهو الوحيد الذي يمكنه أن يطبق ما يطلب منه،  ثم تساءل عمّن يمكنه تقلّد منصب رئيس مدير عام التلفزة فأجابه المهندس (م.س) من التلفزة بأنه أهل لذلك.

لطفي زيتون

لطفي زيتون

خلت الأمر هزلا، لكن من الغد بلغني أن غاية الاجتماع كانت هذه، وبعد مدة علمت من أحد الحاضرين أنه وقعت الموافقة على تعيين محمد المدب على رأس الإذاعة التونسية، وهم مدعوون إلى التكتم على الخبر إلى حين صدور التعيين بالرائد الرسمي حتى لا تقع شوشرة، خاصة أن البلاد تعيش حالة احتقان شديدة على الإعلام العمومي».

عند هذا الحد تنتهي التدوينة، وهي تصف بوضوح شديد الأجواء داخل غرفة عمليات تسيرها النهضة في ظل رئاسة المنصف المرزوقي الحقوقي المؤتمن على الحريات وعلى كرامة التونسيين جميعا. وكل ما في هذا النص حقيقي موثق بالوقائع الثابتة. وكما يستشف مما جاء فيه فإن دور «الطابور الخامس» قد لعبه (م.ع) وهو أحد العائدين إلى التلفزيون بعد الثورة بموجب العفو التشريعي العام، إذ أطرد في حادثة مشهودة أقدم فيها على قطع التيار الكهربائي يوم إعادة بث حلقة من برنامج «المنظار» مطلع التسعينات تناولت موضوع الاعتداءات الإرهابية على مقرّ لجنة التنسيق بباب سويقة! وهو هنا لا يمتلك أي صفة رسمية تتناسب والدور الخطير الذي يقوم به في الوساطة بين لطفي زيتون والمستعدين لبيع أعناقهم من أبناء الإذاعة والتلفزيون، ما يجعله أقرب ما يكون إلى المشرف على تنظيم سري أو جهاز مواز، لا سيما في تلك الفترة التي نُصبت فيها خيام روابط حماية الثورة أمام مبنى التلفزة للتنكيل بكل العاملين فيها وإهانتهم والانتقام منهم ولو رمزيا.

خبر تعيين محمد المدب

خبر تعيين محمد المدب

أما في ما يتعلق بالإذاعة، فالحادثة أصبحت معروفة، والحبيب بلعيد لم يسمع بنبإ إقالته فعلا إلا من سائقه الشخصي الذي أطلعه على نسخة من الرائد الرسمي (نعم هكذا كانت تدار الدولة!)، وقد عرفت النهضة حقّا كيف تفرض اسم مرشحها الذي ما كان ليقبل به أحد، فهو مجرّد موظف تقني في الإذاعة، مُنح في فترة إدارة «منصور مهني» إبان الفصل بين الإذاعة والتلفزيون فرصته في الإشراف على القطاع الهندسي، وأخفق لمحدودية أفقه وتواضع إمكاناته، لكنه استغلّ هذا الانفلات الذي حدث عقب الثورة ليعود في ثوب «المضطهد السياسي» في أكبر عملية تحيّل شهدتها المرحلة. والمقالات التي كتبتُها على أعمدة الصحافة في هذا الموضوع كثيرة أشهرها مقال بعنوان «الإذاعة التونسية من عثمان الكعّاك إلى محمد المدّب» إذ منحت الترويكا مع الأسف هذا الشخص صلاحيات واسعة النطاق لا تتناسب ومؤهلاته ولا تليق بدولة يزعم حكامها أنها دولة القانون والمؤسسات، ولعل أبرز إنجاز يمكن له أن يتباهى به اليوم هو توقيعه على قرار فصلي من الإذاعة التونسية إثر التحاقي للعمل بالخارج، وحرماني من حقي في الإلحاق بوكالة التعاون الفني، وربما لا يعرف السيد المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية آنذاك أن كل الزملاء الذين حرموا من التعاون الفني صدر قرار طردهم من الرئيس زين العابدين بن علي شخصيا، لا لشيء إلا لاعتقاده أن العمل في قناة الجزيرة يساوي «خيانة الوطن» وأن كل ما فعلته الإدارة بعد ذلك هو إخراج مسرحي قانوني كتنظيم مجلس تأديب صوري ينتهي إلى إصدار قرار الفصل النهائي، لكن صاحبنا لم يكن في حاجة حتى إلى مثل ذلك في عهد الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان حيث يمكن له أن يفعل ذلك بجرة قلم بسيطة!

ولكم أضحكني الدكتور المنصف المرزوقي وهو يخاطب «إلياس الغربي» في أول حلقة من برنامج «ميدي شو» يقدمها في موزاييك بوصفه «من الجيل الجديد الذي يعول عليه في دعم الانتقال الديمقراطي»، فلست أدري إن كان يعلم أو لا يعلم أن كل الذين يهيمنون على المشهد الإعلامي اليوم صنعتهم الإذاعة والتلفزة الوطنية، وهم من اكتشافات المرفق العمومي في منتصف التسعينات عندما تأسست قناة 21 ومن بعدها إذاعة الشباب لتجديد المشهد الاتصالي بأوامر رئاسية وتوجيه سياسي. سنذكر هنا بمرارة ذلك الوصف المهين الذي استخدمته «أم زياد» في وصف المشهد حين قالت: «خسارة أن أول صفحات الحرية سيكتبها العبيد» ليعلم المرزوقي أن الاستعباد أشد وطأة من السجن، فبعدما حرّرت الثورة أبناء الإعلام العمومي لم يكن أحد ليقبل لاحقا بأن يتعامل معهم بوصفهم أحرارا، وتكشف القصة التي عرضناها المخطط الذي تم تنفيذه لغلق أبواب الأقفاص مجدّدا وتغيير السجّانين.

ليت الدكتور المرزوقي سجن من أخطأ في حقّه وكان منصفا بحقّ!


الحقّ الذي يُــراد به باطل

الإعلامي حسان بالواعر

الإعلامي حسان بالواعر

تعيد قضية حسّان بالواعر إلى الواجهة ملف حوكمة المؤسسات الإعلامية العمومية، ذلك أن عرضه على مجلس التأديب لقيامه بنشاط مواز في قناة تلفزيونية خاصة ومعاقبته بالرفت المؤقت من الإذاعة يفتح الباب أمام تأويلات سياسية متعددة رغم أن الإدارة تتعلّل بنصوص قانونية.

لا ينكر المتابعون لهذا الملف أن الإذاعة التونسية تستند في دعواها إلى النظام الأساسي للأعوان الذي يمنع على العاملين بها القيام بنشاط مواز دون ترخيص كتابي مسبق، ويؤكد الرئيس المدير العام في حوار صحفي حول الموضوع أن الترخيص ممكن في حالات مغايرة حيث يكون النشاط الموازي مختلفا عن طبيعة النشاط الأصلي مشدّدا على أن تضارب الاتجاهات التحريرية بين الإذاعة وقناة نسمة هو المحرّك الأساس للقضية وهو ما يؤكد الطّابع السياسي لهذا الملف رغم وضوح المدخل القانوني.

هناك فعلا عدة أسباب تدعو إلى الاعتقاد في أن القضية مُركّبة وكان يمكن أن تجري معالجتها وفق أسلوب مغاير يراعي المصلحة الفضلى لكل الأطراف، أول هذه الأسباب أن النظام الأساسي لأعوان الإذاعة نص قانوني قديم لم يعد يتماشى والوضع الجديد للحريات ولقطاع الإعلام في البلاد بعد الثورة لاسيما بدخول القطاع الخاص على الخط واعتبار المرفق العام أهم مصدر للموارد البشرية ذات الكفاءة والتجربة، ثاني هذه الأسباب وجود حالات مشابهة لحالة حسان بالواعر من حيث تضارب الاتجاهات التحريرية بين المشغلين لكنها تقبع في الظل أبرزها حالة الصحفي الذي يتمتع بخطة مدير ويشتغل في ذات الوقت مراسلا لإذاعتين أجنبيتين، بما يؤكد اعتماد الإدارة سياسة المكيالين وعدم تشبثها بالمصلحة الفضلى لكل الأطراف قاعدة مبدئية حيث يستفيد الصحفي بتعاونه مع قناة خاصة ماديا ومعنويا وتستفيد مؤسّسته بلا شك إن آجلا أو عاجلا من هذه التجربة، فالظهور التلفزيوني يمكّن الإذاعي من الانتشار والتأثير وامتلاك قاعدة جماهيرية عريضة، وإن كان الاختلاف بين الخط التحريري لقناة نسمة وخط المرفق العام حادّا حتى التضارب حقا فقد كان يمكن بكل بساطة ودون اللجوء إلى آلية العقاب تكليف الصحفي بعمل آخر غير تقديم البرامج في انتظار انتهاء تجربته مع القناة، على أن يظل أمام كل الأطراف التزام أخلاقي وحيد يتمثل في عدم إخلال المعني بالأمر بواجباته الأصلية أيّا كان نوعها وهو ما يمكن إثباته بالأدلة غير القابلة للدحض عند وقوعه والتصرّف إزاءه بما تقرّه القوانين والأعراف.

(مواصلة القراءة…)


اذكُروا قتْلاكُم بخير

في مئوية أبي القاسم الشابي، زار وفد من الكُتّاب والإعلاميين روضة الشاعر للاطّلاع على معرض وثائقي أعدّته وزارة الثقافة والمحافظة على التراث هناك، وما أن ألقى الإعلامي الشّهير فرج شوشان نظرة على المكان وتفرّس في وجوه المحيطين بالشّابي من رموز الحياة الثقافية في تونس الثلاثينات حتى استشاط غضبا وانبرى يقول: هؤلاء هم الذين قتلوا الشّابي فكيف تجلبونهم إلى قبره ليلازموا روحه كظلّها؟
كان واضحا أن الوزارة لم تنظر إلى الشاعر انسانا مفردا بل رمزا لمرحلة، فكرّمت في عيد ميلاده الثلاثينات التي هي من أهمّ مراحل التّاريخ الثّقافي والاجتماعي في تونس، لكنّ فرج شوشان نظر يومها إلى الأمور من زاوية سريالية تتعالى على سلطان الموت، فتخيّل الشاعر محتفظا في مكان ما من الأبدية بوعيه كاملا، وفجأة يجد كل المحافظين الذين تربّصوا به حيّا وآلموه يحيطون به من جديد في حفلة عيد ميلاده!!

عواطف حميدة
عواطف حميدة

لقد سعدت أيّما سعادة بتدشين ساحة في مدينة المنستير باسم الإعلامية الراحلة عواطف حميدة، إذ سيكون على أشخاص كثيرين أن يتذكّروا أفعالهم مع المرحومة كلّما عبروا هذه السّاحة وهُم سيعبرونها مرارا في اليوم الواحد لأنها تقع قبالة الإذاعة وعواطف قضّت حياتها كلّها هناك ولم تكن لها حياة أخرى خارج بيت العائلة وأشرطة نجاة الصّغيرة وعلب الموسيقى والبرامج، ستكون هذه السّاحة إبرة تخز ضمائرهم الاّ أن تكون ضمائرُهم قد ماتت، فالضّمائر لا تنطلي عليها المساحيق التي يرتديها النّاس عند الموت ولا تُصدّق أكاذيب عاطفية يصطنعونها اصطناعا ويخفون تحتها كلّ الجرائم المعنوية التي ارتكبوها.

عواطف حميدة حاربوها وهي في أوج طموحها، وآلَمُوها وهي تشقّ طريقها كمن ينحت في الصّخر، وحسدوها وهي تنتصر على المصاعب وتصعد السّلم درجة درجة بمحض إخلاصها للمهنة وتعبها وسهر الليالي، لقد فعلوا كلّ ما لا يخطر على بال من أجل أن تُخطئ أو تُعاقَب أو تُطرد وتَشفّوا فيها عندما وبّخها مسؤول رفيع المستوى يوما ما، بل إنّ كثيرا من الذين كانت ستشملهم حملة التنظيف التي باشرتها في الإذاعة الوطنية يوم أن كُلّفت بإدارتها تنفّسوا الصّعداء عندما بلغهم نبأ مقتلها.
لم تكن حياة عواطف في الإذاعة الاّ مزيجا من كثير من الألم وقليل جدا من الفرح، كانت تصرّ على المضيّ قُدُما، فعملت بلا هوادة، ولم تَرمِ المنديل أو ترفع الرّاية البيضاء، لم يكن صعبا عليها قبل التفرّغ للمهنة التي أحبّتها أن توفّق بين عملها الأصلي في التعليم الثانوي والإذاعة والتلفزيون بل كان أصعب شيء هو المحافظة على الثّبات والتوازن وسط العواصف العاتية التي لم تهدأ يوما، وأشهد أن عواطف لم تُمنح يوما فرصةَ الابتعاد عن خطّ المواجهة الأماميّ كي ترتاح قليلا وتنظر إلى الأشياء بذهن أكثر صفاء، لكنّ العداواتِ والأحقادَ التي تؤلم النّفس وتُعذّب الرّوح وتُمزّق الوجدان سرعان ما تصبح بمجرد أن يأتي الموت كأن لم تكنْ، فيتساوى الأصدقاء والأعداء في حفلة تنكرية باذخة تُنفَق فيها مشاعرُ الودّ بسخاء، تلك المشاعر التي لا تظهر أبدا الاّ في الجنازات ما كان أحوج الموتى إلى قليل منها وهم على قيد الحياة!

ساحة عواطف حميدة قبالة إذاعة المنستير لن تعيد صديقتنا إلى الحياة فهي حيّة في القلب والذاكرة ولم تغادر مكانها أصلا، كلّ ما في الأمر يا عواطف أنّ كثيرا من الأوغاد الذين تعرفين والذين كانوا ينتظرون سقوطك من على السلّم بفارغ الصّبر والشّماتة بل يسعون إليه سعيا سيظلّ شبحك يرفرف فوق رؤوسهم ينتقيهم دون غيرهم في مسرحية النفاق الاجتماعي العظيمة هذه، سيظلّ شبحك ينظر إلى هؤلاء الذين يرتدون وجوها كثيرة بعد أن فقدت وجوههم ملامحها الأصلية من فرط الكذب، هؤلاء الذين يذرفون الدموع على الموتى ممدّدين في توابيتهم ويمشون وراء الجنازات ولا يذكرون قتلاهُم الاّ بخير.


رجـــــل الهــــــايكا

vintagestyle-radio-originalفي معرض دفاعها عما تبقى من الهايكا قالت الرئيسة السابقة للنقابة الوطنية للصحافيين: … الزميل الحبيب بلعيد، عضو الهايكا، المذيع المهني والغيور على الإذاعة والإذاعيين والوحيد الذي كان يخالف التعليمات ويمرر أغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة…. لتتربى أجيال وأجيال على أنغام الثورة والمعارضة رغم جماعة يا سيد الأسياد وجماعة “بوهم الحنين”….

هذا الكلام الناعم الجميل في شخص أول مدير لإذاعة الشباب في عهد بن علي وأول رئيس مدير عام للإذاعة التونسية بعد الثورة وعضو الهايكا الحالي لا يخلو من بعض التجاوزات التي تستحق أن نتوقف عندها قليلا رغم احترامنا لتجربة الرجل الإذاعية، فالأوصاف التي أغدقتها عليه قد لا يصدقها هو نفسه عن نفسه، سيما وقد ارتفع إيقاع الطبل كثيرا في عبارتها: الوحيد الذي كان يخالف التعليمات!!

لا شكّ أن الأغاني الملتزمة كانت مصدر امتعاض بعض المسؤولين من ذوي الأفق المحدود والرؤية المسطحة وقد كانوا كثرا في أروقة الإذاعة العمومية ومكاتبها، لكن لم تكن ثمة تعليمات بمنعها، وقد ارتبطت هذه الأغاني بسياقات لم تكن للنظام السياسي مشكلة معها، كالقضية الفلسطينية والحرب اللبنانية وغيرها من الثورات، وكان له من الدهاء ما يمنعه من الوقوع في مقاومة الأغاني وملاحقة الرسائل المشفرة التي يتوهم بعض المذيعين أنهم بصدد إرسالها إلى الناس إذا ما أسقطوا نصوص الأغاني على واقعهم. بل إن عبقرية التجربة التونسية جعلت من أغنية أولاد أحمد: “نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد” أغنية وطنية رغم أنها تنتقد التهجير والتشريد والإقصاء، وفي حفل مائوية الشابي قرأ أولاد أحمد أيضا أمام وزير الثقافة في توزر رسالة تضمنت نقدا سياسيا لاذعا بأسلوب ساخر، وعرضت القناة الثانية وقائع الحفل كاملة دون اجتزاء، هذه بعض النماذج وغيرها كثير لمن يريد إيهامنا اليوم بغاية رمي التاريخ في المزبلة أن الوضع الإعلامي والثقافي كان في عهد بن علي في منتهى القتامة والانغلاق والتردي، وأن ثقافة الأب الحنون وحدها هي الطاغية حتى أصبح مجرد بث أغنية للشيخ إمام هو عنفوان الثورة والمجد. هذا غير صحيح بالمرة، فالمشهد الإذاعي كان بانوراميا تتعايش فيه كل ألوان الطيف، ويمكن العودة بسهولة إلى شهادات ختم الدروس الجامعية بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار للوقوف على نماذج رائدة ومجددة في العمل الإذاعي احترمت العقل التونسي وحق المواطن في إبلاغ صوته وناقشت المسألة الاجتماعية دون أن تقدم بالضرورة أغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة وأخواتها مما اختص بها زميلنا المذكور أعلاه.

لم يكن الحبيب بلعيد الوحيد الذي بث أغاني الشيخ إمام في الإذاعة التونسية لكنه كان الوحيد الذي كافأته الثورة على ذلك وغفرت له بفضلها كل ما تقدم من عمله الإذاعي وما تأخر، وكأنه لم يفعل في حياته المهنية غير هذا، في وقت نصبت فيه محاكم التفتيش لقراءة الضمائر والنوايا وملاحقة الشبهات البنفسجية لدى الجميع. وكان مؤسفا حقا أن يلجأ زميلنا المتقاعد عندما أصبح الفاتق الناطق في المؤسسة إلى أساليب تَوهّمنا أن الثورة قد قضت عليها وأن من تربى على قيم الأغاني الملتزمة لا يمكن أن يقبل بها بأي حال، فما قيمة الأغنية إن لم تقوّم النفس الأمارة بالسوء وتهذبها وتزرع فيها بذور الحكمة والأمانة والصدق والإخلاص؟

ما كنت لأكتب في هذا لكن الشيء بالشيء يذكر، فمثل هذا الموقف يعيد بإلحاح إلى الواجهة ضرورة تحري المسألة الإعلامية في العهد السابق وقراءتها بتأن وبلا تشف، نريد قراءة ثلاثة وعشرين عاما من الإذاعة والتلفزة بعين العدل والقسطاس، بكثير من التواضع للحقيقة، بعيدا عن المعرفة المسطحة والإسفاف. فلقد قادتنا صفحات التواصل الاجتماعي إلى ثقافة سهلة مريحة ملطخة بالدماء الآدمية التي ينثرها هنا وهناك آكلو لحوم البشر، والنقيبة قد اكتوت بنيرانهم طويلا.


لن أصمت بعد اليوم

بقلم الدكتور محمد الفهري شلبي
الدكتور محمد الفهري شلبي

الدكتور محمد الفهري شلبي

صمت طويلا. قررت ألا أصمت بعد اليوم . هاكم لمحة سريعة عن القضية التي جعلتني أنقم أحيانا على أشياء كثيرة سبق أني تحدثت عنها منها أني تعلمت. لو لم أفعل لكنت في الشقاوة أنعم.
ملف القضية معروف في شأننا، الرؤساء المديرين العامين الذين تداولوا على المؤسسة منذ 2002. سأتحدث باسمي، فأنا سيد نفسي اليوم، و أترك لزملائي الحديث عن أنفسهم و إن كان ما سأقول يخص القضية فهو يخص الجميع.
التهمة الموجهة إلي هي أنني اشتريت برامج كاكتوس دون اللجوء إلى قانون الصفقات العمومية و بالمقايضة.سأترك الحديث عن القانون و عن المنطق جانبا الآن و أذكر لكم ما قاله رئيس الحكومة علي العريض قبل عام و نيف بتاريخ 30 ماي 2013.
1-المستوى السياسي
“أعلن رئيس الحكومة،علي العريض أنه تم الترخيص للتفزة التونسية وبصفة استثنائية باعتماد صيغة المقايضة بالمساحات الاشهارية بالنسبة لبرمجة شهر رمضان المقبل وذلك في إطار دعم مواردها”. و هاكم الرابط.
يعني هذا ببساطة شديدة أن السجان أقر صراحة أنه لم يكن في وسع التلفزة و لا في وسع المسجونين آنذاك و الممنوعين من السفر اليوم انتاج مواد درامية و غيرها لشهر رمضان بالموارد المخصصة للتلفزة ، و هذا بعد مغادرة كاكتوس بعامين مما يفترض أن الأوضاع تحسنت.
كان رد مجلس إدارة التلفزة الرفض لأنهم أدركوا أنه طُلب منهم فعل ما سُجن من أجله أربعة أشخاص أنا خامسهم. و كان رضا السعيدي المكلف بالملف الاقتصادي صرح قبلها في بداية أفريل بالشيء ذاته. .” أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم؟”
2- المستوى القانوني
ينص قانون عدد 33 لسنة 2007 المؤرخ في 4 جوان 2007 و المتعلق بالمؤسسات العمومية للقطاع السمعي والبصري على ما يلي في فصله السابع:
” تخضع صفقات المؤسسات العمومية للقطاع السمعي والبصري وكذلك الاتفاقيات التي يترتب عنها انعكاس مالي إلى التراتيب العامة في مادة الصفقات العمومية فيما يتعلق بنفقات التجهيز والتسيير العادي. وتُضبط بأمر أنظمة خاصة تحدد شروط وإجراءات اقتناء حقوق بث وملكية الأعمال السمعية البصرية وتنفيذها” (الرابط)
بربكم هل بعد هذا وضوح؟ ما الذي يخضع إلى التراتيب العامة المعمول بها في الصفقات العمومية؟ هي النفقات المتصلة بالتجهيز وبالتسيير العادي. و ماذا عن المواد السمعية البصرية ؟ أنظمة خاصة تُحدد شروط وإجراءات اقتناء حقوق بث وملكية الأعمال السمعية البصرية وتنفيذها.
ماذا يعني هذا؟ أن القانون يقر صراحة بأن المواد السمعية البصرية لا يمكن أن تخضع إلى تراتيب الصفقات العمومية. تخضع إلى أنظمة خاصة ، و كنا في أكتوبر 2010 بصدد وضع اللمسات الأخيرة لمشروع أمر ينظم هذا القطاع.
عندما جابهت من سألني عن ذلك أجابني بأنه كان على انتظار صدور الأوامر. يعني أمتنع عن شراء أي مضمون إعلامي بما في ذلك حقوق بث المقابلات الرياضية و الحال أني مطالب بالقانون أن أسهر على عدم توقف البث في الخدمة العامة. الأمر المنظم هذا لم يصدر إلى الآن. من كان يقبل التوقف عن بث مسلسلات في رمضان في انتظار أوامر لم تصدر إلى ال’ن؟ دعوا جانبا السياسة و ما يرافقها. هل هذا كلام معقول.
هل فهمتم الآن لماذا رخّص على العريض سنة 2013 للتلفزة بأن تقتني البرامج كما كانت تتعامل التلفزة مع كاكتوس و غيرها كمحمد الحناشي الذي كان يبيع التلفزة برامج سأحدثكم عنها لاحقا؟
3-المستوى المنطقي
لماذا لا يمكن لأي تلفزة في العالم ان تشتري مواد سمعية بصرية حسب قانون الصفقات العمومية؟ مبدأ الصفقة العمومية هو أن تنشر إعلانا تقول فيه المؤسسة كذا ستقتني السلعة الفلانية حسب مواصفات محددة، كأن تقول 100 كرسي من المادة الفلانية بحجم كذا تتحمل الوزن الفلاني…. تتلقى ثلاثة عروض و يجبرك القانون على الابقاء على العرض الأقل ثمنا. تصوروا أن التلفزة تنشر إعلانا لاقتناء مسلسل؟ ما هي المواصفات التي ستحددها ؟ و إن هي حددتها هذا يقتضي أن تكون المسلسلات الثلاثة متطابقة في كل شيء حتى تأخذ الاقل ثمنا. متطابقة في كل شيء. هل هذا معقول؟
فلنفترض أنه ممكن. و سنتغلب على قانون الجاذبية. من من المنتجين يخاطر بإنتاج مسلسل كلفته 2 مليارات و هو يعلم ان له حظا على ثلاثة ليُبقى على مسلسله؟ و هل يمكن الإكتفاء بحلقة واحدة لتقييم المسلسل. العارفون بالعمل التلفزي يعلمون أن هذه نكتة لأن 15 حلقة من مسلسل واحد تنتج بشكل متواز.
تصوروا أن وزارة الثقافة تتصرف بالمنطق نفسه؟ تحدد شروطا و تنتظر ثلاث فاطمات بو ساحة و تأخذ الفاطمة الأقل سعرا؟ و هذا يقتضي بطبيعة الأمر استنساخ المرأة ثلاث مرات…عندما جاءت وزارة الثقافة بأزنافور، هل اتبعت مسلك الصفقات العمومية؟
هل فهمتم الآن أنني سجنت ظلما مرتين و منعت من السفر ظلما و لطخت سمعتي ظلما حتى البارحة على الفيس بوك؟
ماذا بقي؟ التجاوز في الإشهار. جيد. هاكم التفسير: لما تم فصل الإذاعة عن التلفزة عام 2007 لم يُحدث هيكل تنظيمي للتلفزة عندما أصبحت مستقلة عن الإذاعة. لما توليت منصبي في جويلة 2009 سألت عن ذلك و قدموا لي مشروعا أعده سلفي و رفضته سلطة الإشراف و قُدم لي ذلك في سبتمبر 2009. و بدأنا بالاشتغال على ذلك و طالبت النقابة في مفاوضات مضنية مطالب كثيرة من بيينها المشاركة في إعداد الهيكل التنظيمي. و كنت منشغلا بنقل التلفزة إلى مقرها الجديد بسواعد بنات التلفزة و أبنائها. لن أفصل و سأكتفي بالقول إن قنوات تلفزية فرنسية استعانت بالأمريكان…
و ما لم يكن هنك هيكل جديد يبقى الهيكل التنظيمي القديم ساري المفعول، و هو أمر عدد 1296 بتاريخ 4 جوان 1999. ماذا نجد في هذا النص:
الفصل 36 يقول: “تكلف إدارة القناة الوطنية –قناة 7 خاصة- بإعداد و ضبط سياسة المؤسسة في ميدان البرامج التلفزية و بالعمل على الإرتقاء بالثقافة و الحضارة التونسية و بالقيام بالإنتاج الخاص بالقناة و بالبرمجة و البث و متابعة البرامج التلفزية”.
الفصل 38 يتحدث عن المصلحة الفرعية لبرمجة قناة تونس 7 التي تشتمل على مصلحتين:
-مصلحة البرمجة و مرافبة البث
-مصلحة مشاهدة البرامج.
كل هذا تحت إشراف مدير قناة تونس 7. فمن هو مطالب بأن يرى التجاوز في حجم الإشهار؟ هل الرئيس المدير العام أم أناس آخرون؟
ملاحظة: كل كلمة قلتها هنا و سأقولها موثقة إما نصا أو شهادة.
د محمد الفهري شلبي

———————
المزيد حول نفس الموضوع

كلنا محمد شلبي، كلنا ذاك الرجل
ساعة الرئيس المعطلة


حول ذاكرة الإذاعة

أرشيف الإذاعة التونسية

أرشيف الإذاعة التونسية

صدمت الرأي العام صور نشرت على الفايسبوك لأشرطة الإذاعة التونسية مبعثرة في الأروقة المهجورة وقد طالتها أيادي الغدر والعدوان، لا أحد يمكنه أن يتكهن بما في داخل تلك العلب الصدئة لكنه على أية حال سيجد شيئا صالحا لمقاومة النسيان، أغان أو برامج أو تمثيليات، كلها أعمال بذل فيها بناةُ الدار حياتهم كلها. هذه الأشرطة هي ببساطة ثروة من ثروات البلاد التونسية لا تقدّر بثمن لأن ما فيها غير قابل للتعويض ولهذا أجمع كل من شاهد تلك الصور على أنها جريمة في حق الشعب والذاكرة.

تعقيبا على هذه الصور كتب كريم السمعلي ممتعضا:” كم يؤلمني ما أرى.. لكن لإحقاق الحق هذا مشكل قديم لا علاقة له بالتنصيبات الجديدة. حدثني آدم فتحي قال: حين كنت مستشارا لمدير الاذاعة منصور مهني حاولنا أن ننقذ الأرشيف.. فذهبت الى مقر الأرشيف فما هالني الا وروايات الدوعاجي مفروشة على الأرض في حالة يرثى لها…الخ

وهذا الكلام على قصره وعفويته يختزل ثلاث حقائق من الحيف ألا تُذكر في باب الإنصاف وردّ الفضل إلى أهله. سيما وأن المتلفظ شخص أقدّر له اهتمامه العجيب بالذاكرة فهو صاحب أكبر موقع الكتروني لتجميع تراث الفن الملتزم وخصوصا أعمال الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وهو مغرم بذلك حدّ الهوس مما يقيم الدليل على أن العناية بالأرشيف هواية قبل أن يكون وظيفة ومحبة قبل أن يكون عبئا من الأعباء. (مواصلة القراءة…)


الذئاب والنــــــعاج

صدرت خلال الأسبوع الماضي إشارات رفيعة المستوى اعتبرت رسائلَ موجهةً إلى الرئيس المدير العام لدار الصباح تدعوه إلى الاستقالة بعد أن صار الوضع محرجا أكثر مما يجب، من هذه الإشارات قولُ أحد أعضاء الحكومة إن قضية دار الصباح أصبحت قضية كرامة واستغرابُه من إصرار الرجل على منصبه بعد أن رفضه الجميع. من هذه الإشارات أيضا عدم استبعاد مستشار سياسي كل الاحتمالات في هذه القضية وهو ما قد يمثل دليلا على أن الترويكا بصدد البحث عن الصيغة الأقل إحراجا للخروج من عنق الزجاجة.

لكن الرسالة رغم وضوحها الشديد لم تصل إلى وجهتها، مما يدل على أن كثيرا من “رجال المرحلة” لم يستوعبوا الدرس الأكثر أهمية في سياق الثورة التونسية، كونَها ثورةَ كرامة قبل كل شيء، والغريب أنهم يتشبثون بالمناصب التي وضعوا فيها خطأ كما يتشبث الغريق بحطام المركب!

تحضرني في هذا السياق ثلاثة مواقف متناقضة، أولها موقف الشاعر الكبير المنصف الوهايبي الذي عين في ظل حكومة محمد الغنوشي على رأس إذاعة المنستير لكنه لم يعد إليها بعد حفل التعيـين انتصارا لكرامته وعلو همته والحال أن لو بقي لما كان أسوأ ممن جاء بعده!

والموقف الثاني المناقض له موقف من جاء بعده وأعني الدكتور جميل بن علي الذي لم يستوعب من درس الوهايبي شيئا! واستمات في التشبث بكرسيه حتى رفض مشاركة زملائه الاستقالة تعاطفا مع الحبيب بلعيد الذي أقيل بطريقة مهينة. وفي تقرير تلفزي شوهد وهو يواجه بلامبالاة مستفزة الأجواءَ المحتقنةَ التي بلغتها الإذاعةُ بعد عام من توليه إدارتَها وكأن الذين تجمهروا أمام مكتبه رافعين شعار ديقاج، يصرخون في واد بلا قاع أو كأنهم بعض من شعب الموزمبيق! رغم أنه كان يبدو في مكتبه كمن وقع في مصْــيَدة ولم يتسنّ له الخروجُ إلى سيارته إلا تحت حماية الجيش!!، ولكن يبدو أن الجهات الحكومية التي تقف وراء التعيينات في قطاع الإعلام تـــثمن هذا التنازل الطوعي عن الكرامة لفائدة الكرسي، فكافأت إصراره على البقاء بلا قيد أو شرط بمنصب مهم في رئاسة المؤسسة موهمة المحتجين بأنها قد استجابت لطلبهم!!

أما الموقف الثالث فهو موقف الصحفي البشير الصغاري الذي عاد من قناة الجزيرة ليتولى إدارة نفس المؤسسة بعد أن غادرها صاحبنا المذكور أعلاه في اتجاه العاصمة، لكنه خير بعد شهر فقط رفع الراية البيضاء وعاد إلى ميدان الكفاح الأصلي، بلاط صاحبة الجلالة مفضلا شرف المهنة على أن يكون دمية تحركها أطراف أخرى عن بعد، والغريب أن استقالته قوبلت بلامبالاة باردة، فلم يدعه أحد للتوضيح وفضح الأسباب.

القضية برمتها وانطلاقا من هذه النماذج لا تخرج عن نطاق الحكمة القديمة: لم تكن الذئاب لتكون ذئابا لو لم تكن النعاج نعاجا، فالحكومات على اختلاف ألوانها تــــتذأببُ حينما تجد من يسير في ركابها سير النعاج. والذين تلونوا كالحرباء وصاروا يتودّدون للحكومة من أجل الظفر بغنيمة ضاربين بكرامتهم عرض الحائط هم أشدّ خطرا على تونس من الحكومة ذاتها إذا ما أخطأت!

————————————————————

للمزيد حول هذا الموضوع شاهد فيديو طرد جميل بن علي من إذاعة المنستير

elaa


الإذاعة التونسية من عثمان الكعاك إلى محمد المؤدب

كثيرا ما نرى في منابر الحوار التلفزية من يدافع بقوة عن تعيينات حكومة الترويكا، وحجته في ذلك أن الكفاءة هي المعيار الأول، وعادة ما يكون أصحاب هذا الرأي من المنتمين إلى حزب النهضة لأن الحديث عن الولاء موصول بهذا الحزب دون سواه.

ومن الضروري قبل الاسترسال في عرض وجهة النظر هذه التـنويه إلى أننا نتوخى في مقاربة الواقع السياسي منهجا وسطا ما أمكن، فالنهضة شريك أساسي في الانتقال الديمقراطي ولا يمكن تخيل وضع سياسي يستثنيها لكنها غير معصومة من الخطأ.

يبدو إذن إصرار المتحدثين باسم النهضة على أولوية الكفاءة في كثير من المناصب الحساسة خصوصا في مؤسسات الإعلام أمرا يحتاج إلى نقاش، ما يؤكد ذلك هو أن التعيينات في هذا القطاع شكلت منذ مباشرة الحكومة أعمالها نقطة الصدام المركزية مع المعارضة وسائر مكونات المجتمع المدني، والمثل الأكثر دلالة على ضبابية المسألة يقع في شارع الحرية، فمؤسسة الإذاعة تضم تسع إذاعات جهوية بالإضافة إلى المجلة والبوابة الالكترونية، وهو ما يجعلها تقريبا أضخم مؤسسة إعلامية وطنية عدّة وعتادا.

لقد عينت الحكومة على رأس الإذاعة التونسية أحد موظفيها بطريقة غامضة، فقد انتبه البعض بمحض الصدفة لا غير إلى أن الرائد الرسمي يتضمن تسمية مدير عام جديد والحال أن السابق ظلّ يمارس وظيفته دون أن ينبهه أحد إلى أنه قد أقيل، ولو لا ألطاف الله التي دفعت بسائقه الشخصي إلى إعلامه بالأمر لظلّ الوضع على حاله حتى الساعة…!

والرئيس المدير العام الجديد رئيس مصلحة مغمور بالإذاعة فما الذي جعله يحظى بثقة الحكومة ليترأس مجلس إدارة يشرف على تسع مؤسسات؟ هل اختير على أساس الولاء؟

تستدعي الإجابة عن هذا السؤال التذكير بأن المعني بالأمر من موظفي الدار وقد أهّــلَهُ التنظيم الهيكلي الجديد إلى الحصول على خطة وظيفية وهو ما يستبعد أي علاقة له بأي تنظيم محظور في العهد السابق لأن نظام بن علي كان شديد الحرص على مراجعة الملفات الأمنية لمنظوريه واستبعاد كل من حفت به الشبهات ولو من بعيد في الانتداب والترقية. كما يستبعد أن تكون النهضة عينته بسبب انتسابه إليها بعد الثورة فالمنطق السليم يفترض أن الأحق بالتسمية لو كانت بسبب الولاء هم قدامى المناضلين في الحزب الأجدر بالثقة من المتحولين.

النهضة براء إذن من تسمية محمد المؤدب رئيسا مديرا عاما للإذاعة على أساس الولاء، فهل تم ذلك على أساس الكفاءة؟

لقد اطلعنا على السيرة الذاتية للرئيس المدير العام الجديد في الصفحة السادسة من مجلة الإذاعة لشهر ماي 2012 في نسختها الأصلية، قبل أن يتم تأخير صدورها وإعادة طبع الصفحة لحذف الفقرة الخاصة بالر م ع الجديد. والفقرة المصنصرة تقول إن محمد المؤدب متحصل على الإجازة في الكهرباء وشهادة الدراسات المعمقة في الهندسة الكهربائية وهو بصدد إعداد دكتوراة حول معالجة الإشارة !. ولا أحد يعرف ما إذا كانت المؤسسة قد تكبدت خسائر إعادة طبع الصفحة إرضاء لتواضع المعني بالأمر وعدم رغبته في إطلاع العامة على مستواه العلمي المرموق،مأأم أم لتواضع السيرة الذاتية وفقرها المدقع مقارنة بسِيَرِ كل من تقلدوا أمر الإذاعة منذ عهد المرحوم عثمان الكعاك، وسيرة الرئيس المدير العام الجديد مقارنة بالمهمة التي تقلدها تبدو حجة كافية على أن تسميته لم تتم على أساس الكفاءة.

إن هذا الغموض الذي يفتح باب التأويلات والظنون على مصراعيه، لا يخدم الحكومة في شيء إذ يقيم الدليل على استخفافها بالمؤسسات العمومية ويقوي موقف أهل المهنة المطالبين بهيئة عليا مستقلة من مشمولاتها وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. 


الإعلام العمومي: دار لقمان وأحوالها

التلفزة التونسية

التلفزة التونسية

لم تستطع المهنة الصحفية أن تؤجل ولو قليلا أزمتها القطاعية لصالح سلامة الانتقال الديمقراطي ودور أفضل للصحافة فيه، ومن مظاهر هذه الأزمة التجاذبات التي تميز من جهة عمل المؤسسات (النقابة، الهيئة العليا لإصلاح الإعلام…) وعدم قدرة القطاع العمومي على استغلال حالة الثورة لصالحه في مستوى الكيف وتنوع العرض وخضوع المجال السمعي البصري بحالته الراهنة لمتطلبات أطراف سياسية تستفيد كثيرا من المماطلة والتسويف في الخروج به من عنق الزجاجة.

لقد تشكّل قبيل اندلاع ثورة 14 جانفي بقليل شبه اقتناع بأن القطاع السمعي البصري العمومي هو بصدد الاحتضار وكانت الدلائل على ذلك كثيرة ومن أبرزها تقهقر نسب الاستماع والمشاهدة في مختلف استطلاعات الرأي ولم تكن حملات التشكيك التقليدية في موضوعية هذه الدراسات ودقتها لتغير من واقع الحال شيئا إذ أصبحت وسائل الإعلام هذه صوتا للنظام السياسي القائم لا غير وبدأت تبرز بعض التساؤلات المحتشمة عن جدوى القيام بالمرفق العمومي على هذه الشاكلة أي بنسبة متدنية من المستمعين والمشاهدين.

وأمام حالة الارتباك والذهول التي عمّت في أعقاب سقوط نظام الرئيس بن علي بتلك الصورة غير المتوقعة ومع انطلاق عملية تشكّل واقع سياسي جديد أساسه الحرية والتعددية عادت جميع وسائل الإعلام السمعية والبصرية إلى خط الانطلاق الأول وتوفرت فرصة تاريخية لا تتكرّر ليستعيد القطاع العمومي أسبقيته فهو الأحرى بشعار “صوت الشعب” والأكثر تضررا من هيمنة أجهزة الاستبداد السياسي وهو المرفق العام الذي يتطلع التونسيون إلى أن يكون الناطق باسمهم في مواجهة الحكومة لا الناطق باسم الحكومة في مواجهتهم بينما تحوم الكثير من الشبهات حول ظروف تأسيس القنوات الخاصة وعلاقة باعثيها بالنظام. والآن تشكل اقتناع جديد بأن الإعلام العمومي فرّط في هذه الفرصة التاريخية وأهدرها مجدّدا لصالح القطاع الخاص الذي استطاع أن يتجاوز كل الشبهات ويبقى على رأس القائمة في مختلف دراسات قيس نسب المشاهدة والاستماع. (مواصلة القراءة…)


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress