Tag: إذاعة المنستير

توفيق الخذيري، الرجل والإذاعة

كنت أتأهب لمغادرة المكتب في تلك الأمسية الصيفية الحارة من أماسي «عام الثورة» عندما رنّ جرس الهاتف. كان المدير على الطرف الآخر من الخط. ولأول مرة منذ توليه إدارة الإذاعة في ظروف انفلتت فيها كل الشياطين من عقالها، امتزج في صوته وهو يخاطبني الانكسارُ بالتملّق.
قال: أيعجبك ما فعله معي توفيق الخذيري؟
قلت مستفسرا: ماذا فعل؟
قال: لقد رفض الفكرة التي اقترحتها عليه!
وأنهى المكالمة بتودّد مصطنع قائلا: أرجو أن تحاول إقناعه.

توفيق الخذيري

توفيق الخذيري

اتصلت بمكتب الاستقبال وطلبت منهم إبلاغ توفيق بأني أريد لقاءه في مكتبي قبل مغادرة المحطة، وبقيت في انتظاره.
لقد شبّه أحدهم أجواء الثورة بما يحدث عندما تخرجُ زربية ثمينة من مخبئها لتنفض عنها ما تراكم من غبار. فقد كنا يومها جميعا مثل ذرات الهباء، كل ذرة تغادر مكانها لتطير في الهواء، وتتشقلب مرارا قبل أن تقع في مكان آخر. ووسط ذلك الغبار الكثيف الذي كان يتطاير ويخنق الأنفاس انهارت الحدود الفاصلة بين النبل والسفالة، بين الشهامة والوصولية، واختلطت المعادن الأصيلة النادرة بنظائرها المقلدة المزيفة. وأنا كنت شاهدا على ذلك المدير الذي كان متعاونا مع الإذاعة لسنوات طويلة وأخذ بعد الثورة يتشقلب بكل ما أوتي من انتهازية وصفاقة للوصول إلى هذه الوظيفة بدعم من أحد الوزراء الجدد. كما كنت شاهدا على توفيق الخذيري وهو يذود في كل الأوقات عن نفسه كما يدافع الأسد عن عرينه.
قبل ذلك بعشرين عاما، «وكان الزمان أقل جموحا»، كنت أتأهب لتقديم حلقة من برنامج «جاءوا إلى تونس» الذي يستضيف أدباء ومثقفين من الوطن العربي استقروا في بلادنا، وبينما كنت منشغلا بتجهيز الأشرطة والأغاني والاتصال بالضيوف أقبل الصادق بوعبان رئيس مصلحة الإنتاج ومعه شاب أسمر وسيم تبدو عليه علامات الخجل الفطري، وقال لي: هذا توفيق الخذيري، سيتابع اليوم برنامجك. (مواصلة القراءة…)


التلفزيون البوردال

سيف الطرابلسي كرونيكور في التاسعة

سيف الطرابلسي كرونيكور في التاسعة

لتفسير الزواج العرفي الذي حصل بين قناتي «الحوار التونسي» و«التاسعة»، جرى الإعداد للموسم التلفزيوني الجديد بإطلاق الكثير من الأخبار حول تنقلات المنشطين، واشتغل صُنّاع الإشاعات بمهارة لإضفاء هالة من التشويق عليها، قبل أن يظهر المعنيون بها في الإذاعات للتفنيد والتذمّر من «الصيد في الماء العكر».

هذه الخطّة التسويقية اعتمدت أساسا تقنية «الاستحمار»، فقد استثمرت جيّدا سذاجة يتمتع بها قطاع كبير من المتفرجين تبلغ حدّ الغباء وتؤتي أكلها دائما. فلا شكّ أن الإيحاء بوجود خلافات عميقة في كواليس هذا التلفزيون أو ذاك هو أفضل طُعم يمكن تقديمه لجمهور فضوليّ لا يتردّد أبدا في الضغط على الزرّ الذي سيريه «لحظة سقوط فستان هيفاء وهبي»، وبقدر ما تضمن هذه الخطة للمحتوى التلفزيوني المزمع تقديمه اهتماما شعبيا كفيلا بإرضاء أصحاب الإعلانات تمعن في طمس حقائق لا يريد أحد أن يتحدث عنها:

(مواصلة القراءة…)


رياض نعسان آغا بين الثقافة والسياسة

أجري هذا الحوار الإذاعي منذ سنتين، كان الدكتور رياض نعسان آغا وزيرا للثقافة في سوريا وقد زار تونس على رأس وفد ثقافي رفيع المستوى للمشاركة في فعالية القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية..
وإثر الحفل الفني الذي حضره رفقة السيد عبد الرؤوف الباسطي وزير الثقافة الأسبق رصدت بشكل سريع انطباعاته حول الحفل (الصورة المصاحبة) والتمست منه إجراء حوار مطول نسبيا فرحب على أن يكون ذلك بعد ساعة فقط في نزل لايكو وسط العاصمة..

وكان الحوار الذي أنزله اليوم بوصفه شهادة على تجربة مثقف عربي خبر عالم الفن والإبداع وبلغ مواقع القرار الثقافي المتقدمة ثم انتصر لفكره الأصيل..

Audio clip: Adobe Flash Player (version 9 or above) is required to play this audio clip. Download the latest version here. You also need to have JavaScript enabled in your browser.


الضحية والجلاد

الكرنك نجيب محفوظ

الكرنك نجيب محفوظ

كتب أحد أبرز الحقوقيين التونسيين وهو يتأهب لدخول السجن سنة 2001 عن الجلاّد الذي ينتظره هناك ليحرُس عزلته ويذيقه من نار الاضطهاد صنوفا وألوانا، وتساءل بحسّه الحقوقي عن هذا الآدميّ الذي هو مواطن تونسيّ شبّ وترعرع في هذه الأرض ونَما وهو يتنشق هواءها ويكرع من مائها ويرتوي من نسغ جمالها، ولكنه انتهى جلاّدا في خدمة قضية قد تبدو له عادلةً منصفةً بينما تبدو لغيره ظالمةً جائرة.

هذه الفكرة التي قلّما يُـنتبَهُ إلى بداهتها ألهمت الأدباءََ والسينمائيين، ليس أدلّ على ذلك من فيلم “الكرنك” المأخوذ عن قصة لنجيب محفوظ أدان فيها القمع السياسي في عهد عبد الناصر والملاحقات التي استهدفت شباب الجامعات بمختلف انتماءاتهم الإيديولوجية لمجرّد نقدهم ثورةَ الضباط الأحرار، وتشير قرائنُ عديدةٌ إلى أن صورةَ الضابط الذي كان جلاَّدا قاسيا في المعتقل ثم صار إلى السجن بعد النكسة تتطابق مع صورة صلاح نصر مدير المخابرات العامة المصرية السابق الذي تمت محاكمته في قضية انحراف المخابرات الشهيرة في أعقاب نكسة 67، ويعتبر مشهدُ لقائِه وهو سجينٌ مع الطلبة الذين كان يُعذِّبهم من أقوى مشاهد الفيلم.

كما تُعتبر شخصية الضابط توفيق شركس (محمود عبد العزيز) في شريط “البريء” لوحيد حامد وعاطف الطيب أبرز نموذج سينمائي لهذه المفارقة، فهو المكلف بالإشراف على المعتقل الصحراوي الكائن في منطقة نائية من العالم يُعذب فيها “أعداء النظام” من الطلبة والمثقفين والنشطاء السياسيين بطريقة موغلة في الفظاعة، ولكننا نراه في اللقطات الأولى وهو يختار هدية ابنته في عيد ميلادها فيرفض أن يبتاع لها لعبةً في شكل “عسكر وحرامية” ويفضِّل اختيار آلة موسيقية ناعمة بما يعكس بوضوح هذا الازدواجَ الحادّ في شخصية الجلاّد التي قد

يدلُّ مظهرُهَا الخارجيُّ وهي بعيدةٌ عن سياقِها الوظيفي على غير ما تبطنه. (مواصلة القراءة…)


عين الحسود فيها عود

التحركات المضادة لنضال الإذاعيين من أجل القطع مع الماضي تدلّ على أن علة العلل في القطاع الصحفي هي انحسار رقعة التضامن المبدئي وتبجيل البعض مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة، وهذه الممانعة هي أفضل دليل على أن نظام بن علي ما يزال قائم الذات يتحرك بلا خجل أو وجلٍ في الواقع أو داخل النفوس والضمائر سنة كاملة بعد حدوث الثورة، فالمطالب التي تبنتها النقابة الوطنية للصحفيين والتي يجري التشكيك في مشروعيتها تتعلق بثلاثة محاور أساسية لا مناص منها لإعادة بناء الإعلام العمومي على أسس سليمة: الاستقلالية المهنية والشفافية الإدارية وكرامة الصحفي.

الاستقلالية المهنية لتحصين الإذاعة عن التجاذبات الحزبية والاحتواء الإيديولوجي وحتى لا تعود من جديد بوقا لفائدة هذا الطرف أو ذاك بتنشيط حاستي الخوف والطمع ولا تحنّ إلى دورها القديم في خدمة الدكتاتورية، وهو ما يستدعي وضع أطر ديمقراطية لصياغة القرار التحريري والسهر على تنفيذه.

الشفافية الإدارية لأن الإذاعة بما هي مرفق عمومي ليست في معزل عن رياح الفساد العطنة التي سمّمت الأجواء والنفوس وأفقدت قيمة النزاهة معناها حتى صار هاجس البعض السّعيُ إلى الانتفاع من سوء التصرف لا مقاومته والوقوف ضدّه، فكل التفاصيل المتعلقة بفرص العمل والتكوين ليست من باب النميمة أو الحسد والتباغض وإنما ينبغي أن يُـنظر إليها بمنظار أسمى لأنها تقود إلى فكرة العدالة والإنصاف التي هي الآن همّ وطني شاسع يشترك في المطالبة به التونسيون جميعا.

كرامة الصحفي لأنّ الإعلام العمومي رغم ما يقدمه من جليل الخدمات للمواطنين يظلّ الشماعة المثالية التي تُـعلق عليها النخبة أخطاءها وتنفس بواسطتها عن شعور بالذنب دفين لم تقدر على التحرر منه بطرق سوية في إطار مراجعات نقدية ذاتية، فمن السهولة بمكان القول إن الإعلام هو صانع الدكتاتوريات، وهو في خدمة الاستبداد والفساد، خصوصا بالنظر في البنى التشريعية والإدارية القائمة والتي تيسّر ذلك بل تعبّد له الطريق ولكنه مظهر وحيد من مظاهر الاستبداد وشجرة يتيمة في غابة الفساد، ومن الحيف العظيم استثناء الإذاعة العمومية من حملة الإصلاح والمراجعات العميقة التي تشمل الآن كل شيء، انتصارا لكرامة الصحفي التونسي الذي أثبت دائما كفاءته واقتداره كلما رأيناه يعمل في دول أخرى… (مواصلة القراءة…)


إذاعة المنستير من دكتاتورية لأخرى

الشيخ منور المدني

بالأمس كانت اذاعة المنستير تسمى “عروس البحر” بما تحمله هذه التسمية من عمق البحر واتساعه وجمال العروس وانطلاقتها نحو الاحلام..، واليوم تغير شعارها الى “الصوت الحر” لتنكتم فيها الأصوات وتقبر الكفاءات وتقصى سواء من بداخلها أو من المتعاونين الخارجيين.

بالأمس كان إشعاعها متميزا واليوم سبقها غيرها تألقا وإشعاعا واستقطابا لتتخذ أدنى المراتب في إحصاءات المحصين وفي آذان المستمعين.

بالأمس أدارها اهل الاعلام المختصون، أجيالا وأجيالا من الرجال المتمرسين العارفين بخصوصيات الإعلام رغم الهزات والضغوطات من بورقيبة الى بن علي..، واليوم – بعد الثورة على الموروث المقيت- يديرها مؤقتا من اختصاصه الآداب والعلوم الانسانية، وكان الظن أن تسير الامور في هذه الاذاعة سيرا طبيعيا مواكبا لمتطلبات المرحلة الثورية بطاقاتها الذاتية بعد ان تخطت بنجاح وتميز الايام العصيبة الاولى رغم ما أحدثته الثورة بعنصر المفاجأة وعدم تمرس اهل الاذاعة بهذه المستجدات المتسارعة والمذهلة والصادمة دون ان تكون آنذاك في حاجة الى مدير اذ تواصل تسييرها بتألق دون ادارة مباشرة لأسابيع، لكن حين جيء بالمدير الجديد المؤقت الدكتور جميل بن علي أستاذِ اللغة والآداب العربية كانت التطلعات مشرئبة نحو طفرة نوعية وقفزة إعلامية تحققها “عروس البحر“- بعد أن كانت ككل وسائل الإعلام التونسية لا تمثل سوى النظام الحاكم ولا تعكس سوى ما يريده, الأمر الذي جعل الإعلام عموما يمر بأزمة حقيقية تمثلت بفقدانه الدور المؤثر في صناعة الرأي العام إضافة إلى ضعف التأثير على المتلقي… فتوجه هذا المتلقي وخاصة الشباب إلى وسائط أخرى أكثر حداثة واجتماعية وأكثر قدرة على تلبية طموحاته، وفي نفس الوقت أكثر قدرة على المرور من بين يدي الرقيب السياسي- وخاب الظن وانهارت التطلعات وهي ترى الاذاعة الجهوية بالمنستير بدل ان تنتقل من دكتاتورية الماضي وتتخلص من براثن اللوبي الاعلامي الذي جثم على صدرها وبقية المؤسسات الاعلامية لسنوات تقع في دكتاتورية جديدة لا تختلف كثيرا عن دكتاتورية الماضي القريب..، هذه الدكتاتورية تلتمس من خلال الحقائق التالية: (مواصلة القراءة…)


الصادق بوعبان الذي لا أعرفه

من أرشيف إذاعة المنستير 1992

من أرشيف إذاعة المنستير 1992

لن يمنعنا احترامنا الشديد لتجربة الفاهم بوكدوس الصحفية والانسانية عن مناقشة بعض ما ورد في الحوار الذي أدلى به لفائدة موقع الساعة الالكتروني وتحديدا إجابته التي بدت متسرعة بعض الشيء عن سؤال: كيف يمكن أن ننجح في تحقيق الانتقال الديمقراطي وتحرير الإعلام؟

لقد خَبِر الفاهم بوكدوس جيّدا وأكثر من غيره مرارةَ الظلم وقساوة التجنّي وصار اختراقُـه سياج الصمت الحديدي الذي أقامه بن علي حول الحوض المنجمي مثالا في قدرة الصحافة المناضلة على تقصي الحقائق مهما غلا الثمن، وباتت صورته وهو طريح الفراش من أثر انتهاكات سجانيه أبسطَ حقوق الانسان عنوان فترة حالكة من الجبروت والطغيان يتمنى كل تونسي أن تصير بعضا من الماضي الذي لا يعود، ولهذا لن يكون الالتزامُ بمقتضيات البند الأول من ميثاق الشرف الصحفي بعزيز عليه وهو الفائز بجائزة حرية الصحافة ومستقبل الإعلام فهذا البند لوحده كفيل لو تقيّد به كل من امتهن المتاعب أن يجعلنا في أفضل حال من غير تبذير الكلام في سبل تطوير الإعلام والنهوض به لأنه يدعو كل صحفي إلى الالتزام بالسعي إلى الحقيقة وبالعمل على إبلاغها.

يرى الفاهم بوكدوس أن تحقيق الانتقال الديمقراطي وتحرير الإعلام مرتبطان أساسا بوجود إرادة سياسية تقطع نهائيّا مع الإرث الديكتاتوري ويحتج على عدم توفر هذه الإرادة حاليا بتواصل هيمنة رجال العهد القديم على المؤسسات الإعلامية الكبرى، وفي هذا السياق نعت السيد الصادق بوعبان مدير التلفزة الوطنية الحالي بأنه “من أشد الفاعلين في حملة بن علي الانتخابية الأخيرة ومن الذين لم يتوانوا بالمرة عن الدفاع عن النظام و تلميع صورة الرئيس وتشويه الشرفاء و تكميم الصحفيين“.

إذا كان هذا الوصف صادرا عن دراية ومعرفة واطلاع على وثائق وأدلة فهو يكشف لنا وجها آخر استطاع الزميل والصديق الصادق بوعبان أن يخفيه عنا طيلة عقدين من الزمان، فالصادق بوعبان الذي أعرفه لم يجن من الصحافة والإعلام طيلة حياته المهنية إلا المتاعب إذ امتاز باستقلاليته وحرفيته والتزامه بضوابط الصحافة الحرة منذ كان يكتب عموده الأسبوعي في الصحافة وينجز برنامجه الإذاعي الشهير “رؤى” في إذاعة المنستير ثم من بعدُ عندما قاد باقتدار سفينتي إذاعة تطاوين وقناة 21 في سنواتهما الأولى واشتهر بانعدام كفاءته الحزبية وضحالة خبرته السياسية، ولم يكن نظام بن علي ليغفل عنه لو توفرت فيه حقا المهارات التي ذكرها الفاهم بوكدوس في معرض وصفه وتعداد مناقبه البنفسجية، وما كان ليفرّط فيه ويدفعه دفعا إلى الاستقالة من الوظيفة العمومية سويعات قليلة قبل المثول أمام مجلس التأديب. (مواصلة القراءة…)


عندما تحلق في الأعالي قد لا ترى الأرض

إذاعة المنستيرأحترم كثيرا الدكتور جميل بن علي أستاذَ اللغة والآداب العربية الذي كلفته رئاسة الإذاعة التونسية بإدارة إذاعة المنستير مؤقتا في انتظار أن تتضح السبل الكفيلة بإصلاح جهاز المديرية وتمكين أبناء الإذاعـة دون سواهم من الوصول إليه في كنف الشرعية الإدارية وقانون التداول على المسؤولية، وهو المطلب الذي تعالجه الآن الأطرافُ المعنية بمراجعة وضع الإعلام العمومي للتقدّم به شرطا مركزيا في سياق إصلاح هذا القطاع والخروج به من وضعه السابق.
أحترم الدكتور بن علي ورغبتَـه في أن تمتاز فترةُ إدارتِه الإذاعةَ على قِصرِ مُدَّتها بكل ما ينفع ويفيد وأن تكون بصمته في مستوى طموح المرحلة، خصوصا وأنه قد تصدّى بشجاعة كبيرة لكل الأصوات التي رفضت تعيــينه في هذا الموقع وتجاوزها في وقت قياسي للانطلاق مباشرة في “رفع التحديات” وأهمُّها تقديمُ إعلام مغاير ومختلف اختـار له عبارة “الصوت الحرّ” شعارا، ولكن لن يمنعني هذا الاحترام من أن أختلف معه في بعض المسائل ووجهات النظر آملا في ألا يفسد الاختلاف للودّ قضية وألا يكون بابا للخلاف لا قدّر الله، بل سيزداد ذلك الاحترام سيّما وأنني قرّرت أن أكتب عن اختلافي معه في مقال صحفي حتى يكون ضربا من ضروب التفكير بصوت مرتفع في شأن عام، حافزي في ذلك أن ما سأعرضه ليس من موجبات التحفظ الإداري وأنّ الحوار الهادئ الرصين مدخل من مداخل الإصلاح والتطوير طالما تعلقت همة المرء بما ينفع العوامّ ولا يقتصر على إرواء نرجس الذات فحسب، وكيف لا أُوجِّه في صحيفةٍ نقدا لرئيسي في العمل وقد أصبح شعارُ “لا خوف بعد اليوم” أحد أبرز عناوين الثورة التونسية التي دفع ثمنها الشهداء و قطف ثمارَها الطازجة الآخــرون؟
لقد كان ضروريا أن تترفع ديـباجة شبكة شهر رمضان المعظم التي عنوانها “إذاعة المنستير تحلق هناك في الأعالي” عن ثلب البرامج الدينية التي تمّ إنتاجها سابقا ونعتها بالسطحية والروتينية وذلك لأسبابٍ أكثرُها بداهةً أنّ الذين لم يشاركوا هذا العام في إنتاج برامج رمضان من الأساتذة الفضلاء والخطباء الأجلاء الذين كانوا يفعلون ذلك سابقا سيشعرون بأنهم معنيون بهذه الكلمة المؤذيــة وأنّ جزاءهم في بيتهم قد كان مثل جزاء سنمّار.
إنّ رفض النظام السابق الإسلامَ السياسيَّ جعله شديد الحرص على تشديد القبضة الأمنية، فكان التعامل مع منتجي البرامج الإذاعية الدينية يستوجب فحصا أدقّ من قبل السلطات العليا، وهو ما يفسّر عزوف الإذاعة عن التعامل مع منتجين جدد والاقتصار على المتعاونين التقليديـين أو الواردةِ أسماؤهم في القائمات التي تعدّها وزارة الشؤون الدينية سلفا، وكان من شروط إنتاج هذه الموادّ خضوعُها مكتوبةً لمراقبةِ وزارة الشؤون الدينية وهو أمر تراخت إذاعة المنستير في تنفيذه فلم تكن تطلب من المنتجين تقديم نصوصهم مسبقا لمراقبتها، بل كانت الإدارة تتحمّل مسؤوليتها بشجاعة في هذا متأهبة للمساءلة في صورة حدوث ما لا تحمد عقباه، وهذا ما لم يحدث والله على ما أقول شهيد.
لم يحدث أيّ شيء من هذا لأن الجميع كانوا يدركون قواعد اللعبة جيّدا فيتجنبون المسائل الخلافية من تلقاء ذواتهم ولا يتحدّثون في بعض المواضيع التي تعتبرها التيارات الإسلامية السياسية من خروقات السلطان ومن دواعي الخروج عليه، وكان إيثارُ السلامة يُعفينا من توظيف الخطاب الديني سياسيا في الاتجاه المعاكس بما ينفّر الناس منها، وهكذا كانت المحظورات معروفة وكانت برامجُ الإذاعة في هذا الباب تعليميةً تثـقيفية تهتم أساسا بمكارم الأخلاق فتحبّب إلى الناس الالتزام بضوابط الشرع في معاملاتهم، وتراعي في تنوع مستويات الخطاب تنوع مستويات العامة وتعالج الفقه على أصول المذهب المالكي مذهب الدولة التونسية الرسمي وتتحاشى دائما وأبدا الإفــتاء، أما عن الشكل فقد تخلصت إذاعة المنستير منذ أكثر من عشر سنوات من الافتتاحية الصباحية التي كانت تعوّل عليها السلطة السياسية كثيرا في امتداح مناقبها وتعداد مآثرها بأسلوب خشبي لا يتورع عن استخدام الآيات البينات والأحاديث الصحاح في حقن المواطن بجرعة أمل وتفاؤل تجعله يكاد يزغرد وهو يفتح عينيه في تونس بن علي لا غيرها، لقد اتُّخذَ قرارٌ شجاع آنذاك ولم يطالبنا أحد بالرجوع فيه.
لا نشكّ في أن الإصلاح والتطوير لا يتحققان إلا بمساءلة الماضي وتأمل أخطائه الكثيرة، ولكن بتجرّد وصبر وأناة ومن منطلق الإحساس الصارم بالمسؤولية، فالإذاعة ماضيا لم تكن تخدش نقاوةَ صورتها “البرامج الدينية السطحية” بل كانت تعاني من البرامج التي يتم إنتاجها حسب الطلب احتفالا بهذا الحدث السياسي أو ذاك، وهذا هو الأمر الوحيد الذي تغيّر وانتهى فعلا بعد رحيل زين العابدين بن علي وقدوم الدكتور جميل بن علي إذ أمكن والحمد لله لأبناء الإذاعة المتخصصين في مثل تلك البرامج التي لم تكن تفرض فرضا بل يتكالب عليها الكثيرون أن “يترسكلوا” في بلاط الثورة ويركبوا قطارها قبل أن يفوت، أما البرامج الدينية وإن تغيرت بعض أسماء منتجيها فلا نعتقد أنها ستخرج عن الخطوط الموضوعة سلفا، أما إذا كان المراد بتعميق البرامج الدينية وتطويرها اعتماد البث المباشر وقبول استفسارات الناس دون رقابة مسبقة وتحمل أعباء الإجابة عنها دون خوف أو ذعر فذلك كان من أهم ما قامت به الإذاعة في السنة الماضية لا هذا العام ويعود الفضل فيه إلى آخر مديري “العهد البـــائد” !.
أرجو أن تكون العبارة الواردة في الديباجة زلّــة لسان أغفلها مقص الرقيب وهو يترنح من فرط الحرية التي أضحى يتخبّط فيها بعد الثورة فلم يتفطن لها ولهنات أخرى كثيرة، وإذا لم يكن الأمر كذلك ففي مقالي هذا اعتذار لمن قد تلحقهم عن غير قصد ولا شك إساءة بليغة مما قيل في هذا الشأن.


عندما يتحدّث نهر النيل

حمدي قنديل

حمدي قنديل

بقامته الفارعة وهدوئه الأخاذ، ومن وراء دخان سجائره المتواضعة ونظرته الخضراء الحادّة يحدثك حمدي قنديل، يأسرك هذا الرجل القادم من أعماق تجربته إلى المستقبل الواعد مشدودا بخيط الأمل والتفاؤل. حكايته بسيطة متواضعة بلا نتوءات أو تضاريس، حكاية طفل اكتشف العالم من بين سطور الجريدة التي كان يحملها والده إلى البيت كل مساء، ثم فكر في تغييره عندما اجتـذبته أضواء الاشتراكية وأحلامها الثورية وهو يتأمل باندهاش وذهول جاره الذي كان يلوح ويختفي ذهابا وإيابا إلى المعتقـل.

“فتنني جارنا لطفي فطين بفكرة العدالة الاجتماعية التي تنهض عليها الإيديولوجيا اليسارية ولكن أبي نبهني برفق إلى أن العدالة الاجتماعية موجودة في الإسلام، واستدرجني إلى الانخراط في جمعية الشبان المسلمين فوجدت في الدين منبعا من المنابع التي يمكن أن أستقي منها مبادئ أحدّد في ضوئها اتجاهي”، يصمت حمدي قنديل قليلا وهو يرشق نظرته في الحقول الخضراء الممتدة حتى قدمي بوقرنين والسحب التي تهاجم ذلك المساء الصيفي الرطب، يلقي سيجارته أرضا ويركب السيارة التي تقله من المنستير إلى تونس وهو يقول: أظن أنني حافظت طيلة حياتي الماضية وحتى الآن على خيط يربط بين اليسار والدين ولا أعتقد أنْ  ثمة تناقض بينهما.

في القاهرة، في الربع ساعة الأخير قبل ثورة الضباط الأحرار تطور وعيه السياسي في المنتديات الثقافية وبتأثير لا ينكره لكتابات أحمد بهاء الدين عليه، تلك التي تتحدث عن الامبريالية وتفضح أساليبها المُـضمرة في مختلف أشكال الدعم الاقتصادي لدول العالم الثالث، وهو يتذكر إلى الآن رغم مضي أكثر من نصف قرن كتابه “النقطة الرابعة تعني الحرب”. (مواصلة القراءة…)


3 أوت: عيدُهم جميعا

في مثل هذا اليوم (3 أوت) من سنة 1977 وفي غمرة الاحتفالات بعيد ميلاد المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة انطلق في الطابق السفلي لقصر المؤتمرات صوت إذاعة المنستير لأول مرّة، وكان لزاما علينا سنة 2002 ونحن نعدّ لإصدار كتاب وثائقي يؤرخ لهذا الحدث بمناسبة مرور ربع قرن أن نجد مخرجا لهذا المأزق الكبير: أن نقول الحقيقة دون أن نقولها، أن نعدّل فيها قليلا، أن نستغني عن بعض التفاصيل دون أن نمسّ الجوهر، أن نعيد صياغة الجملة التاريخية فنقدّم بعض الوقائع ونؤخر البعض الآخر من غير أن نزيّف شيئا، وتلك كانت من أشدّ مآزق السابع من نوفمبر في التعامل مع مادّة التاريخ وإحدى مطباته الكثيرة في تعهّد الذاكرة الوطنية.

وجدنا صيغة مقبولة نسبيا، أن نضع في الواجهة تاريخ 19 سبتمبر عندما انطلقت أول شبكة برامج واضحة ورسمية ومحدّدة كما تقول الوثائق المتبـقية من الاحتفالات السابقة وأهمها احتفال العشرية الذي وقع أشهرا قليلة قبل الانقلاب على بورقيبة والإطاحة به، هذه الصيغة حاولت التخفيف من وطأة الترابط المعروف بين ميلاد الإذاعة وميلاد الزعيم التاريخي شكليا ومؤقتا،  فوافقت عليها رئاسة الجمهورية، وهكذا قُــــبِلت مقدّمةُ الكتاب وصدر الإذنُ بطبعه في شكله النهائي بعد التأشير كذلك وفي وقت جدّ متأخر على الصورة اليتيمة التي سيظهر فيها الرئيس السابق الحبيب بورقيبة على صفحات هذا الكتاب التوثيقي بعد أن تتصدَّره كما هو معمول به في مثل هذه المناسبات النوفمبرية السعيدة كلمات لصانع التغيير وراعي حرية الإعلام والتعبير منقذ البلاد والعباد، ولقد كانت فعلا مناسبة نوفمبرية في شهر أوت لأنها تنزلت في سياق الجملة الأولى من بيان السابع من نوفمبر (…لذلك أحببناه وقدرناه وعملنا السنين الطوال تحت إمرته في مختلف المستويات….)، ولأنها أتاحت المجال لزين العابدين بن علي كي يضع بصمته الخاصة على هذا الحدث التاريخي بإرسال رسالة عن طريق مستشاره المختص في الشأن الإعلامي موجهة إلى كافة أفراد الأسرة الإذاعية تلقفتها حال هبوطها من السماء وسائل الإعلام وأصبحت مرجعا في الحديث عن إذاعة المنستير والتأريخ لها !!!

إنّ هذا المجهود الذهني الكبير المبذول في مسألة بسيطة كهذه يكشف طبيعة العهد السياسي السابق سيما في تعامله مع الملف البورقيبي وحرص فريق المستشارين الرئاسيـين على النفخ في صورة مُؤَجِّرِهِم وتفريغ الماضي والحاضر والمستقبل من كلِّ الرموز والعلامات لأجله حتى يتسنى له اعتقال التاريخ والجغرافيا ورهن الذاكرة خدمة لكاريزما مصطنعة، ولكن هذا المجهود القائم على المناورة وعلى مبدأ الأخذ والعطاء كان ضروريا في هذا السياق بالذات لتسريب مشروع إبداعي عاطفي أساسا يقوم على الاعتراف بالجميل ونكران الذات في سبيل إعطاء القوس لباريها وتكريم أولي الفضل من الذين وضعوا لبنات الصرح وأشادوا بعرقهم الطاهر الزكي مجدا قد لا يستحقه اليوم بعض المنتسبين إليه زورا والمتشــدِّقين به بهتانا، لقد كانت ذكرى مرور ربع قرن على تأسيس الإذاعة فرصة سانحة خصوصا بعد وفاة بورقيبة لاستئناف الاحتفال بهذا الحدث من غير الوقوع في شبهة الاحتفال المُــقنَّع بميلاد الزعيم، وكانت محطة ضرورية للإشادة بالأدوار المهمّة التي قام بها رجال محترمون في صياغة الإذاعة بما هي مشروع ثقافي تنموي أساسا، فالذين عاشوا تلك الفترة يروون بأدق التفاصيل كيف أحسّ الجميع بالوقوع فيما يشبه المأزق بعد أن انفضّــت احتفالات عيد الميلاد التي جُـلبت لأجلها من الإذاعة التونسية ومن إذاعة صفاقس معداتُ الإنتاج الإذاعي وبرامجُ وأغان متنوعة وصار لزاما على هذه الإذاعة التي ارتُجِل قرارُ إنشائها ارتجالا أن تنطلق فعلا وأن تكون إذاعة بحق لا مجّرد أداة من أدوات الزينة تُــسْــتعملُ في الاحتفال بذكرى الميلاد كالشماريخ الملونة التي كانت تملأ سماء مدن الساحل وقراه في هذه المناسبة المجيدة، فأوكلت المسألةُ إلى لفيف من المثقفين بشكل تطوعي لفرض المشروع فرضا وإعلاء صوت هذه الإذاعة الوليدة رغم كل شيء وذلك ما كان…

اليوم وبعد مضيّ أربعة وثلاثين عاما على هذا الحدث، وبعد عودة تمثال الزعيم النصفي إلى مكانه الطبيعي في بهو الإذاعة، يمكن كتابة هذه الجملة التاريخية بشكلها الأصلي، فالإذاعة بعثت للوجود بقرار سياسي مرتجل لتكون انطلاقة صوتها على الموجة المتوسطة وبقوة عشرين كيلواط فقط من محطة الإرسال بالغدير يوم عيد ميلاد الزعيم، أما ما حدث بعد ذلك فقد كان واجبا نضاليا وأخلاقيا وثقافيا تصدى له ببسالة رجال عاهدوا الله فصدقوا، وكانوا يعملون دون انتظار الأجر أو المقابل أو المجد الشخصي خدمة لفكرة آمنوا بها ورجل أحبوه فخدموا مشروعه السياسي والحضاري بتفان وإخلاص، ولا شكّ أن المؤرخ الحصيف سيشهد أيضا أنّ كلّ مديري الإذاعة من المرحوم قاسم المسدّي إلى الزميل الفاضل نبيل المؤدب كانوا يرتعدون لثقل هذه الأمانة الملقاة على عاتقهم فتحملوها بشجاعة ورباطة جأش وأرادوا بها الأفضل والأبهى والأجمل دون التنكّر للماضي والاعتداء على السابقين، لم يحدث أن فكّر أحد هؤلاء المديرين الذين تعاقبوا على هذه الإذاعة طيلة ثلاثة عقود بطريقة “إني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُه لآتٍ بما لم يستطعهُ الأوائــــــلُ”، فنجح كل واحد منهم في ترك بصمته الخاصة وأسلوبه المميّز، وقد فسّر صديقنا القديم “الصادق بوعبان” هذه المسألة بقولة بسيطة وبليغة في آن: “إذا أردت النجاح في هذه الإذاعة فعليك أن تحبّها أكثر من حبّك لذاتك”، وما من شكّ في أن كل الذين كلفوا بإدارتها في “العهود البائدة” أدركوا هذه الحكمة وعملوا بها بشكل أو بآخر رغم خصوصية الظرف السياسي وحرص السلطة دائما على جذب طرف اللحاف إليها.

إن عيد ميلاد إذاعة المنستير إذن هو عيد الحبيب بورقيبة الذي زرع البذرة الأولى وسقاها بماء أبوته الصافي، وهو عيد كلّ الذين تعهّدوا هذه البذرة كي تكبر وتنمو وترتفع هامتها ويفوح عطرها، فهؤلاء خدموا فكرة وحققوا مجدا، وكلما نظرت في صورهم المعلقة على جدار القلب والذاكرة تزاحمت في رأسي ذكريات الأمس بقايا رغوة الماضي وهو يرتدّ إلى الأعماق مثل الموج الهادر بعد أن يرتطم بصخرة الحاضر وينكسر عليها، إنها الذكريات تــنبض تحت رماد العمر بكثير من الشوق والألق والتوهج، ففي هذا المكان أصوات وأصوات لم يكن يجمعها إلا الحبّ عندما كان للحبّ معنى…


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress