Tag: الثورة التونسية

توفيق الخذيري، الرجل والإذاعة

كنت أتأهب لمغادرة المكتب في تلك الأمسية الصيفية الحارة من أماسي «عام الثورة» عندما رنّ جرس الهاتف. كان المدير على الطرف الآخر من الخط. ولأول مرة منذ توليه إدارة الإذاعة في ظروف انفلتت فيها كل الشياطين من عقالها، امتزج في صوته وهو يخاطبني الانكسارُ بالتملّق.
قال: أيعجبك ما فعله معي توفيق الخذيري؟
قلت مستفسرا: ماذا فعل؟
قال: لقد رفض الفكرة التي اقترحتها عليه!
وأنهى المكالمة بتودّد مصطنع قائلا: أرجو أن تحاول إقناعه.

توفيق الخذيري

توفيق الخذيري

اتصلت بمكتب الاستقبال وطلبت منهم إبلاغ توفيق بأني أريد لقاءه في مكتبي قبل مغادرة المحطة، وبقيت في انتظاره.
لقد شبّه أحدهم أجواء الثورة بما يحدث عندما تخرجُ زربية ثمينة من مخبئها لتنفض عنها ما تراكم من غبار. فقد كنا يومها جميعا مثل ذرات الهباء، كل ذرة تغادر مكانها لتطير في الهواء، وتتشقلب مرارا قبل أن تقع في مكان آخر. ووسط ذلك الغبار الكثيف الذي كان يتطاير ويخنق الأنفاس انهارت الحدود الفاصلة بين النبل والسفالة، بين الشهامة والوصولية، واختلطت المعادن الأصيلة النادرة بنظائرها المقلدة المزيفة. وأنا كنت شاهدا على ذلك المدير الذي كان متعاونا مع الإذاعة لسنوات طويلة وأخذ بعد الثورة يتشقلب بكل ما أوتي من انتهازية وصفاقة للوصول إلى هذه الوظيفة بدعم من أحد الوزراء الجدد. كما كنت شاهدا على توفيق الخذيري وهو يذود في كل الأوقات عن نفسه كما يدافع الأسد عن عرينه.
قبل ذلك بعشرين عاما، «وكان الزمان أقل جموحا»، كنت أتأهب لتقديم حلقة من برنامج «جاءوا إلى تونس» الذي يستضيف أدباء ومثقفين من الوطن العربي استقروا في بلادنا، وبينما كنت منشغلا بتجهيز الأشرطة والأغاني والاتصال بالضيوف أقبل الصادق بوعبان رئيس مصلحة الإنتاج ومعه شاب أسمر وسيم تبدو عليه علامات الخجل الفطري، وقال لي: هذا توفيق الخذيري، سيتابع اليوم برنامجك. (مواصلة القراءة…)


واقفون في عالم يجري

مطار حمد الدولي

مطار حمد الدولي

بين مطارات بعض دول الخليج العربية ومطار تونس قرطاج أكثر من خمسة آلاف كيلومتر وحوالي خمسين عاما من التفوّق والرّقي والرفاه، ليس هذا انطباعا بل حقيقة قابلة للقياس، نصفها الأول مبهج ونصفها الثاني محزن، حقيقة ينبغي قراءتها بعقلانية وتفهّم بعيدا عن منطق التخوين الأجوف، ليس هذا أيضا جلدا للذات إنما دعوة إلى التجرّد من المشاعر الشوفينية البغيضة ومعاينة الواقع بعيدا عن مظلّة الشّعور الزائف بالعظمة.
إن مطار تونس الذي يحمل اسم قرطاج العظيمة متأخر فعلا عن مطارات العالم المتقدّم كذلك مطارات دول الخليج بما يعادل نصف قرن أو أكثر، وهذا تقدير موضوعي مناسب إذ لا معنى للمبالغة وترديد مقولة المشير أحمد باشا باي الشهيرة عند زيارته باريس منتصف القرن التاسع عشر: “إنّ القوم سبقونا الى الحضارة  بأحقاب من السنين وبيننا وبينهم بون بائن” ولو أحببنا أن نبالغ لجاز لنا أن نقول إنّ هذا المطار أضحى يعيش خارج عصره،وإنّ المسافة التي تفصله عن كثير من مطارات الدنيا تُقدر بسنوات ضوئية و”لله فينا علم غيب نحن صائرون إليه، نسأل الله حسن العاقبة”.

في المطارات العصريّة المتقدّمة تُقاس جودة الخدمات بالوقت الذي يقطعه المسافر من لحظة الدخول حتى لحظة الوصول إلى مقعده في الطائرة وعكسيا في رحلة العودة، لا يتعلّق الأمر إذن بنظافة المراحيض أوابتسامة الشرطي ّوالطريقة التي يتعامل بها رجال الجمارك مع حقائب المسافرين فحسب، فالمطار مرفق عامّ وصورة نموذجية عن البلد الذي يُفضي إليه، واشتراطات الجودة تفرض الانصياع إلى المعايير الدولية التي تناسب أسلوب حياة الانسان المعاصر لا سيما تحت وطأة الإحساس بهاجس الوقت. وقد استطاعت البوابات الالكترونية في مطارات دول الخليج أن تختصر مسافة العبور من المنافذ الحدودية بشكل لا يُصدّق، فليس من الضروري في هذه البوّابات الاستظهارُ بجواز السفر أو ختمه، وليس من الضروري أن يتأمل سحنتك رجل الشرطة ويقارنها بصورة الجواز، يكفي استخدام البصمة لفتح الباب، ولا يستغرق الأمر الاّ دقائق معدودات يختلف طولها حسب درجة الازدحام البشري في المطار لا غير،وباستخدام تطبيقة على الهاتف الجوال يمكنك الاطلاع في أي وقت على كشف بحركات السفر يشتمل على كل مواعيد الدخول والخروج فيأي مدة تختارها، بينما ما يزال المسافر إلى تونس مطالَبا عند الوصول إلى المطار بتعمير ورقة صغيرة لا يعرف سرّها أحد ولا يُفهم سبب وجودها حتى الآن، رغم أنها انقرضت تقريبا من أغلب مطارات الدنيا.

مطار تونس قرطاج الدولي

مطار تونس قرطاج الدولي

سلسلة المقارنات طويلة لا تنتهي، ولا حاجة بنا إلى التوقّف طويلا عند أشياء أصبحت شبه عادية في المطار بوصفه صورة مصغرة عن البلد، كالغلاء الفاحش في مقاهي المنطقة الحرة، أو الفزع و الرّعب اللّذين ينتابان القادمين لحظة انتظار حقائبهم، أو تلك النّظرة الزّائغة التي يستقبلك بها موظفو الدّولة دون سواهم، فحسناوات شركات الاتصال اللواتي يستقبلنك عند البوّابة هن الوحيدات المبتسمات على الدّوام في هذا الجوّ الكافكاوي، أمّا إذا عنّ لك أن تقضي حاجتك البشريّة وغالبا ما ستفعل،فانتبه إلى بعض أقفال المراحيض المستعصي إصلاحُها منذ سنين، وانتبه إلى عاملة النّظافة وهي تمسك بيدها لفافة الأوراق كي تسلّمك ببرود قطعة منها بعد غسل يديك أملا في مقابل مالي لن تقدر على دفعه لأنّك ببساطة لا تحمل عملة محلّية وهو سبب كاف لجعلك ترى لعناتها المكتومة تلاحقك وأنت تبتعد عنها وتذوب في الزحام.

لو أدرنا عقارب التاريخ خمسين عاما إلى الوراء لرأينا مشهدا معاكسا تماما،فبمقاييس السبعينات كان مطار تونس قرطاج الدولي مفخرة حقيقية، بينما مطارات دبي أو الدوحة مجرّد مهابط بسيطة للطائرات في دول صغيرة ما تزال في بداية طريقها إلى الثّروة والرخاء تجرّ وراءها خلاصة قرون صعبة وقاحلة من الصحراء.فالمسألة حينئذ نتاج طبيعي لمسارات مختلفة امتزج فيها الاقتصادي بالسياسي والثقافي، وتغيرت في ضوئها مراكز الرّفاه والتفوّق الحضاري، لا يُفسّر الأمر فقط بالثّراء، لكن أيضا بالتّخطيط الجيّد وابتكار الحلول المناسبة، فمن المؤكد أنّ تونس كانت أسبق من دول الخليج إلى دخول عصر المعلومات لكنّ عواملَ عدّة جعلتنا لا نهتدي في العشرين عاما الماضية إلى توظيف هذه التّكنولوجيا في تحسين نمط العيش وتطوير المرفق العام، بينما هم فعلوا، والدليل على ذلك الشّكلُ المُذهل ُللحكومات الالكترونية في دول الخليج وتعثّرها أو فشلها الذّريع عندنا.
الحكومة الالكترونية هي المبيد الأكثر فتكا بالبيروقراطية، فالمعاملات التي يجري إنجازها باستخدام الهواتف الذّكية هي اليوم أكثر من أن تحصى، بدءا من التحويلات البنكية وصولا إلى حجوزات السفر والفنادق، وخلاص المخالفات المرورية، وتجديد بطاقات الإقامة والعلاج. أمكن كل ذلك بفضل مُخطّط إقليمي شامل للحوكمة الالكترونية مُخرجاته تكاد تكون متطابقة في دول مجلس التعاون، إذ جرى تنفيذه تحت مظلّة هذه المنظمة، ويستند إلى بيئة رقمية متكاملة يمثل النظام البنكي القوي والمتطوّر أهمّ محاورها فضلا عن التشريعات والبنية الأساسية للاتصالات. فالمعاملات المالية في كل المرافق الحكومية الكترونية وجوبا ووسائل التحقق من هويات المستخدمين والتصدّي للغش مُتعدّدة وفعّالة وفي المتناول، وهي أقلّ تعقيدا من التوقيع الالكتروني الذي توقّفت عنده مخيّلة صناع القرار عندنا بما جعلنا لا نتقدم سنتمترات في هذا المجال.

بناء على ما تقدم يبدو أن خلاصنا في الأمد المنظور ليس في حاجة إلى ثروة طائلة كي يتحقّق بل إلى كثير من التّواضع لنقف على حقيقة حجمنا الراهن بعيدا عن منطق “ثلاثة آلاف سنة من الحضارة” المنطق الذي أضحى لا ينتج الاّ المزيد من البؤس والشقاء كلّما تقدّم العالم من حولنا أكثر.

 


عن أي جميل يتحدّث بن علي؟

زين العابدين بن علي

زين العابدين بن علي

فجأة اجتاحت مواقعَ التواصل الاجتماعي والصحف الالكترونية في تونس عبارةٌ نُسبت إلى الرئيس الأسبق «زين العابدين بن علي» قيل إنه وضعها على حسابه في «الواتساب» ويقول فيها: «أيها الوطن الناكر للجميل لن أمنحك عظامي». هذه العبارة التي لا يمكن أن يتثبت من صحتها إلا من يمتلك رقم الرئيس المعزول الشخصي على هاتفه الجوال نُشرت مع خبر مقتضب عن تدهور حالته الصحية بشكل جدّي هذه المرة بعد الشائعات الكثيرة التي ظلّت تظهر بين الفينة والأخرى منذ رحيله المفاجئ عشية الرابع عشر من يناير العام 2011 إلى السعودية.

(مواصلة القراءة…)


حوار إذاعي مع السيد أحمد المناعي

أحمد المناعي

أحمد المناعي

بعد سنوات طويلة قضاها في المنفى عاد السيد أحمد المناعي ليدشن مرحلة جديدة من حياته في تونس الثورة، تونس التي تعد الآن بالحرية والديمقراطية مستجيبة لتطلعات أجيال من المناضلين عُـذِّبوا كثيرا في سجون بن علي من أجل مجاهرتهم بهذا الحق.
يحمل السيد أحمد المناعي في ذاكرته خبرة سنوات النضال السياسي ضدّ الدكتاتورية وقد خبرها جيدا بعدما التفّ الرئيس السابق على وعوده بالديمقراطية والتعدّدية وصنع من الإسلاميين فزاعة بنى على أكتافها جهاز الهيمنة والاستبداد الذي أطاح به الشباب يوم 14 جانفي 2011 في ثورة عربية غير مسبوقة ينظر لها العالم الآن بكل انبهار
في هذا الحوار يستعرض السيد أحمد المناعي حصيلة سنوات النضال السياسي والمنفى القسري من تجربة انتخابات 1989 وصولا إلى محاولة اغتياله في فرنسا على أيدي البوليس السياسي المختص في تعقب المعارضين في العواصم الأوروبية. وخلال هذا الحوار يستعرض السيد أحمد المناعي  جملة من الآراء تتعلق بما يحدث راهنا في تونس : أي دور للشباب في صياغة الأفق السياسي للبلاد وكيف يمكن فهم حزب حركة النهضة الذي يتأهب الآن للمشاركة في الحكم بنسبة الأغلبية.

استمع إلى الحوار كاملا ويستغرق ساعة وعشر دقائق

 

———-

أجري الحوار في شهر أوت 2011


يوم من أيام سكسونيا

عامر بوعزة

عامر بوعزة

التّاسعة صباحا، أربعون درجة في الظلّ، يوم آخر من أيام جويلية القائظة يتثاءب ويتمطى ثم ينتصب واقفا ليصبّ شواظه النحاسي على رؤوس الناس ويغمر الشوارع بحرارة خانقة. اصطحبت ابني إلى مركز الأمن لتجديد جواز سفره، فعقلنا السيارة في ظلّ شجرة، وترجّلنا. كان المركز غرفة بيضاء ضيقة بالكاد تتّسع لبعض الأنفار، لكنها اليوم منذ الثامنة صباحا مكتظة بالناس من مختلف الأعمار، فتوكلنا على الله آملين في أن يكون إبكارُنا سببا في خلاصنا سريعا بأخفّ الأضرار.

استقبلنا في مدخل المركز شخص بملابس مدنية وذقن غير حليق، كان يبدو في هيئته تلك أشبه بنادل مقهى، مثلما كان الوافدون وهم يتزاحمون أمامه أشبه بحرفاء سيتناولون على عجل «كابوسان» ويمضون، ألقيت في وجهه تحية الصباح وأعلمته أنني جئت لتجديد جواز سفر، فتجاهل التحية وتركها معلقة في الفراغ قائلا بقدر كبير من اللاّمبالاة: هؤلاء أيضا مثلك فانتظر معهم. ثم أردف: لا أدري إن كانت الموظّفة ستأتي اليوم أم لا!

(مواصلة القراءة…)


لقد وقعنا في الفخّ

فخ العولمةوَصَفَ كتابُ فخّ العولمة بدقة ما حدث قبل حدوثه، ولم يكن ذلك تنبؤا بقدر ما كان استشرافا عميقا لما سيؤول إليه وضع الانسان والدولة في ظل دكتاتورية السوق والعولمة. فقد سارت الأمور في اتجاه مغاير لما بشّرت به الدعاية وانتهى الأمر إلى الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية على حد تعبير المؤلفين.

مع نمو العولمة ازدادت الفوارق بين البشر، وأصبحت نظرية الخُمُس الثري بمثابة الحتمية التاريخية، عشرون في المائة من السكان يمتلكون الثروة وثمانون في المائة سكانٌ فائضون عن الحاجة يعيش جزء كبير منهم بالتبرعات والإحسان والتكافل الاجتماعي. قلصت التكنولوجيا فرص العمل وألغت الفلسفةُ الليبراليةُ دورَ الدولة الاجتماعي واقتضت المديونية أن تنضبط الحكوماتُ بصرامة أمام مؤسسات النقد الدولية حيث يتحكم مضاربون كبار في اقتصاديات الدول وسياساتها من وراء وميض شاشات الكمبيوتر فتفاقم عجزها. كلُّ شيء كان مخططا له بدقة، والسؤال المحيّر حول: ماذا سنفعل بالفائضين عن الحاجة؟ كان مطروحا منذ البداية على منظري اقتصاد السوق، وقرّروا أن خليطا من التسلية المخدرة والتغذية الكافية يمكن أن يهدّئ خواطر المُحبطين. لن تلتزم مؤسسات الإنتاج بأي واجب اجتماعي تحت ضغط المنافسة التي تفرضها العولمة إذ الاهتمامُ بأمر العاطلين عن العمل هو من اختصاص جهات أخرى، وينبغي أن يقع عبء الأعمال الخيرية على عاتق الأفراد في مبادرات تضامنية يقومون بها لمساعدة بعضهم البعض. لقد أخذت المنافسة المعولمة تطحن الناس طحنا وتدمّر تماسكهم الاجتماعي، وقعنا في الفخّ، ولم يكن ثمة سبيل إلى القفز على هذه الهوة العميقة أو تجنبها، وأصبحت الهزات الاقتصادية تعصف بدول عريقة في الديمقراطية والرفاه الاجتماعي وتلقي بظلالها العميقة على أوضاع الناس فيها، أما في الدول التي تفتقر إلى الديمقراطية والتي كانت تتمتع في الماضي القريب بقدر نسبي من الرفاه الاجتماعي فإن الانقراض التدريجي للطبقة الوسطى وتوسع رقعة الفاقة والبؤس قادا إلى الانفجار.   (مواصلة القراءة…)


رسالة هادئة إلى دكتور غاضب

الدكتور فيصل القاسم

الدكتور فيصل القاسم

الدكتور فيصل القاسم
أنت لا تعرفني ومع ذلك اسمح لي أن أُعاتبك عتاب مودة، لا أعاتبك على موقف فالمواقف من شيم الرجال وهي ليست للعتب، بل للجدل والاختلاف فيها رحمة. لكن أعاتبك على قولك في ديباجة ما كتبت: “سمعت أن النظام الديمخراطي في تونس مزعوج من حلقة تلفزيونية…”.
لَهْ يا عيب الشوم!
أهكذا تورد يا فيصلُ الإبلُ؟!
لقد درستُ الأدب العربي على يدي رجل من أنبل الرجال، أديب من أمتن أدباء عصره معرفة، وهو الذي أستعير منه عبارة “عتاب المودة”، فقد كانت تجري على لسانه كلما أراد جدلا واختلافا، وكان يقول عندما يصحّح خطأ شائعا بصواب مهجور: ” أشيعوا عني في المدينة قولي كذا وكذا…”، لأنه يؤمن أن العلم بلا عمل مجرد هراء أو فساء. أستاذنا الجليل أطال الله عمره كان مفردا في صيغة الجمع، ونحن نعتز به وننتسب إلى علمه ونتمثل بمواقفه كلما فرضت علينا نفسها ونحن في تجليات الكتابة. لكنه وهذا بيت القصيد لم يكن من حملة الدكتوراه، عاش محروما من حرف الدال الذي يتدلدل من السطر قبل اسمك يا دكتور، ومع ذلك كان على خُلُق عظيم!
أرأيت كم هي ثمينة عندكم تلكمُ الدال التي تجرجرونها وراء أسمائكم، وكيف هي لا تساوي شيئا عندنا إذا لم تكن قرينة علم وأخلاق وأدب !!
عتبي عليك في انسياقك وراء الهوى، وتفريطك بسهولة وبلا تردّد في أعزّ ما تملك وما يُفترض أن يكون فيك من وقار العلماء، ذلك الذي يشعُّ من لفظ الدكتور وراء اسمك. بربّك هل رأيت دكتورا غيرك يستعمل لفظ “الديمخراطي”؟، لست أستغرب منك قولك “سمعت أنّ” رغم أنها كلمة معيبة في حقك وطعنة أخرى سددتها إلى شبح الدكتور الذي يلازمك كظلّك، فالدكاترة عادة لا ينطقون بمثل هذا الهراء، لا ينفعلون بمجرد السماع، بل تحركهم الحجج القوية الموثقة، الدكاترة يا دكتور يناقشون القضايا الأصلية ولا ينشغلون بهوامش الأمور…
تستبدل حرف القاف بحرف الخاء في عبارة الديمقراطية، فتوحي بما يحفّ بهذا الصوت من المعاني القبيحة في عبارة “الخرا”؟!، رسالتك وصلت، لكنها لا تستحق أن يُردّ عليها، لكونها أولا صادرةً عمّن لا صفة له، فالديمقراطية في تونس شأن تونسي، ولأنها حالة واقعية لا يعتدّ فيها بالسماع، سيما إذا كان محدّثك من الشق المهزوم في انتخابات تستطيع أن تقول فيها ما تشاء إلا أن تكون غير ديمقراطية، صحيح أن تونس تمرّ بظرف استثنائي صعب، لكن التونسيين  بأنفتهم وشموخهم يدركون أن للحرية ثمنا، وهو ثمن ضئيل لا يقارن بالخراب الذي حلّ باسم الديمقراطية في أوطان أخرى أنت تعرفها. وملخص ذلك أن الحرة عندنا تجوع ولا تأكل بثدييها كما يفعل آخرون وأخريات.
النظام الديمقراطي في تونس حقيقة كائنة بفضل دماء الشهداء البررة ولن يغير منها نعتك الشائن لها، لن ينقص منها ذلك بقدر ما ينقص منك، فلتراع حرمة الكلمة كلمةِ الدكتور التي تكاد تنطق من الضجر وراء اسمك في كل المحافل ولا تهبط درجة أخرى في الحضيض لتكتب كما يكتب صبيان الفايسبوك والسُّفهاء.


المهرولون

دموع التماسيح

دموع التماسيح

للتونسيين مع الدموع التلفزية تاريخ طويل، فمنذ زمن الأسود والأبيض لم تكن خطب الزعيم الحبيب بورقيبة تخلو من لحظات عاطفية تتغير فيها نبرته وتترقرق دمعته فيتوقف ليرفع النظارات ويمسح عينيه ويعدل صوته ثم يعود إلى السياق كأن شيئا لم يكن. كان يُحدث الناس عن طفولته وأمه ونساء عائلته فيبكي ثم يعلن أن تحرير المرأة هي قضيته الشخصية الأولى، ويحدث الناس عن الزنازين التي اقتيد إليها والمنافي التي أبعد فيها فيبكي ثم يؤكد أنه قد انتصر على الذين كانوا يعتقدون أن إخراج فرنسا أمر مستحيل، وكان يغالب دموعه كلما تذكر أن تونس ستستمر من بعده، وسرعان ما يطمئن جمهوره على مستقبلها لأن أساسها متين لا تقتلعه العواصف العاتية.

كنا نحب الزعيم ونحب خطبه ودموعه التي هي أبلغ من كل صيغ التوكيد في اللغة، وعندما كبرنا وحدثونا عنه اتضح أن كل تلك الدموع التي ذرفها في خطبه كانت جزءا من سيناريو متقن للتواصل الجماهيري في زمن كان فيه بعض الزعماء يستحوذون على مشاعر الملايين بدمعة وابتسامة. ورغم ذلك لم يشكّ أحد في صدقها لأنها كانت رسائل عاطفية مشفرة ترسخ في الأذهان العلاقة الأبوية التي تربط الزعيم القائد بالشعب وتجعله المرادف الرمزي للدولة.

وفي نهاية الثمانينات، عندما غنى محمد عبد الوهاب رائعته “من غير ليه” بكى صالح جغام في برنامج تلفزي غضبا على أشخاص لم تعجبهم الأغنية وقال كلمته الشهيرة: “لا تكتبوا عن الأشياء التي لا تعرفونها ولا تشعرون بقيمته لأنكم لم تعيشوها”. كان صالح جغام صوتا من أصوات الإذاعة في عزها ورمزا من رموز الثقافة العصامية، وقبل سنة واحدة من وفاته المفاجئة كان في قلب تحولات المشهد الثقافي والإعلامي كمن يقود عاصفة بمفرده، تلك العاصفة التي بشّر بها الشابي من قبل لاقتلاع الجذور اليابسة، وكان عندئذ صادقا في دموعه لأنه كان يخوض معركة حقيقية ضدّ الرداءة.

من شهد سهرة الوداع الفلسطيني ذات ليلة صيف من إحدى سنوات التسعينات لا يمكن الا أن تعلق بذاكرته كما تعلق الذكريات الجميلة دمعة محمود درويش، كانت دمعة صغيرة لكنها نهر من الأحاسيس نَبَع من جهة في القلب لا يدركها الا الشاعر، في تلك اللحظة لم تستطع اللغة أن تقول بمفردها مشاعر شعبين عاشا معا اثنتي عشرة سنة كاملة بحلوها ومرّها، “هل نسينا شيئاً وراءنا؟ نعم… نسينا تلفُّت القلب، وتركنا فيك خير ما فينا، تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرا”، هي دمعة ترجمت إلى كل لغات العالم عرفان فلسطين بالسخاء العاطفي التونسي، واختصرت عمرا مشتركا امتزجت فيه الدماء بالدماء عندما لاحقت طائرات العدوّ تحت أنظار العالم منظمة التحرير الفلسطينية حتى شواطئ الساحل الافريقي الشمالية، في ليلة الوداع تلك تلألأت في بريق الدمعة صور السفينة وهي تدخل صباحا ميناء بنزرت حاملة المقاتلين الفلسطينيين وأيتام الشهداء القادمين من جهنم بيروت، ضاقت بهم الأرضُ على رحابتها ففتحت لهم تونس أحضانها، تلفعت زوجة الرئيس بكوفية فلسطينية وحملت في ذراعيها طفلا وتقدمت المقاتلين وهم ينزلون من السفينة على وجوههم غبار المعركة الأخيرة والحصار وعلى أكتافهم رشاشات لم يطلب منهم أحد خلعها قبل الهبوط إلى أرض قرطاج. وظلت تونس تفتخر طويلا بأنها البلد العربي الوحيد الذي لم يخرج منه الفلسطينيون مطرودين، بل عادوا منها إلى ما يشبه البلد وما يمكن اعتباره بداية الاعتراف بالدولة.

وكم كان مؤثرا مشهد أرملة شهيد إسلامي وهي تقول لأحد قادة حركة النهضة باكية: لا تنتقموا، حدث ذلك في أعقاب الانتخابات الأولى بعد الثورة وكانت شماريخ الفرح تملأ سماء مونبليزير، كانت تلك المرأة التي تعرف الجمر أكثر من غيرها تبكي من شدّة الفرح، وكانت دعوتها أبناء الحركة للصمود في وجه ثعبان السلطة وإغراءاته ذروة الشموخ الذي يكلل كل القصص الأليمة، لكنّ صورتها ضاعت شيئا فشيئا في ضباب الكراهية السوداء وتلاشت في دخان الحقد الأعمى.   للدمعة هيبتها وللابتسامة رونقها عندما تنبعان من القلب وتفيضان صدقا وبهاء، لكننا صرنا إلى زمن تهاوت فيه القيم وتبعثرت تحت أقدام المهرولين والمتسلقين، ومثلما لا يشك أحد في صدق هذه الدموع التي ذكرت لا يختلف عاقلان في أن الدموع التي تقطر نفاقا ورياء لا تثير في النفس أي أسف أو أسى بل تستفز مشاعر السخط وتتحول بمرور الأيام إلى ما يشبه النكتة أو الموقف السخيف الذي يتندّر به الناس، يدخل ضمن هذا الباب بكاء ذلك الوجه الرياضي المعروف وهو يشكر “سيادة الرئيس” ويدعو لوالديه بالرحمة لما أنعم به على القـناة وباعثها، ولا يختلف عنه في شيء مدير الحملة الانتخابية للرئيس المنتهية ولايته عندما بكى بين يدي سمير الوافي نيابة عن مساجين العهد السابق من غير أن ينتبه إلى أن ضحايا القهر الحقيقيين لا يبكون، وليسوا في حاجة إلى من يبكي نيابة عنهم، فتلك خصلة أخرى من الخصال التي تجعل الناس أمامهم يتضاءلون، وكل بُكاء مأجور باسم معاناتهم هو ضرب من التحيّــل الموصوف.


الثورة التونسية، تغيير نظام أم تغيير مجتمع

لا أحد كان يتوقع حدوث هذا السيناريو: رحيل الجنرال زين العابدين بن علي ذي القبضة الحديدية الخانقة عن أرض تونس وسمائها عشية 14 جانفي 2011 بطريقة مرتجلة يكتنفها الغموض، ولا أحد قد احتاط لذلك على الأقل بتصور المقتضيات العاجلة، فبدا هذا الارتباك عند التردّد في استخدام آلية الدستور[1] بما جعل البلاد تشهد تعاقب رئيسين في أقلّ من أربع وعشرين ساعة بعد أن هيمن عليها رئيسان لفترة نصف قرن ونيف[2]! ، و تتالت الأخطاء في ظلّ حكومة السيد محمد الغنوشي إلى أن أجبره الحراك الجماهيري في محيط مقر الحكومة أو ما أصبح يعرف بمصطلح “اعتصام القصبة” على الاستقالة وعيّن الرئيس المؤقت السيد فؤاد المبزع رجلا من رجال العهد البورقيبي السيد الباجي قائد السبسي للاضطلاع بأعباء المرحلة الانتقالية، مع الإعلان في ذات الوقت عن تعليق العمل بالدستور القديم وتحديد موعد لانتخابات تعدّدية تفضي إلى إنشاء مجلس تأسيسي في منتصف صائفة 2011.

الثورة التونسية

الثورة التونسية

تؤكّد أحداث الأربعين يوما التي تلت فرار الرئيس التونسي المخلوع إذن أن الثورة لم يكن مخططا لها بالشكل الذي يضمن تحقيق أهدافها بسرعة وفعالية، فكانت ثورة شعب رفع شعار إسقاط النظام دون أن يتهيأ لإمكانية تحقق مطلبه هذا !،  فوسط الارتباك الحكومي والتردد الواضح في التعامل مع الماضي مجسّدا في رموز النظام السابق ومؤسساته ، عاد المُهجرون من المنافي بسرعة وتتالى تأسيس الأحزاب السياسية استعدادا لاستحقاقات المرحلة المقبلة، وتواصل الوضع الأمني مضطربا حتى بلغ يوم 25 فيفري حدّ الاعتداء العنيف على أحد رموز السيادة الوطنية مقـرِّ وزارة الداخلية الشامخ المهيب وسط الشارع الرئيسي في العاصمة وهو صورة عن هيبة الدولة وقسوتها، و كان الشارع ذاته قد احتضن الآلاف من المنادين برحيل بن علي عشية يوم 14 جانفي بينما كان سجناء سياسيون يقبعون في أقبية هذه الوزارة يسمعون صدى هتافات الناس وهم تحت الأرض لا يرون من سماء الحرية أو أفقها المفتوح إلا بصيصا من الضوء يتسع شيئا فشيئا تحت وقع الحناجر المدوية.

في ظلّ تجاذبات عنيفة تستدرج الثورة الشعبية إلى ساحتها للاستحواذ على منجزها، تضمَّن الخطاب الرئاسي[3] الذي رسم خارطة طريق الفترة الانتقالية في معرض حديثه عن بعث “هيئة تحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي” إشارة إلى رجال المرحلة فهذه الهيئة متكونة من “شخصيات سياسية وطنية وممثلين عن مختلف الأحزاب السياسية والهيئات والمنظمات والجمعيات ومكونات المجتمع المدني المعنية بالشأن الوطني في العاصمة والجهات ممن شاركوا في الثورة وساندوها[4]. (مواصلة القراءة…)


رماد البوعزيزي

ـ1 ـ

أثر الفعل تجاوز الفعل ذاته، على نحو فاجأ المخيلة، ولم يتوقعه الظن. بلدة فقيرة منومة أيقظت المدن من سباتها. جناح فراشة تونسية ولـد إعصارا عربيا. وها هي العاصفة، الآن، تسكن في كل بيت في هذه البقعة

أدونيس

أدونيس

العربية من العالم.

أما كيف حدث ما حدث، أو لكي نحور إيجابيا المثل العربي الشعبي: كيف صارت الحبة التونسية قبة عربية؟ فأمر يجب أن يعالجه، تفهما واعتبارا، إضاءة واستنارة، ذوو الخبرة والاختصاص.

في كل حال، يُشير هذا الذي حدث إلى الطاقة العملية التي يختزن الإنسان والتي تتفجر على نحو يحير ويدهش، خصوصا أنه لم تقم به طبقة بعينها، أو نخبة محددة. ولم يصدر عن نظريـة في تحريك الجماعات. ولم ينزل من فوق، أو من مسبقات فوقية. صعد من أسفل. من التجارب الحية. من آلام البشر وعذاباتهم. إنه انبثاق من الحياة ذاتها.

إذا أضفنا حضور المرأة إلى جانب الرجل في كل ما حدث، والطابع اللاعـُنفي، بعامة، ونـُشدان الحرية والكرامة والعدالة وحكم القانون، قبل الهتاف المألوف ضد الاستعمار، أو البطالة، أو الفقر، فإنني، شخصيا، لا أتردد في وصف ما حدث بأنه ظاهرة عربية فريدة حقـا.

ـ 2 ـ

حتى الآن، زُلزلت السلطات العربية. سقط بعضها. وبعضها الآخر يتأرجح. فلتذهب كلها إلى مصيرها الصغير البائس. لم تفعل شيئا يمكن الاعتزاز به، حضاريا، أو البناء عليه. لم تفعل، بعامة، إلا بوصفها شركات استثمار في بلدان تُهيمن عليها كانها مجرد أسواق.

تجارب دامية متنوعة طول خمسة عشر قرنا كانت، منطقيا، كافية لكي تزول ثقافة الخلافة والاستخلاف. لكنها على العكس» ظلت بقيمها وعناصرها وأدواتها مستمرة وفعالة. وهذا ما تؤكده مرحلتنا التاريخية الراهنة، مجسمة في السلطات العربية الوطنيـة، منذ نشوئها، بعد الاستقلال، في أواسط القرن الماضي المنصرم. (مواصلة القراءة…)


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress