إضاءة

بعد التصريح بالنتائج الأولية لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي اتّجهت أنظار المحللين السياسيين إلى ما سيؤول إليه الوضع على الميدان فقد تمكن حزب حركة النهضة من الحصول على نسبة هامة من الأصوات تخوّل له قيادة التحالفات السياسية الممكنة والاضطلاع

عبد العزيز المزوغي

بدور كبير في المرحلة الانتقالية الثانية التي ستشهد صياغة الدستور الجديد.

وفي الوقت الذي كان يُنتظر أن يتّجه فيه من لم يمنحهم المقترعون أصواتا تكفي للمشاركة في المجلس الـتأسيسي إلى النقد الذاتي أصبح التخوّفُ مما اصطلح على تسميته “وصول الإسلاميـين إلى الحكم” السِّمةَ البارزة في كتابات بعض المحللين الذين يُـشيعون حالة امتعاض تتناقض تماما مع الملامح الإيجابية للتجربة الديمقراطية في تونس، من ذلك ما جاء بقلم السيد عبد العزيز المزوغي في خاتمة تحليله الصادر في جريدة المغرب بتاريخ 2 نوفمبر 2011 تحت عنوان “من النهضة إلى النهضة” قوله:

“إن انتخابات 23 أكتوبر ومهما يكن من أمر دخلت طيّ التاريخ وأفرزت واقعا سياسيا جديدا يبعث على التشاؤم في بعض مظاهره خاصة في ميدان الإعلام الذي أصبح يتيما لما فقد بن علي فأصبح يطبل للثورة وها هو اليوم يتبارى ليمتاز بثقة الحكام الجدد وفي هذا خطر جسيم على التعددية والديمقراطية”.

تفاعلا مع هذه الخاتمة الكافكاوية تتطلّع المقاربة التالية إلى إضاءة بعض العناصر المتّصلة بوضع الإعلام في تونس قبل الثورة وبعدها.

————–

لا مناص من تبسيط  ما حدث يوم 14 جانفي على النحو الآتي:

بينما كنا نغطُّ في دورةِ حياةٍ عادية لم يكن لينغِّصَها إلا تراكمُ فواتيرِ الماء والكهرباء وحلولُها في أعقاب شهر رمضان والعيد والعودة المدرسية، وهو أقصى ما يمكن الاحتجاج عليه بصفة سلمية في القنوات الإذاعية والتلفزيونية الخاصة والعامة، الوطنية والجهوية، قامت القيامة في سيدي بوزيد: “أحداث شغب” لم يتسنّ التملّصُ من وقعها و استقراءُ مداها لأن قناة تلفزيونية تبث برامجها من مكان بعيد خارج عن السيطرة لم تُـفوِّت الفرصة فسفّهت تأويل الجرائد المحلية -ستُنعت لاحقا بالصفراء- لحادثة إحراق شاب تونسي جثمانَه الحي أمام أنظار الجميع.

الإعلامُ أيقظنا من هذا السُّبات الشتوي الكئيب حين كانت سهرات “المسامح كريم” فسحةً ملائمةً ليُعبِّر الشعب عن وجوده بالبكاء، وصارت حوادثُ الإجرام المنظم وخطف الأطفال التي طالما أنكر النظام إمكانَ حدوثِها في ظلّ ما يُوفِّـره من أمن وأمان المجالَ الحيوي الوحيد للتعبير عن التضامن الحقيقي بين الأفراد، وأصبحت فضيحةُ المطرب التونسي الذي هتف بحياة “بن علي” و”نتانياهو” الإطار المثالي لتذكير العوام بأن فلسطين ماتزال على ذمّة اليهود بينما يتناحر على مائدة السلطة الإخوة الأعداء.

في هذا الخضمّ المحروس بشدّة وصرامة وفي غفلة منا جميعا، كان الدكتاتور يقضي عطلةَ نهايةِ السنة خارج البلاد دون أن يسمع بذلك أحد تاركا صورته في التلفزيون تحرسنا، لقد كانت صورته اليومية في شريط الأنباء توهم الجميع بأنه لا يمكن أن يكون خارج أرض الوطن، الإعلام كان يكذب كعادته إذن! …

كنا في نهايات ديسمبر ونهاية عمر كامل من الخديعة فريسةَ كَذِبـيْـن: كذبِ الإعلام الذي جعل البوعزيزي عاطلا عن العمل من خريجي الجامعة أي من زهرة شباب التغيـير المبارك ومن ثمار نجاحاته التي يتبجح بها ويباهي، وكذبِ الإعلام الذي ظلّ يسمّي ما يحدث شغبا ويطمئننا إلى أنه نتيجة حتمية وموضوعية لا مفرّ منها لداء الحسد الذي ينخر أرواح الدول الشقيقة والصديقة بسبب ما تحققه تونس من معجزات بشهادة دافوس (نعم بمثل هذه الشعوذة كان الإعلام يسوسنا نيابة عن الرئيس).

لم يستطع أحد إلى اليوم (ولن يستطيع) وصف ما جرى يوم 14 جانفي 2011 مساء…

تونس 14 جانفي 2011

بحياد لغوي يَـقِـظٍ نكتب ما يلي: “على الساعة كذا… طارت الطائرة الرئاسية وعلى متنها رئيسُ الجمهورية وأعلن وزيرُه الأول أنه سيتولى الرئاسة وقتيا…”

ليقل الإعلامُ بعد ذلك ما يشاء، هرب الرئيسُ، خلعه شعبُه، ذهب إلى العمرة، انقلبوا عليه، انتقموا منه، صار عبئا ثقيلا فتخلّصوا منه، خدعوه، خان الأمانةَ، خاف على أصهاره أكثر من خوفه على نفسه والبلاد من فرط عشقه القاتل، ضَعُفَ أمام بكاء طفله الصغير، خرج ولم يعد، لم يكن في نيته الهرب بل إن الأمر الصادر إلى قائد الطائرة بالعودة سريعا حكم عليه بالمنفى ووضع سطرا فاصلا في تاريخ تونس الحديثة…

لتتعدّد الآن الأكاذيبُ لأن الحقيقة واحدةٌ ولا يعلمُها أحد…

بعد ذلك عثرنا على الصياغة المثلى لوقائع يوم الجمعة الشهير، يوم الرحيل، الصياغة التي سيجعل الإعلامُ بواسطتها الشعب التونسي بطلاً تنحني له هاماتُ الشعوب ويقف لأجله عجائز الكونغرس الأمريكي تعظيما وإجلالاً، وسيكتب التاريخ البشري انطلاقا من هذه اللحظة أن “الثورة التونسية كانت منطلقا لإحداث تغيـيرات عميقة في المنطقة العربية”، وهو ما سيكون ترجمةً دقيقة للواقع الذي يقول: “إن الشعب العربي انتبه بهروب الرئيس بن علي من بلاده إلى أن الحكّام يمكن أن يَهربوا أو يُـقـتَلُوا أو يتنحَّوا أو يُقصفُوا أو يُحاكمُوا كأيِّ شخصٍ عادي وأنهم ليسوا أنصاف آلهةٍ كما يحرص الإعلام دائما وأبدا على تصويرهم، سينتبه المواطن العربي منذ تلك اللحظة إلى أن وسائل الإعلام تكذبُ أيضا !! بل ربما هي متخصصة في الكذب أكثر من قول الحقيقة وهو يعرف ذلك جيدا من قبل ولكنْ من فرط التعوّد والضرورة وانعدام الجدوى تجاهل الأمرَ وانصرفَ إلى شُؤونهِ يائسًا من كلِّ شيء…

الإعلامُ هو قلبُ الرَّحى وعينُ الإعصار، وهو الجدار الصَّلب الذي أسند الدكتاتورُ ظهرَه إليه والعصا التي سلّطها على خصومه في أشدّ أيّام الدكتاتورية عسفا وطغيانا، ولكنْ لا غِنًى عن هذا الإعلام ذاتِه في الانتقال الديمقراطي رغم أن يديه ما تزالان ملطّختين بالدم…! الدم الذي أريق على طرقات تالة والرقاب وسيدي بوزيد والقصرين وقابس وكل أرض مشت عليها أقدام رجال ونساء امّحى الفاصل لديهم بين الموت والحياة في لحظة فارقة فخرجوا في ذلك الشتاء الأشيب الرهيب إلى الشوارع منادين بإسقاط النظام وتغيـير اتّجاه التاريخ، ودماءِ كلّ من قضوا نحبهم في غياهب السجون بين أيدي الجلاوزة العتاة بينما كان الإعلام الوطني يتغنى بأمجاد القائد المنقذ ويعدّد مناقب وضعها الله فيه لحكمة لا يعرفها إلا مستشاروه.

ينبغي إذن أن يذهب الإعلام إلى بيت الاغتسال بسرعة ويتطهّر الطهارة الكبرى من آثامه البنفسجية ومن ثمة يتوضّأ ويصلّي صلاة الاستخارة ليختار اتّجاه القبلة الجديد…

هل هو عفو مرتجل ؟ أم هو تأجيل الحساب إلى يوم الحساب ؟

ذلك على ما يبدو الاتفاقُ غيرُ المعلن والتلقائي الذي تواضع عليه الذاهبون على ظهر الأحداث الشعبية العفوية إلى مواقع القرار، فلا وقت لديهم لمحاسبة الإعلام على ولائه السابق لنظام فاسد خرج من رحمه كأي ولد شرعي لزيجةِ متعةٍ حلالْ بين السياسة والمالْ، لن يشعر أحد إذن بتأنيب الضمير وهو يحكي للشعب الكريم عن مقاس حذائه ولون ربطة العنق التي يُـفضلها عندما يستيقظ من منفاه  ليجد نفسه في منوعة تـلفزيونية زرقاء تبثها على مدار اليوم تـلفزة ترك نصفها بلحسن الطرابلسي لشريكه بعد أن أوصاه بأن ينتج “برامج سياسية” ! قبل أن يُـشغل محرّك اليخت ويغادر مرسى سيدي أبي سعيد الباجي لا يلوي على شيء…

لن يشعر أحد بما يشبه الرجفة أو القشعريرة أو الغثيان وهو يعيد مشاهدة وقائع اليوم المشهود الذي هبّ فيه حمّالو القفاف من كل فـجّ عميق إلى ضفاف البحيرة ليباركوا لابنة السيد الرئيس حلمها وقد تحقق… ويكحّلوا عيونهم بمرأى السيّد المستشار وهو يدشّن هذا المشروع التنموي الهامّ الذي سيؤصّل ثقافة فرحة الحياة ويذهب بها إلى أبعد نقطة في تونس الأعماق دفعة واحدة، لـتذْهبِ الآن كل الأسئلة والذكريات إلى مزبلة اللامبالاة ولتُوزّعْ صكوكُ الغفرانِ والبركات…، ولْتظلَّ وحدَها أجهزةُ القطاع العام الموضع الطبيعي لكلّ اللّـعنات، فظهرها سيكون شاسعا لتحمّل أوزار الجميع بينما هم في الحمّام يغتسلون.

لن يخطر على بال هؤلاء السياسيـين أنهُم بصدد الحصولِ على رشوة من قنوات إذاعية وتلفزيونية خاصة لتصريف المياه المستعملة في الاغتسال السياسي، هذه القنوات ما كان لها أن توجد لولا دولةُ الفساد التي يعتبر إعلامُها النضالَ السياسي مناوأة وصيدا في المياه العكرة…

إن توجيه أصابع الاتهام إلى وسائل الإعلام بعد أن باحت صناديق الانتخابات بأصوات التونسيين يوم 23 أكتوبر والتوجّس من ميلها الغريزي إلى من يملكون مفاتيح الجنة وزمام السلطة في البلاد دون سواهم أمر مشروع، ففي بعض القنوات التلفزيونية أخذ اللون البنفسجي يميل شيئا فشيئا إلى الازرقاق، وصار من الجائز شرعا إعادةُ نفسِ البرنامج أكثرَ من أربعِ مرَّات حتى يحفظ التونسيُّون والتونسيات عن ظهر قلب ما يقوله الشيخ راشد فيما يحفل به المجتمع التونسي من ملذات، كما تباروا من قبلُ في حفظ سورة 7 نوفمبر وتعليقها على جدران المكاتب وصدور الصالونات…، يتوقع المتخوفون أن يركض الإعلام سيما العموميُّ منه في ركاب السلطة الجديدة وأن يتحوّل إلى بوق نهضوي كبير وهم يتحمّلون وزر ذلك لو حصل فقد كان الظرف مؤاتيا لهيئة تحقيق أهداف الثورة كي تستأصل ضروس الطمع من فم هذا الإعلام الجشع أو تحطّم أسنانه مرة واحدة بقبضة يديها وتتركه أدردَ عقابا له على تهافته الفطري، أما أن يؤجل الحساب إلى يوم الحساب ويهرول المهرولون متنازلين عن حماسهم الثوري لفائدة أولياء الله ذوي الكرامات الصحفية الصالحين لكل العهود فقد خرج الجميع من مطهرة الثورة كيوم ولدتهم أمهاتهم…