التلفزة التونسية

التلفزة التونسية

لم تستطع المهنة الصحفية أن تؤجل ولو قليلا أزمتها القطاعية لصالح سلامة الانتقال الديمقراطي ودور أفضل للصحافة فيه، ومن مظاهر هذه الأزمة التجاذبات التي تميز من جهة عمل المؤسسات (النقابة، الهيئة العليا لإصلاح الإعلام…) وعدم قدرة القطاع العمومي على استغلال حالة الثورة لصالحه في مستوى الكيف وتنوع العرض وخضوع المجال السمعي البصري بحالته الراهنة لمتطلبات أطراف سياسية تستفيد كثيرا من المماطلة والتسويف في الخروج به من عنق الزجاجة.

لقد تشكّل قبيل اندلاع ثورة 14 جانفي بقليل شبه اقتناع بأن القطاع السمعي البصري العمومي هو بصدد الاحتضار وكانت الدلائل على ذلك كثيرة ومن أبرزها تقهقر نسب الاستماع والمشاهدة في مختلف استطلاعات الرأي ولم تكن حملات التشكيك التقليدية في موضوعية هذه الدراسات ودقتها لتغير من واقع الحال شيئا إذ أصبحت وسائل الإعلام هذه صوتا للنظام السياسي القائم لا غير وبدأت تبرز بعض التساؤلات المحتشمة عن جدوى القيام بالمرفق العمومي على هذه الشاكلة أي بنسبة متدنية من المستمعين والمشاهدين.

وأمام حالة الارتباك والذهول التي عمّت في أعقاب سقوط نظام الرئيس بن علي بتلك الصورة غير المتوقعة ومع انطلاق عملية تشكّل واقع سياسي جديد أساسه الحرية والتعددية عادت جميع وسائل الإعلام السمعية والبصرية إلى خط الانطلاق الأول وتوفرت فرصة تاريخية لا تتكرّر ليستعيد القطاع العمومي أسبقيته فهو الأحرى بشعار “صوت الشعب” والأكثر تضررا من هيمنة أجهزة الاستبداد السياسي وهو المرفق العام الذي يتطلع التونسيون إلى أن يكون الناطق باسمهم في مواجهة الحكومة لا الناطق باسم الحكومة في مواجهتهم بينما تحوم الكثير من الشبهات حول ظروف تأسيس القنوات الخاصة وعلاقة باعثيها بالنظام. والآن تشكل اقتناع جديد بأن الإعلام العمومي فرّط في هذه الفرصة التاريخية وأهدرها مجدّدا لصالح القطاع الخاص الذي استطاع أن يتجاوز كل الشبهات ويبقى على رأس القائمة في مختلف دراسات قيس نسب المشاهدة والاستماع.

لم تغير الإذاعات الخاصة بعد 14 جانفي مديريها رغم أن علاقات هؤلاء بالجهاز الاستشاري في القصر الرئاسي لا تقلّ وثوقا عن علاقات مديري الإذاعات العمومية بهذا الجهاز ففي غياب كراس الشروط الذي يحدّد بوضوح وأمام الملأ التزامات الباعث  والضوابط المؤطرة للاستثمار في المجال الإذاعي والتلفزي وُضِع على رأس وسائل الإعلام الخاصة أشخاص امتازوا علاوة على كفاءتهم المهنية بقربهم الشديد من السلطة، هؤلاء المديرون صنعوا في السابق إعلاما خاصا له مواصفات محددة في مقدمتها الانصراف كليا عن الشأن السياسي وإشاعة ثقافة فرحة الحياة وتجذير التذبذب اللغوي، واستطاعت الإذاعات الخاصة بهذه المواصفات العصرية المعولمة أن تجتذب إليها استثمارات الإشهار في مختلف المجالات، واستطاعت التلفزات الخاصة مضاعفة نفاذها من خلال تلفزيون الواقع الذي حقق رغم التحفظات الكثيرة بشأنه نجاحا جماهيريا لا يستهان به. هؤلاء المديرون هم أنفسهم الذين أعادوا صياغة برامج عملهم بما يتناسب ومقتضيات المرحلة وأنجزوا برمجات إذاعية وتلفزية تهتمّ بالشأن السياسي وبالأحداث الساخنة اهتمامَها بالشأن الرياضي والاجتماعي بما جعلها تحتفظ بذات المكانة رغم منطق الثورة الذي يستوجب أولا مساءلة شروط تكـوّن القطاع السمعي البصري الخاص السابقة ومحاسبته على توجهاته الاستراتيجية إذ الثورة في جوهرها رفض للمنظومة في كليتها، وقد تحدّث بعض علماء الاجتماع في ذلك معتبرين مقاومة الارتباك اللغوي بوصفه أداة من أدوات التغريب تستعملها الإذاعات الخاصة من أوكد استحقاقات ثورة تطمح إلى إعادة بناء الكيان.

على الطرف الآخر لم تستطع وسائل الإعلام العمومية أن تقلب المعادلة لصالحها باستثمار الإقبال الشديد الذي حظيت به خلال أيام الثورة الشعبية والتحفظ المبدئي من القنوات الخاصة. بل على العكس من ذلك دخلت الإذاعة والتلفزة الوطنية النفق الصعب بضياع وقت طويل في البحث عن رجال المرحلة (ولم يكن ذلك ضروريا في كثير من الحالات) وشغلت مسألة تغيــير المديرين والبحث المحموم عن العصافير النادرة الرأي العام أكثر من البرمجات المقترحة لخوض المرحلة ذاتها، كما أن اختفاء السلطة الفجائي (ولو ظاهريا! ) وعدم توفر بدائل هيكلية واضحة تحدد التزامات المرفق العمومي وأدواره الممكنة جعل الاتجاه العام يميل إلى معاداة الحكومة (نموذج الأخبار التلفزية) وإعطاء الكلمة للشعب مطلقا بما أغرق الخطاب الإعلامي في الشكوى من النقائص واستعجال الأهداف الآنية المادية المنتظرة من التغيير السياسي، أما العامل الثالث فهو بلا شكّ الذهنية المسيطرة على القطاع الصحفي بسبب اختلال تركيبته البشرية لصالح جيل الشباب في ضمور واضح للجيل المؤسس الذي فقد دوره المرجعي تحت ضغط ما يعتبر بتسرع ودون كثير تمحيص أو مراجعة تواطؤا مع “النظام السابق”. ومن المرجح أن يكون بقاء الأداء الصحفي لمؤسسات القطاع العمومي دون المأمول واقتصار التفوق النسبي للقناة الوطنية الأولى في مادة الأخبار التلفزية (حيث لا ينافسها أحد) راجعا بشكل مباشر إلى ملف الموارد البشرية أو تركة عهد بن علي الثقيلة الحقيقية التي كبلت القطاع ولم تنه أزمة تشغيل خريجي الاختصاص وتطلعهم المشروع للتموقع بسرعة في الفضاء الإعلامي، فقد امتصّ الرئيس السابق بجرّة قلم غضب العاملين في مؤسستي الإذاعة والتلفزة من خلال قرارات ترسيم مرحلية وعامة وذات شروط شكلية أغفلت ما امتازت به هذه الانتدابات من عشوائية واعتباطية وعدم تناسب مع الاحتياجات الحقيقية في الوقت الذي كانت كل برامج الإصلاح والتطوير التي تخطط لها سلطة الإشراف المباشرة آنذاك (وزارة الاتصال) تتجه نحو تخفيف العبء البشري وترشيد الانتداب.

وفي غياب هيئة عليا مشرفة على القطاع وآليات واضحة في تعيين المكلفين بتسيير المؤسسات الإذاعية والتلفزية العمومية حافظ الوضع الإعلامي على شكله السابق إذ تعتبر هيمنة سلطة الإشراف بشكل غامض وخاضع لتجاذبات خارجية أبرز ما يشل حركة المرفق العام وإلى حدّ الآن لا يدري أحد المعايير التي يتم وفقها اختيار هذا الشخص أو ذاك للإدارة ونوع المهام التي سيكلف بإنجازها والأهداف المطلوب منه تحقيقها والآجال الممنوحة له والضمانات والمحاذير حتى يتسنى له الاضطلاع بمهامه في استقلالية نسبية وفي كنف الاستقرار والاستمرارية كما هو الحال في القطاع الخاص، ولئن كان لجوء القصر الرئاسي في السابق إلى تغيير مديري الإذاعات والتلفزات مناورة تقليدية تلتفّ على الأسباب الحقيقية لتردي القطاع وتعطي انطباعا خاطئا بأن المسألة لا تعدو أن تكون مجرّد سوء تقدير شخصي من هذا المدير أو ذاك فإن تواصل اعتماد نفس هذا الأسلوب بعد الثورة يطرح أكثر من نقطة استفهام وفي هذا السياق بالذات تتنزل التساؤلات المبهمة حول ما يتناقل حاليا بصبغة شبه رسمية من نية جهة ما في الحكومة إدخال تغييرات داخل التلفزة الوطنية أياما قليلة فقط قبل النهاية المفترضة لمهام الحكومة الانتقالية…!