عبد الرحكان مجيد الربيعي

عبد الرحمان مجيد الربيعي

عندما كان الكاتب الكبير عبد الرحمان مجيد الربيعي مسؤولا في مجلة أقلام التي كانت تصدر عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد طلب من الكاتب المغربي محمد شكري أن يمده بأحد فصول روايته السوق الداخلي قصد نشرها في المجلة، وبعد أن نشر الربيعي ما أرسله إليه الكاتب حاذفا منه “الجنس المباشر” جرى بين الرجلين عتاب تساءل بعده الربيعي في مقال كتبه عن الرواية إثر صدورها: لا أدري تحت أي هاجس فعلت هذا؟، لقد أردت أن أنشر هذا الفصل لكن نشره كما هو يعني إخضاعنا للحساب العسير وربما فصلنا من عملنا…،

هل فكر الربيعي الكاتب وهو يجلس آنذاك على كرسي الناشر في ما وقع له مع ناشر روايته الأولى الوشم الذي اشترط عليه الحصول بدءا على موافقة رقابة المطبوعات العراقية وقد حصل عليها دون صعوبة تُذكر، ففوجئ فيما بعد بأن الناشر قد مارس على الرواية رقابته الخاصة وحذف منها ما يتصل بالجنس متعللا بأنه يفكر في أسواق عربية معينة؟

كان عبد الرحمان مجيد الربيعي بطل هذين الحادثين المذكورين في سياقات مختلفة ضمن شهادات ومقالات جمعها في كتابه من سومر إلى قرطاج ومنهما يمكن التطرق إلى مسألة هامة قد يتغافل عنها أولئك الذين يتذمرون من عين الرقيب وسلطة مقصّه على الأثر الفني.

فالرقيب شخص له حضور مادي وله تكوينه الفكري والعاطفي وله ملامح نفسية خاصة به والرقابة هي وظيفته التي يتقاضى مقابلها أجره في هذه الدنيا، فإذا كان من موظفي الدولة فإن مصيره الوظيفي واستقراره الاجتماعي مرتبطان بمدى ذوبانه في الإيديولوجيا التي ترتكز إليها السلطة وتبني عليها خياراتها الكبرى وتوجهاتها الثقافية والسياسية فإذا ما غلّب جنونَ المبدع وإيمانَه المطلقَ بالحرية على التزام الرقيب وانضباطه يكون قد مارس ضربا من الانتحار العبثي..

وحين ينتمي المبدعون في حياتهم المهنية إلى الوظيفة العمومية وتُناط بهم مهام ثقافية، فإنهم يمارسون الرقابة من تلقاء أنفسهم لأنهم لا يُمثلون ذواتهم المبدعة في تلك المواقع إنما يمثلون الجهاز الذي ينتمون إليه وتدفعهم أحكام الوظيفة إلى عكس ما يؤمنون به.

أما الناشرون وهم رقباء كذلك في القطاع الخاص فالمسألة برُمتها تخرج معهم من دائرة الانتماء الإيديولوجي والدور السياسي لتدخل منطق السوق القائم على حسابات الربح والخسارة وتكاليف الشحن والعرض والترصيف و مقتضيات التجارة التي قد تتنافى بشكل صريح مع مفهومي الالتزام الفني والحرية الإبداعية.

وفي كلتا الحالتين يظل الأثر الفني محوطا بإكراهات عديدة وتظل حرّية الفنان أسيرة النسبية الجارحة وتظلّ روحه المتمرّدة حبيسة الجدران الزجاجية التي يقبع داخلها وهذا هو قانون اللعبة..

فلا معنى للحرية بلا قيد..

ولا معنى للتمرد بلا سلطة..

ولا معنى للثورة بلا موت…

لقد وُلدت أعنف الروايات والقصائد في ظلّ القهر، وتطوّرت التيارات الفكرية المجدّدة في كنف الجبروت، وتسامقت التجارب الفنية الحالمة في حضرة الرقيب المهيب، وكلما اشتدّ ولاءُ المقصّ لمبادئه أوغلَ الفنّ في الرمز والتخفي..

إن الرقابة جزء ضروري من أجزاء اللعبة الإبداعية خصوصا في ما يتعلق بالتصدّي لكل أشكال الوصف المباشر الذي يخاطب الغريزة قبل العاطفة، أو التصدّي للشعار السياسي الواقعي إذ يعلو في مناخ روائي متخيل، وقد برع البشير خريف مثلا وهو ينشئ أدبه في مناخ متزمت في الإيحاء بما يعتمل في جسد الزوجة الشابة من حرقة جنسية بعد أن غادرها زوجها إلى الحج في رواية برق الليل فاندفعت تلاحق صوت إيقاعات الزنجي فوق سطوح المدينة النائمة، و برع كذلك في نقد المجتمع التقليدي المحافظ في أقصوصته خليفة الأقرع كما نقد الأثرياء الجدد والنازحين إلى المدينة خلال أزمة التعاضد في تونس ضمن مجموعته القصصية مشموم الفل من غير أن يقع في فخ المباشرة أو التداعي في الشأن السياسي على حساب الرؤية الفنية الأصيلة وقد غنمت السينما التونسية من هذه المجموعة أعمالا هامّة.

الكاتب المغربي محمد شكري

الكاتب المغربي محمد شكري

و إضافة إلى كونه شخصا ماديا ينتمي إلى جهاز توكل له مهمة السهر على المسموح والمحظور وحماية الأخلاق العامة من نزوات الكتاب والفنانين والحرص على تسييج مساحات الحرية الفنية بضوابط يُقرّها المجتمع وتتواضع عليها الأجيال فإن الرقيب كائن هُلامي يسكن ذات المبدع ويتربّع في ركن من ذاكرته ليُعمل أدوات الرقابة بشكل حيني وتلقائي حتى لا يغلُبَ على الكاتب لحظةَ إنشائه المعنى فورانُ الشعور وغليانُ العاطفة ونزواتُ العقل، إنه ثقب الإبرة الذي يمرّ منه الجملُ مُحمّلا بما لذّ وطاب من الأفكار وهو الميزان الذاتي الذي يضع عليه الكاتب مواقفه وأفكاره قبل أن يذيعها في الناس..

وبذلك يعيش كل كاتب وكل فنان ذلك الشعور الطبيعي الجميل بالتأرجح بين الممكن والمستحيل فيتردّد بين قطبي الجائز والممنوع ويسعى في التخلص من الخطاب المباشر حتى يراوغ ويخاتل ويمسك خيوط اللعبة الفنية ببراعة فائقة..

و لا يخرج عن دائرة المنطق والمعقول طالما أنه من الضروري أن تكون لكل حرية قيود وأن يكون لكل فن مهارات تسمو به عن العادي والمباشر والسوقي.

أمران فقط لا يمكن أن يقبلهما قانون اللعبة وتختل بهما موازين النظام

أن يتعدّى الرقيب حدود الخطاب المباشر فيمارس التأويل أو أن يكون متطفلا على مهنة الرقابة متطوعا للقيام بها تزلفا..

وقد روى عبد الرحمان مجيد الربيعي قصة جدّ معبّرة حول رواية تيريزا باتيستا التي كتبها جورج أمادو وترجمها عن البرتغالية الراحل عوني الديري أحدُ أهم المترجمين العرب وأباحت الجهات المسؤولة نشرها فنبّه المصححُ الذي كُلّف بمراجعة تصفيف النص رؤساءه إلى ما تحفل به هذه الرواية من أشياء تبدو من وجهة نظره هو مخلّة بالآداب العامة وتَسبّب في إيقاف نشرها في آخر لحظة..لتتلقفها إحدى دور النشر الأهلية …

والأكيد أن أمثال هذا المصحّح اللغوي كثيرون في الوطن العربي وأن حادثة تيريزا باتيستا ليست شاذّة وإنما تتكرّر عشرات المرّات في اليوم الواحد في مختلف مراكز القرار.

—————-

الكرامة 17-09-2011