إذاعة المنستيرأحترم كثيرا الدكتور جميل بن علي أستاذَ اللغة والآداب العربية الذي كلفته رئاسة الإذاعة التونسية بإدارة إذاعة المنستير مؤقتا في انتظار أن تتضح السبل الكفيلة بإصلاح جهاز المديرية وتمكين أبناء الإذاعـة دون سواهم من الوصول إليه في كنف الشرعية الإدارية وقانون التداول على المسؤولية، وهو المطلب الذي تعالجه الآن الأطرافُ المعنية بمراجعة وضع الإعلام العمومي للتقدّم به شرطا مركزيا في سياق إصلاح هذا القطاع والخروج به من وضعه السابق.
أحترم الدكتور بن علي ورغبتَـه في أن تمتاز فترةُ إدارتِه الإذاعةَ على قِصرِ مُدَّتها بكل ما ينفع ويفيد وأن تكون بصمته في مستوى طموح المرحلة، خصوصا وأنه قد تصدّى بشجاعة كبيرة لكل الأصوات التي رفضت تعيــينه في هذا الموقع وتجاوزها في وقت قياسي للانطلاق مباشرة في “رفع التحديات” وأهمُّها تقديمُ إعلام مغاير ومختلف اختـار له عبارة “الصوت الحرّ” شعارا، ولكن لن يمنعني هذا الاحترام من أن أختلف معه في بعض المسائل ووجهات النظر آملا في ألا يفسد الاختلاف للودّ قضية وألا يكون بابا للخلاف لا قدّر الله، بل سيزداد ذلك الاحترام سيّما وأنني قرّرت أن أكتب عن اختلافي معه في مقال صحفي حتى يكون ضربا من ضروب التفكير بصوت مرتفع في شأن عام، حافزي في ذلك أن ما سأعرضه ليس من موجبات التحفظ الإداري وأنّ الحوار الهادئ الرصين مدخل من مداخل الإصلاح والتطوير طالما تعلقت همة المرء بما ينفع العوامّ ولا يقتصر على إرواء نرجس الذات فحسب، وكيف لا أُوجِّه في صحيفةٍ نقدا لرئيسي في العمل وقد أصبح شعارُ “لا خوف بعد اليوم” أحد أبرز عناوين الثورة التونسية التي دفع ثمنها الشهداء و قطف ثمارَها الطازجة الآخــرون؟
لقد كان ضروريا أن تترفع ديـباجة شبكة شهر رمضان المعظم التي عنوانها “إذاعة المنستير تحلق هناك في الأعالي” عن ثلب البرامج الدينية التي تمّ إنتاجها سابقا ونعتها بالسطحية والروتينية وذلك لأسبابٍ أكثرُها بداهةً أنّ الذين لم يشاركوا هذا العام في إنتاج برامج رمضان من الأساتذة الفضلاء والخطباء الأجلاء الذين كانوا يفعلون ذلك سابقا سيشعرون بأنهم معنيون بهذه الكلمة المؤذيــة وأنّ جزاءهم في بيتهم قد كان مثل جزاء سنمّار.
إنّ رفض النظام السابق الإسلامَ السياسيَّ جعله شديد الحرص على تشديد القبضة الأمنية، فكان التعامل مع منتجي البرامج الإذاعية الدينية يستوجب فحصا أدقّ من قبل السلطات العليا، وهو ما يفسّر عزوف الإذاعة عن التعامل مع منتجين جدد والاقتصار على المتعاونين التقليديـين أو الواردةِ أسماؤهم في القائمات التي تعدّها وزارة الشؤون الدينية سلفا، وكان من شروط إنتاج هذه الموادّ خضوعُها مكتوبةً لمراقبةِ وزارة الشؤون الدينية وهو أمر تراخت إذاعة المنستير في تنفيذه فلم تكن تطلب من المنتجين تقديم نصوصهم مسبقا لمراقبتها، بل كانت الإدارة تتحمّل مسؤوليتها بشجاعة في هذا متأهبة للمساءلة في صورة حدوث ما لا تحمد عقباه، وهذا ما لم يحدث والله على ما أقول شهيد.
لم يحدث أيّ شيء من هذا لأن الجميع كانوا يدركون قواعد اللعبة جيّدا فيتجنبون المسائل الخلافية من تلقاء ذواتهم ولا يتحدّثون في بعض المواضيع التي تعتبرها التيارات الإسلامية السياسية من خروقات السلطان ومن دواعي الخروج عليه، وكان إيثارُ السلامة يُعفينا من توظيف الخطاب الديني سياسيا في الاتجاه المعاكس بما ينفّر الناس منها، وهكذا كانت المحظورات معروفة وكانت برامجُ الإذاعة في هذا الباب تعليميةً تثـقيفية تهتم أساسا بمكارم الأخلاق فتحبّب إلى الناس الالتزام بضوابط الشرع في معاملاتهم، وتراعي في تنوع مستويات الخطاب تنوع مستويات العامة وتعالج الفقه على أصول المذهب المالكي مذهب الدولة التونسية الرسمي وتتحاشى دائما وأبدا الإفــتاء، أما عن الشكل فقد تخلصت إذاعة المنستير منذ أكثر من عشر سنوات من الافتتاحية الصباحية التي كانت تعوّل عليها السلطة السياسية كثيرا في امتداح مناقبها وتعداد مآثرها بأسلوب خشبي لا يتورع عن استخدام الآيات البينات والأحاديث الصحاح في حقن المواطن بجرعة أمل وتفاؤل تجعله يكاد يزغرد وهو يفتح عينيه في تونس بن علي لا غيرها، لقد اتُّخذَ قرارٌ شجاع آنذاك ولم يطالبنا أحد بالرجوع فيه.
لا نشكّ في أن الإصلاح والتطوير لا يتحققان إلا بمساءلة الماضي وتأمل أخطائه الكثيرة، ولكن بتجرّد وصبر وأناة ومن منطلق الإحساس الصارم بالمسؤولية، فالإذاعة ماضيا لم تكن تخدش نقاوةَ صورتها “البرامج الدينية السطحية” بل كانت تعاني من البرامج التي يتم إنتاجها حسب الطلب احتفالا بهذا الحدث السياسي أو ذاك، وهذا هو الأمر الوحيد الذي تغيّر وانتهى فعلا بعد رحيل زين العابدين بن علي وقدوم الدكتور جميل بن علي إذ أمكن والحمد لله لأبناء الإذاعة المتخصصين في مثل تلك البرامج التي لم تكن تفرض فرضا بل يتكالب عليها الكثيرون أن “يترسكلوا” في بلاط الثورة ويركبوا قطارها قبل أن يفوت، أما البرامج الدينية وإن تغيرت بعض أسماء منتجيها فلا نعتقد أنها ستخرج عن الخطوط الموضوعة سلفا، أما إذا كان المراد بتعميق البرامج الدينية وتطويرها اعتماد البث المباشر وقبول استفسارات الناس دون رقابة مسبقة وتحمل أعباء الإجابة عنها دون خوف أو ذعر فذلك كان من أهم ما قامت به الإذاعة في السنة الماضية لا هذا العام ويعود الفضل فيه إلى آخر مديري “العهد البـــائد” !.
أرجو أن تكون العبارة الواردة في الديباجة زلّــة لسان أغفلها مقص الرقيب وهو يترنح من فرط الحرية التي أضحى يتخبّط فيها بعد الثورة فلم يتفطن لها ولهنات أخرى كثيرة، وإذا لم يكن الأمر كذلك ففي مقالي هذا اعتذار لمن قد تلحقهم عن غير قصد ولا شك إساءة بليغة مما قيل في هذا الشأن.