التلفزة التونسية

التلفزة التونسية

الإعلام العمومي السمعي البصري في تونس تركة ثقيلة من عهد بن علي من الصعب تجاهلها أو توهم القدرة على إصلاحها بمجرّد تغيير القوانين أو إضفاء لمسة من الديمقراطية الثورية عليها، والجماهير تؤكد ذلك بأكثر من وسيلة وتقول إن دار لقمان هي إلى الآن على حالها مع وجود بعض الاستثناءات البادية للعيان والتي لا يمكن إنكارها رغم أنها تبدو أقرب إلى الماكياج الثوري منها إلى التعبير عن حالة صحوة حقيقية تبعث على الاستبشار.

أزمة الإعلام السمعي البصري العمومي في تونس مبنية على جملة من العوامل الأساسية لا يمكن لعمليات الإصلاح والترميم أن تتجاهلها أو تقفز عليها، أولها ارتباطه لسنوات طويلة بالجهاز الاستشاري في القصر الرئاسي ارتباطا يتجاوز عقد الولاء السياسي إلى التبعية الآلية لشخص المستشار، لقد حاول الهيكل الوزاري المشرف على القطاع تنظيم وسائل الإعلام العمومية وتغيير هيكلتها وإعطاءها دفعا تستطيع أن تواجه به تراجع شعبيتها وانعدام قدراتها التنافسية إلا أن الصراعات السياسية ظلت العائق الحقيقي أمام كل مشاريع الإصلاح وظلّت مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية بمختلف قنواتها محطّ أطماع عديد الأطراف.

يمكننا أن نميّز في هذا السياق بين مرحلتين: الأولى بدأت مع السيد صلاح الدين معاوي (مدير عام اتحاد إذاعات الدول العربية حاليا) وانتهت برحيل السيد عبد الحفيظ الهرقام عن شارع الحرية بطريقة يشوبها الغموض وتفوح منها روائح المؤامرة وقد امتازت هذه المراحل باستقلالية المؤسسة نسبيا عن الحكومة وعن الجهاز الاستشاري حتى إن البعض كان يتحدث عن دور الإعلام العمومي في استباق الموقف الرسمي وتوجيهه عند اندلاع حرب الخليج الثانية بعد قيام صدّام حسين بغزو الكويت إذ انحاز التلفزيون الرسمي آنذاك بشكل واضح لتعاطف الشعب التونسي مع القيادة العراقية متعاليا عن تبعات ذلك على العلاقات التونسية الخليجية وبدا هذا الأمر متناسقا مع موقف الرئيس السابق من اجتماع القمة العربية في القاهرة الذي تقرّر فيه برعاية من الرئيس المصري السابق حسني مبارك أن تتولى المجموعة الدولية معاقبة العراق عسكريا إذ رفض المشاركة معلنا ذلك في خطاب كان له تأثير إيجابي كبير على شعبيته آنذاك.

كما اتسمت هذه المرحلة خلال عقد التسعينات بتعزيز شبكة الإعلام الجهوي وتطوير الفضاء السمعي البصري فبالتوازي مع الانتقال إلى البث الفضائي تمّ إحداث قنوات إذاعية وتلفزية جديدة وكانت الغاية المعلنة آنذاك خصوصا من بعث إذاعة الشباب وقناة 21 التلفزية ضخّ دماء جديدة في المشهد الاتصالي تعوّض تدريجيا الوجوه والأصوات القديمة التي ارتبطت بشكل أو بآخر بالمنظومة السياسية السابقة وهو ما تحقّق فعلا حيث أمكن عبر اعتماد المناظرة والتكوين الميداني السريع انتداب عدد هام من المنشطين والصحفيين وتدريبهم وسيضطلع هؤلاء بأدوار هامة بنسب متفاوتة منذ ذلك الحين وحتى الآن.

وشكلت عملية عزل السيد المدير العام للإذاعة والتلفزة التونسية من منصبه بعد حدوث الانقطاع الشهير خلال عرض النشرة الرئيسية للأنباء ورئيس الدولة موجود في زيارة رسمية خارج أرض الوطن نهاية هذه المرحلة وبداية مرحلة جديدة ستـتّسم بمختلف مظاهر التبعية المطلقة لأطراف خارجية أهمها الحكومة فكل الوزارات تريد أن تفرض على وسائل الإعلام العمومية الكيفية التي ينبغي أن تظهرها بها ، والجهاز الاستشاري في القصر الرئاسي يعمل دائما على أن تكون الإذاعة والتلفزة راجعة إليه بشكل مباشر فيتحكم في أدق التفاصيل بدءا بشريط الأنباء وصولا إلى اختيار ضيوف الملفات التلفزية من ممثلي المعارضة والصحافة والمجتمع المدني، أما العائلة الحاكمة فقد كانت الطرف الثالث الذي بدأ يبسط سلطانه على المؤسسة بعد أن بدأ نفوذها يتصاعد تدريجيا منذ أواسط التسعينات، و سيؤثر هذا التجاذب لاحقا في كل شيء بدءا من التسيير الإداري والمالي والانتداب وصولا إلى توقيت عرض الكاميرا الخفية في رمضان واستبعاد هذا الوجه أو ذاك من خارطة البرامج وفرض المنشط المحبوب لدى القصر الرئاسي في سهرة السبت الشهيرة….!، وتحول هذا التجاذب إلى محاصصة ينال بمقتضاها كل طرف نصيبه من الكعكة التلفزية بينما تكتفي الإدارة بتوزيع النصيب على مستحقيه إلى أن امتدت أصابع العائلة إلى الكعكة بأكملها فابتلعتها !

ما حدث بعد ذلك صار معروفا: تواصل تهجير الكفاءات الحقيقية أو تجميدها، تثبيت المسؤولين المؤتمنين على مصالح هذه الأطراف الخارجية في مواقعهم، إهدار المال العام والاستيلاء على الممتلكات العمومية، الصعود الصاروخي للقطاع الخاص في ظروف قانونية مشبوهة مدعوما برعاية مافياوية قوية، إغراق القطاع العمومي بالعمالة الفائضة عن الحاجة في شكل انتدابات عشوائية تحت مظلّة رعاية الرئيس للشباب وحدبه المتواصل على الإعلام والإعلاميين….، وكانت المهازل التي تسلّي الشعب الكريم في السنوات الأخيرة تبدأ من تلك اللقاءات المفتوحة بين مسؤولي الحكومة والمواطنين (نعم هكذا !) وتنتهي عند تناقل نبأ انزعاج الرئيس من غياب السبوعي في رمضان لأن نجله افتقده وهو يتناول البريكة أمام شاشة التلفزيون !! ولولا رحمة “نسيبتي العزيزة” لمّا مرّت العاصفة بسلام.

إن وضعا متعفنا كهذا لا يمكن في اعتقادنا إصلاحه بمجرّد مباشرة تغيير القوانين الأساسية والنظم الداخلية بسرعة لأن النسخ الجديدة من هذه القوانين ستراعي المصالح المكتسبة وتبقي الوضع على ما هو عليه بل وستتعامل مع كل مظاهر الخلل ومن أهمها اليد العاملة التي وقع انتدابها وترسيمها في ظروف مشبوهة بمنطق الأمر الواقع بينما كان المطلوب أولا التعمّق أكثر في درس أسباب الأزمة واستئصالها في ظلّ مقتضيات الحالة الانتقالية الثورية ومن ثمة إنشاء بنيان تشريعي جديد.