في مثل هذا اليوم (3 أوت) من سنة 1977 وفي غمرة الاحتفالات بعيد ميلاد المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة انطلق في الطابق السفلي لقصر المؤتمرات صوت إذاعة المنستير لأول مرّة، وكان لزاما علينا سنة 2002 ونحن نعدّ لإصدار كتاب وثائقي يؤرخ لهذا الحدث بمناسبة مرور ربع قرن أن نجد مخرجا لهذا المأزق الكبير: أن نقول الحقيقة دون أن نقولها، أن نعدّل فيها قليلا، أن نستغني عن بعض التفاصيل دون أن نمسّ الجوهر، أن نعيد صياغة الجملة التاريخية فنقدّم بعض الوقائع ونؤخر البعض الآخر من غير أن نزيّف شيئا، وتلك كانت من أشدّ مآزق السابع من نوفمبر في التعامل مع مادّة التاريخ وإحدى مطباته الكثيرة في تعهّد الذاكرة الوطنية.

وجدنا صيغة مقبولة نسبيا، أن نضع في الواجهة تاريخ 19 سبتمبر عندما انطلقت أول شبكة برامج واضحة ورسمية ومحدّدة كما تقول الوثائق المتبـقية من الاحتفالات السابقة وأهمها احتفال العشرية الذي وقع أشهرا قليلة قبل الانقلاب على بورقيبة والإطاحة به، هذه الصيغة حاولت التخفيف من وطأة الترابط المعروف بين ميلاد الإذاعة وميلاد الزعيم التاريخي شكليا ومؤقتا،  فوافقت عليها رئاسة الجمهورية، وهكذا قُــــبِلت مقدّمةُ الكتاب وصدر الإذنُ بطبعه في شكله النهائي بعد التأشير كذلك وفي وقت جدّ متأخر على الصورة اليتيمة التي سيظهر فيها الرئيس السابق الحبيب بورقيبة على صفحات هذا الكتاب التوثيقي بعد أن تتصدَّره كما هو معمول به في مثل هذه المناسبات النوفمبرية السعيدة كلمات لصانع التغيير وراعي حرية الإعلام والتعبير منقذ البلاد والعباد، ولقد كانت فعلا مناسبة نوفمبرية في شهر أوت لأنها تنزلت في سياق الجملة الأولى من بيان السابع من نوفمبر (…لذلك أحببناه وقدرناه وعملنا السنين الطوال تحت إمرته في مختلف المستويات….)، ولأنها أتاحت المجال لزين العابدين بن علي كي يضع بصمته الخاصة على هذا الحدث التاريخي بإرسال رسالة عن طريق مستشاره المختص في الشأن الإعلامي موجهة إلى كافة أفراد الأسرة الإذاعية تلقفتها حال هبوطها من السماء وسائل الإعلام وأصبحت مرجعا في الحديث عن إذاعة المنستير والتأريخ لها !!!

إنّ هذا المجهود الذهني الكبير المبذول في مسألة بسيطة كهذه يكشف طبيعة العهد السياسي السابق سيما في تعامله مع الملف البورقيبي وحرص فريق المستشارين الرئاسيـين على النفخ في صورة مُؤَجِّرِهِم وتفريغ الماضي والحاضر والمستقبل من كلِّ الرموز والعلامات لأجله حتى يتسنى له اعتقال التاريخ والجغرافيا ورهن الذاكرة خدمة لكاريزما مصطنعة، ولكن هذا المجهود القائم على المناورة وعلى مبدأ الأخذ والعطاء كان ضروريا في هذا السياق بالذات لتسريب مشروع إبداعي عاطفي أساسا يقوم على الاعتراف بالجميل ونكران الذات في سبيل إعطاء القوس لباريها وتكريم أولي الفضل من الذين وضعوا لبنات الصرح وأشادوا بعرقهم الطاهر الزكي مجدا قد لا يستحقه اليوم بعض المنتسبين إليه زورا والمتشــدِّقين به بهتانا، لقد كانت ذكرى مرور ربع قرن على تأسيس الإذاعة فرصة سانحة خصوصا بعد وفاة بورقيبة لاستئناف الاحتفال بهذا الحدث من غير الوقوع في شبهة الاحتفال المُــقنَّع بميلاد الزعيم، وكانت محطة ضرورية للإشادة بالأدوار المهمّة التي قام بها رجال محترمون في صياغة الإذاعة بما هي مشروع ثقافي تنموي أساسا، فالذين عاشوا تلك الفترة يروون بأدق التفاصيل كيف أحسّ الجميع بالوقوع فيما يشبه المأزق بعد أن انفضّــت احتفالات عيد الميلاد التي جُـلبت لأجلها من الإذاعة التونسية ومن إذاعة صفاقس معداتُ الإنتاج الإذاعي وبرامجُ وأغان متنوعة وصار لزاما على هذه الإذاعة التي ارتُجِل قرارُ إنشائها ارتجالا أن تنطلق فعلا وأن تكون إذاعة بحق لا مجّرد أداة من أدوات الزينة تُــسْــتعملُ في الاحتفال بذكرى الميلاد كالشماريخ الملونة التي كانت تملأ سماء مدن الساحل وقراه في هذه المناسبة المجيدة، فأوكلت المسألةُ إلى لفيف من المثقفين بشكل تطوعي لفرض المشروع فرضا وإعلاء صوت هذه الإذاعة الوليدة رغم كل شيء وذلك ما كان…

اليوم وبعد مضيّ أربعة وثلاثين عاما على هذا الحدث، وبعد عودة تمثال الزعيم النصفي إلى مكانه الطبيعي في بهو الإذاعة، يمكن كتابة هذه الجملة التاريخية بشكلها الأصلي، فالإذاعة بعثت للوجود بقرار سياسي مرتجل لتكون انطلاقة صوتها على الموجة المتوسطة وبقوة عشرين كيلواط فقط من محطة الإرسال بالغدير يوم عيد ميلاد الزعيم، أما ما حدث بعد ذلك فقد كان واجبا نضاليا وأخلاقيا وثقافيا تصدى له ببسالة رجال عاهدوا الله فصدقوا، وكانوا يعملون دون انتظار الأجر أو المقابل أو المجد الشخصي خدمة لفكرة آمنوا بها ورجل أحبوه فخدموا مشروعه السياسي والحضاري بتفان وإخلاص، ولا شكّ أن المؤرخ الحصيف سيشهد أيضا أنّ كلّ مديري الإذاعة من المرحوم قاسم المسدّي إلى الزميل الفاضل نبيل المؤدب كانوا يرتعدون لثقل هذه الأمانة الملقاة على عاتقهم فتحملوها بشجاعة ورباطة جأش وأرادوا بها الأفضل والأبهى والأجمل دون التنكّر للماضي والاعتداء على السابقين، لم يحدث أن فكّر أحد هؤلاء المديرين الذين تعاقبوا على هذه الإذاعة طيلة ثلاثة عقود بطريقة “إني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُه لآتٍ بما لم يستطعهُ الأوائــــــلُ”، فنجح كل واحد منهم في ترك بصمته الخاصة وأسلوبه المميّز، وقد فسّر صديقنا القديم “الصادق بوعبان” هذه المسألة بقولة بسيطة وبليغة في آن: “إذا أردت النجاح في هذه الإذاعة فعليك أن تحبّها أكثر من حبّك لذاتك”، وما من شكّ في أن كل الذين كلفوا بإدارتها في “العهود البائدة” أدركوا هذه الحكمة وعملوا بها بشكل أو بآخر رغم خصوصية الظرف السياسي وحرص السلطة دائما على جذب طرف اللحاف إليها.

إن عيد ميلاد إذاعة المنستير إذن هو عيد الحبيب بورقيبة الذي زرع البذرة الأولى وسقاها بماء أبوته الصافي، وهو عيد كلّ الذين تعهّدوا هذه البذرة كي تكبر وتنمو وترتفع هامتها ويفوح عطرها، فهؤلاء خدموا فكرة وحققوا مجدا، وكلما نظرت في صورهم المعلقة على جدار القلب والذاكرة تزاحمت في رأسي ذكريات الأمس بقايا رغوة الماضي وهو يرتدّ إلى الأعماق مثل الموج الهادر بعد أن يرتطم بصخرة الحاضر وينكسر عليها، إنها الذكريات تــنبض تحت رماد العمر بكثير من الشوق والألق والتوهج، ففي هذا المكان أصوات وأصوات لم يكن يجمعها إلا الحبّ عندما كان للحبّ معنى…