أحدث روايات شكري المبخوت

أحدث روايات شكري المبخوت

يقتحم شكري المبخوت بروايته الجديدة «السيرة العطرة للزعيم» عالم الأدب السياسي الساخر، وهو نوع من الكتابة الروائية قليل عربيا، فيما اشتهر به كتاب عالميون من أمثال الروائي التركي عزيز نسين. وهو يقارب في هذا النص السردي الجديد والمختلف عما عرف به سابقا منذ روايته «الطلياني» فكرة الزعامة السياسية بشكل كاريكاتوري من خلال شخصية «العيفة بن عبد الله».

تتكوّن الرواية من أربعة عشر فصلا، ويمكن اعتبار النص الأول (فاتحة) والنص الأخير (تذييل: ترجمة الزعيم) بمثابة النص الإطار الذي يحتوي المتن السردي والجسر الذي يصل الرواية بالواقع، ففي الفاتحة جملة أساسية تطلع القارئ على أهم صفة يمتاز بها الزعيم: انتماؤه إلى هذا الشعب، فهو «منحدر من أعماقه، ومن روح هذا الشعب تشرّب قيمه وأسلوبه في العيش والتعامل وحتى في البذاءة المحببة إلى النفس». ويصف الراوي بطل السيرة بأنه «الوحيد الذي يستحق زعامة هذا الشعب لكن رياح التاريخ في بلادنا تهبّ دائما عكس مصلحتها». وورد التذييل في شكل ترجمة متخيّلة منسوبة للباحث التونسي المعروف عبيد الخليفي لتنزيل شخصية «العيفة بن عبد الله» في سياق التاريخ الوطني، حيث عاش الزعيم منذ سنته الثالثة في الجامعة إلى اندلاع ثورة الكرامة 17 ديسمبر-14 جانفي 2011 حياة السرية، دون أن يتخلى عن مهامّه النضالية في تأطير الشباب الثوري والتحريض على النظام الحاكم، ورغم الأدوار المهمة التي نسبت إليه في مختلف مراحل الثورة اختفى شيئا فشيئا من المشهد السياسي التونسي بعد انتخابات 2011، وبعد أن ناصب العداء للترويكا وللإعلام والصحافة. «لكنه يظل من أبرز رجالات الثورة التونسية المجيدة وزعيما كبيرا خالد الذكر من أهم من عرفت تونس من زعماء في تاريخها»

أما المتن السردي المخصص لسيرة الزعيم في الحركة الطلابية فيتوزع على اثني عشر فصلا تبدو في الظاهر مخصصة للإحاطة بحياة العيفة بن عبد الله منذ لحظة وصوله إلى الكلية، لكنها في الحقيقة تفسر جملة أخرى وردت في الفاتحة ويمكن اعتبارها أهم مفاتيح الرواية يقول فيها الكاتب متحدثا عن الزعيم «وجعل الله له نخبة من إخوان الصفاء يشدون أزره» فالسيرة إجمالا هي قصّة صناعة الزعيم.

تقع أحداث الرواية في تونس التسعينات، وقد حرص الكاتب على توفير بعض القرائن السياقية التي تضع السرد بشكل واضح في إطار زمن بن علي، ولا يظهر هذا الزمن السياسي في شكل أحداث تاريخية إنما يتجلى في منظومة قيم تقوم على التناقض بين الشعار والممارسة، فالحياة داخل الجامعة تضجّ بشعارات الصراع الطبقي والوعي الثوري والعدالة الاجتماعية، لكن سيرة الزعيم تكشف عما يعتمل في هذا الجوّ الثوري من علاقات زبونية ومصالح بورجوازية، ففي أول خطوة لاستقطاب العيفة وتأهيله للزعامة حدثه زميله عن احتقار أبناء الفلاحين، عن الحياة المرفهة، وعن ضرورة التضامن وعن الحياة التي لا تعاش مرتين وعن متعة الحياة والتجربة الوجودية. ووسط هذه التناقضات بدأت شخصيته تصنع من فراغ وعدم : «أنت شخصية كاريزماتية تصلح قائدا لنا» ولم يكن في الواقع يمتلك من مؤهلات غير قدرته على التفريق بين الثورة والانتفاضة وتصحيحه لمؤرخ الشعب الكريم الذي  يروي التاريخ من وجهة نظر أولاد الحفيانة هذه الحقيقة: لا وجود لثورات في العصر الحديث غير الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الإيرانية، ما عدا ذلك انتفاضات…

من ثمة بدأ أشخاص مجهولون صناعة شخصية الزعيم، ولن نعرف إلا القليل عن ماضيه المرتبط بالجبل، الذي يمثل رمزا للطبيعة المجردة مقابل ما ترمز إليه الكلية من الثقافة والمعرفة والإيديولوجيا. وكل مراحل التأهيل التي خضع لها العيفة إنما كانت تتمثل في تهذيبه وتثقيفه اجتماعيا وتخليصه من ثقافة الجبل التي تقوم على الاندفاع والعفوية لتمكينه من ثقافة المدينة القذرة وجعل صورته المادية ملائمة للكاريزما التي يمتلكها والتي أهلته ليكون مشروع زعيم سياسي. وخلال هذه المرحلة تتتالى المشاهد الطريفة التي تقوم على المفارقة.

تنبني الرواية على جملة من الثنائيات، ففي مستوى الشخصيات مراوحةٌ بين الخفاء والتجلي، وبقدر ما كانت شخصية العيفة مكشوفة عارية بكل تناقضاتها ونقاط ضعفها وهشاشتها، يبدو الآخرون كما لو كانوا ظلالا في العتمة، أو مجرد أشباح. فالمستشار والمسؤول عن البروتوكول شخصيتان أساسيتان، إذ يقفان وراء خلق شخصية الزعيم المعقدة لكننا لن نعرف عنهما شيئا باستثناء ما ورد في بعض الإضاءات كالحديث عن انبهار المستشار «بهذا القائد الذي صنعه بيديه وجعل منه رأس كل التحركات، فقضى على الذين أطردوه من الفصيل السياسي الذي كان ينتمي إليه هو والمسؤول عن البروتوكول»، كما تتوزع الشخصيات في الرواية بين عالمين: السلطة والثورة. فمدير المبيت والكاتب العام للكلية وصاحب المشربة والحارس كلها شخصيات تمثل النظام والاستبداد فيما يمثل الزعيم ومن يتحرك في فلكه من الطلبة الفكر الثوري. وهنا يستخدم الراوي ثنائية الظاهر والباطن ليكشف عما تتمخض عنه علاقات الصراع بين من يمثلون الوعي الثوري ومن يمثلون السلطة من صلات خفية ومصالح مادية وخلاصات فردية. تصور ذلك علاقة التعاون التي نشأت بين العيفة زعيم الحركة الطلابية وسي جاء وحدو صاحب المشربة وهو عين للنظام داخل الحرم الجامعي.

في مستوى المكان ثنائية مركزية أيضا، فالأحداث تدور داخل الفضاء الجامعي المغلق. لكن خروج الزعيم بمعية صاحب المشربة إلى المكان المفتوح وهو المدينة بكل ثقلها الرمزي، يكشف التضاد العنيف بين مثالية المجتمع الطلابي وقذارة الواقع، عبّر الكاتب عن ذلك بالمفارقة بين كاريزما القائد وهيبته في الكلية والمشربة والمبيت وخيبته وانكساره حين لا يستطيع السيطرة على نفسه في الماخور، أو حين ألقي عليه القبض متلبسا بسرقة الكتب ولم يخلصه من قبضة البوليس إلا صاحب المشربة وهو الذي كان يعتبر هذا النوع من السرقة استعادة للحقوق المسلوبة.

ولا شك أن كل من يقرأ هذه الرواية سيتساءل: ممن يسخر شكري المبخوت بهذه الصورة الكاريكاتورية للزعيم؟ فهذه الرواية تختلف بشكل جذري عن المقاربات السردية المعروفة التي تناولت بالنقد صورة المثقف الماركسي والمناضل اليساري وهي تشكل مدونة غزيرة ومبحثا حريا بالاهتمام. والإجابة تتضمنها خطبة الزعيم الأخيرة التي تكشف بوضوح أن السخرية في الرواية تطال بسهامها الجميع، اليمينيين واليساريين والقوميين والإسلاميين الخ. فكل الفصائل سواء في صناعة الاستبداد وعبادة الصنم: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر …هذا ما قرأناه في صحف ماركس ولينين وستالين وصحائف الدغباجي الذي حلقوا شاربه، وعمر المختار مؤدب الصبيان…، عاشت النظرية الثالثة نبراسا لنا في ثورتنا المستمرة.