خنا مينة 1924-2018

حنا مينة 1924-2018

برحيل الكاتب السوري الكبير حنا مينة عن سن تناهز أربعة وتسعين عاما فقد الأدب العربي أحد أبرز وجوه الرواية في القرن العشرين، فهو كاتب ينتمي إلى مرحلة التحولات الاجتماعية والثقافية الصعبة في الوطن العربي، عاصر المخاضات السياسية الكبرى التي عاشتها المنطقة بدءا من حروب التحرير وصولا إلى الثورات المغدورة والربيع الدامي، ونحت تجربته من التفاعل الخلاّق بين الإيديولوجيا والحياة، فكانت أعماله في الأدب الواقعي نضالا عميقا من أجل عدالة اجتماعية يرى أنها حلم الإنسانية كلها لا حلم أجيال قليلة فقط، وسافرت رواياته من اللاذقية إلى العالم محققة تلك المعادلة السحرية بين المحلية الضيقة والكونية الرحبة، وعبر هذه الأعمال يتأسس عالم حنا مينة الروائي ويمتاز بتجذره في الواقع الاجتماعي من جهة وقدرته من جهة أخرى على الخلق والتخييل حتى ليظن القارئ أن أبطال هذه الرواية أو تلك أشخاص موجودون في الواقع.

خارج المدونة النصية تعتبر شخصية حنا مينة الإنسان أحد أهم العناصر المكونة لظاهرة «حنا مينة الكاتب»، فهو ينتمي إلى طائفة من الأدباء تلعب تفاصيل حياتهم دورا أساسيا في ذيوع أدبهم وتتحول سيرتهم الأولى في مرحلة ما قبل الكتابة إلى نوع من الخرافة أو الأسطورة، على غرار قصة جان جينيه (1986-1910) مع اليتم والفقر واللصوصية والتشرد كما وردت في كتاباته عن الذات أو في حواراته الصحفية ثم تطورت لتصبح مادة تأمل وجودي لدى سارتر في كتابه (القديس جينيه، الممثل والشهيد)، وقصة الكاتب المغربي محمد شكري (2003-1935) مع الفقر والأمية ومسيرة تدرجه من عالم هامشي مقموع إلى مصاف الكتاب والأدباء الكبار، وهذه القصص المليئة بالإثارة والخارجة عن المألوف تقوم كلها على عنصر جوهري هو تحدي النظام الاجتماعي وإرغامه على قبول ما يختلف عنه، وتصبح قصة الصراع هذه رافعة تجارية مهمة للنص قبل الخوض فيما يميزه من داخل البنية الأدبية ذاتها، وفي تجربة حنا مينة نعثر على سيرة مختصرة مبهمة تتكرر في كل المصادر بنفس الصيغة وتقول إن الكاتب عاش طفولته في إحدى قرى لواء الإسكندرون على الساحل السوري، ثم عاد مع عائلته إلى مدينة اللاذقية، وأنه كافح كثيرًا في بداية حياته، واشتغل في مهن مختلفة، فعمل حلاقًا وحمالًا في الميناء وعمل مصلّحَ دراجات ومربّي أطفال في بيت سيد غني وعاملا في صيدلية، ثم تدرج في المرتبة الاجتماعية نوعيا وأصبح صحفيا وكاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية بالعامية، وموظفا حكوميا وانتهى روائيا. وتبدو هذه المسافة الملغزة من الأعمال اليدوية الشاقة إلى النشاط الذهني مجسدا في الإبداع الروائي كلّ سيرة حنا مينة التي تسبق أدبه وتسوّق له بل وتستحوذ على الاهتمام أكثر من أدبه ذاته لا سيما في سياق البحث عن الإثارة الإعلامية، وهي على كثافتها تكفي أيضا للتدليل على مدى التزامه بالإيديولوجيا التي اعتنقها وعبر عنها حيث تبدو صورة الكاتب اليساري القادم من وسط اجتماعي فقير صورة جذابة، لكن هذه السيرة تخلو من المصادر الأدبية التي صنعت تجربة الكاتب أو الكيفية التي استطاع بواسطتها أن يصبح أديبا في الأربعين من العمر، وإنما تتألف القصة فيها مثلما هو مألوف في غيرها من قصص العصامية من ثنائيات ضدية متعدّدة: الفقر والغنى، الجهل والمعرفة، المادة والفكر.

 ويغذي حنا مينة أسطورته الذاتية في الخيال الشعبي بوصيته التي كتبها يوم 17 أغسطس من العام 2008 ونشرتها جريدة «الثورة» في دمشق اليوم التالي، ففيها يذكّر مجدّدا بسيرة كفاحه الأولى «منذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذورٌ للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء»، وعلّق على ذلك الناقد «صقر أبو فخر» في مقال بعنوان: «ماذا يفعل حنا مينة هذه الأيام؟» قائلا: «الواضح أن لغة تلك الوصية موشّحة ببعض العبارات الدينية، وهي غريبة على روائي شيوعي عريق ظل يجاهر بشيوعيته حتى الأمس القريب» وينتهي إلى القول بأن حنا مينة أضحى وهو في التسعينات من العمر «يتقلب في عزلة الألم، أو في ألم العزلة، بعدما رحل جميع أصدقائه، و”تشقلب” العالم كله من حوله».

هكذا إذن تُختصر حياة حنا مينة في كونه كاتبا عصاميا توقّف عن الدراسة منذ المرحلة الابتدائية وعمل أعمالا شاقة لمكافحة القهر الاجتماعي، وانتصر على الشقاء بأن أصبح كاتبا مرموقا، يؤكد الكاتب نفسه في وصيته ما يحفّ بحياته من غموض بقوله: «ليس لي أهلٌ، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا عليّ عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية» وهكذا جعل الكاتب حياته الشخصية مبثوثة في رواياته وإن لم تكن كما هو متعارف عليه في الأعراف الأدبية من جنس السيرة الخالصة أو الرواية السيرية المتفق حولها، فهي روايات أساسا لكن حضور ذات الكاتب فيها من أهم مظاهر انشدادها إلى الواقع الاجتماعي، من خلال إحالات مكانية وزمانية تنتمي إلى عصر الكاتب وحياته على غرار المرافئ والمقاهي ومدن البحر، كما كان شأن نجيب محفوظ في روايات المرحلة الواقعية وغيره من الكتاب الذين لا يبتعد خيالهم كثيرا عن حياتهم وواقعهم. ويلخص حنا مينة هذا التداخل بين حياته وأدبه في قوله «قد تقضى العمر في حلقاته المتتابعة، بشيء جوهري لدي هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس. أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فُرِضَ عليّ من قبل المجتمع، فعشت حافياً، عارياً، جائعاً، محروماً من كل مباهج البراءة الأولى. فإن السياسة نقشت صورتها على أظافري بمنقاش الألم، فتعلمت مبكراً، كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل إغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنساناً تواقاً إلى ما يريد أن يكون، لا إلى ما يُراد له أن يكون»

داخل مدونة حنا مينة النصية عالم روائي واحد تتشابه فيه المناخات وتتكرر يسميه النقاد عالم البحر، لكن الميناء لا يمثل مكانا روائيا يستوعب الأحداث التي يخوضها أبطال الرواية بقدر ما هو موقع رمزي تخوض فيه الذات الراوية معركتها مع الوجود. ولئن كانت الرواية تقوم على هذا العالم المطابق للواقع والذي يلبي شهية النقد الاجتماعي القائم على فكرة الانعكاس بين النص والمجتمع فإنها تقوم أيضا على فكرة البطل وصورته الخارقة، فهو العمود الفقري الذي تتحلق حوله الأحداث وتتجمع، هكذا هو «مفيد الوحش» في «نهاية رجل شجاع» الرواية الأكثر شهرة بعد أن تم تحويلها العام 1993 إلى مسلسل تلفزيوني ناجح وهكذا هو «زكريا المرسنلي» في «الياطر» أهم رواية كتبها حنا مينة من وجهة نظر كثير من النقاد يعتبرون أنه لم يكتب بعد أكثر من ثلاثين عنوانا إلا رواية واحدة.

عامر بوعزة