حادثة عين السنوسي

حادثة عين السنوسي

قبيل وقوع حادث الحافلة الذي أودى بحياة عدد كبير من الشبان في الشمال الغربي، كتبت مقالا عن حدّة التفاوت الطبقي في تونس والوضع الكارثي الذي أصبحت عليه كل المرافق العمومية، وانتهيت فيه إلى القول بأن الهوّة التي تفصل بين مجتمع الأغنياء ومجتمع الفقراء ستصبح مثل الثقب الأسود الذي يهدّد بابتلاع كل شيء. أرسلت المقال إلى المجلّة وفي داخلي قناعة بأنني منذ فترة ليست بالقصيرة صرت أكرّر الفكرة ذاتَها في كل المقالات المعنية بالشأن العام والحياة السياسية، ما يورث نوعا من الإحساس باللاّجدوى. الفكرة ذاتها تتكرر مع تغيير طفيف في الصياغة بتغير المناسبة وحدّة الوجيعة. فمرّة نكتب عن وفاة رضّع في مستشفى عمومي، ومرّة أخرى نكتب عن انقلاب قطار في الشمال، مرّة نكتب عن انقلاب شاحنة تحمل مزارعات إلى الحقول، ومرّة أخرى نكتب عن سقوط حافلة من علوّ شاهق وعلى متنها عصارة شباب الوطن. تتغير التفاصيل والموت واحد، ويتغير شكل النص والفكرة ذاتها تطلّ من بين السطور!

نفعل ذلك لأن السيناريو الذي يحيط بالكارثة يتّخذ أيضا شكلا نمطيا يمكن دائما التنبؤ بما سيؤول إليه، فكثير من الموتورين سيحوّلون مجرى النقاش في فضاءات التواصل الاجتماعي إلى التفاوت الجهوي ومسؤولية بورقيبة وبن علي دون سواهما، وكأن التسع العجاف الماضيات محض هباء، أو خارج نطاق المسؤولية!، ويسارع رهط آخر من مواقع السلطة إلى التبشير بإعلان نوايا تتكرّر فيها نفس العبارات: الشروع في كذا، والإذن بكذا…، مع الإشارة إلى أن هذه الوزارة أو تلك لم تقصّر في شيء والإيحاء بأن لا رادّ لقضاء الله، وفي قضية الحال غيّروا مجرى النقاش من حديث عن البنية التحتية المتخلّفة إلى حديث عن السياقة الرعناء، ومن حديث عن عزلة الشمال الغربي وافتقاره لأساسيات التنمية إلى حديث عن قطاع تنظيم الرحلات الداخلية وما يوجد به من إخلالات، هذا فضلا عن المحاولات المفضوحة دائما لوضع البيض كلّه في سلّة واحدة بتعويم المسؤوليات في خطاب فضفاض عن الحسّ المدني وواجبات المواطنة، إذ يقال: إن المسؤولية مشتركة ولا تتعلّق بالحكومة وحدها!،  ويتزامن كل ذلك مع الإعلان عن تشكيل خلية أزمة ولجنة تحقيق لامتصاص الصدمة ومعالجة الاحتقان ظرفيا والباقي يتكفل به الزمن، فبعد أيام قليلة فقط يدخل كل شيء طيّ النسيان ويعود المتفرجون إلى شاشاتهم في انتظار كارثة أخرى..

قال أحد الخبراء الذين شاركوا في البحث عن الطائرة الماليزية المفقودة منذ خمس سنوات ولم يُعثر لها على أثر: «لقد اكتشفنا عشر ثغرات يمكن أن تكون كل واحدة منها سببا كافيا لوقوع كارثة ما»، وهذه قاعدة أساسية في كل الحوادث الدامية حيث تفضي التحقيقات دائما إلى اكتشاف سلسلة من الهفوات، وراء كل هفوة منها جهة واضحة يمكن تحميلها المسؤولية، وهذه الهفوات قد لا يتخيّل أحدٌ أن تجتمع في لحظة واحدة، لكنها -وهنا تكمن سخرية الأقدار- تجتمع فعلا: حُفَر الطريق وسرعةُ السّائق وصعوبةُ المنحدر وضعفُ الفرامل وعمر الحافلة، وتعذر وصول مرافق الحماية المدنية بسرعة وقلّة عدد سيارات الإسعاف وعدم توفر تجهيزات في المستشفيات المحلية، وكل ما سيسفر عنه البحث…، وهكذا لن يكون وراء الحادث وضراوته مسؤول واحد بل عدة مسؤولين موزعين على قطاعات مختلفة، وهو ما عبّر عنه المخرج السينمائي الكبير عاطف الطيب ببراعة مؤثرة في فيلمه الشهير «ضد الحكومة» حين جعل المحامي يطالب بمحاسبة الحكومة كلها ويصرخ بكل قواه في قاعة المحكمة «أغيثونا».

الفكرة التي تتكرّر دائما ولا محيد عنها، ملخّصها أن تراجع الخدمات العمومية هو عنوان الفشل السياسي الذريع، ولا معنى للديمقراطية إذا لم تكن سببا في تحقيق سعادة الإنسان. ونحن نعاين هنا تراجعا كبيرا في مجال النقل والصحة والتعليم، والتجهيز والقضاء والبيئة. هذه القطاعات كلها تزداد تخلّفا من يوم إلى آخر، ولم يعد ينفع معها ترقيع أو إصلاح، بل تتطلب كلها مشاريع إعادة بناء عملاقة، كما إن العامل البشري يلعب في هذه الكوارث المتلاحقة دورا حاسما بالإهمال والتقصير والتسويف والإرجاء وتجاهل مطالب الناس وتعويم الأولويات الملحّة في المجادلات السياسوية والمهاترات الإيديولوجية، لقد أصاب بنية التفكير والقيم ما أصاب بنية الطرقات والسكك، وهي أيضا أضحت في أمسّ الحاجة إلى إعادة بناء بغاية تأصيل قيم العمل والمواطنة في النفوس من جديد. فالحافلة والطريق ونظام الرحلة وبقية التفاصيل ليست قضاء ولا قدرا بل هي كلها مجتمعة أدلة لا تقبل الشك على فشل الدولة والمجتمع معا.

يجدر بنا في قضية الحال أن ننتبه إلى الثقل الرمزي الذي يحفّ بحادثة سقوط الحافلة، فقد أضحى الشباب المليء بكل أسباب الحياة وهو رمز المستقبل لقمة سائغة للموت بسبب هذا التخلف القاتل، وإننا نتدحرج كلنا شيئا فشيئا إلى هاوية بلا قرار فأغيثونا، أغيثونا، أغيثونا..