حملات نظافة ودهن وتزويق تطال المعالم الأثرية

حملات نظافة ودهن وتزويق تطال المعالم الأثرية

لا أحد يستطيع أن يفسّر لك بدقّة كيف تجري الأمور الآن في تونس، وسوف تصطدم وأنت تحاول تفكيك الظواهر الغامضة من حولك بعبارات جاهزة على غرار «الشباب الثوري»، «مجموعات الفايسبوك»، «الشعب يريد». وهي عبارات تزيد الغموض غموضا وتجعل الأمر شبيها بتفسيرك الماءَ بالماء.

تردّدت هذه العبارات بكثرة في سياق الحديث عن الصعود الصاروخي للرئيس الجديد في الانتخابات الرئاسية بشكل لم تتوقعه النخب، ففي آخر لقاء معه قبل الصمت الانتخابي الذي سبق الجولة الأولى حدّد يوسف الشاهد منافسيه المباشرين ولم يذكر قيس سعيّد رغم وجوده على مدى سنتين كاملتين في نتائج سبر الآراء، بما يؤكد أن العائلة السياسية التقليدية تشبثت بالإنكار إلى آخر لحظة، ولم تتفطن لوجود إمكانات حشد أخرى خارج الأحزاب. لهذا نشطت كثيرا نظرية المؤامرة في الفترة الفاصلة بين الجولتين، وتركزت خصوصا على الدلالات التي يوحي بها وجود مجموعات مجنّدة في الفايسبوك لإنجاح شخص بعينه، ولماذا هي مغلقة؟

بعد الانتخابات اكتسحت المدن حملات منظمة للنظافة والدهن وخدمة البيئة. كما لو أن الوعي قد استيقظ فجأة، ومن الواضح أن لهذه المجموعات ذاتها دورا طلائعيا في تنشيط هذه الحملات وتغذيتها كي تنتشر عدواها بشكل عنكبوتي، بالتوازي مع نشر رسائل عن «الوعي الشبابي» و«اللحظة الثورية» و«العودة إلى يناير 2011»، وعن «صلاح الرعية بصلاح الراعي» الخ، ما يعطي الانطباع بأن هذه النشاط التطوعي الذي يوحي بالعفوية إنما يندرج في سياق خلق مناخ إيجابي ملائم للرئيس الجديد كي يباشر مهامه على رأس الدولة وهو مطمئن إلى وجود جيش ميداني على أهبة الاستعداد لكل الاحتمالات، ومن يخرج الشباب لحملات النظافة يمكنه أن يخرجهم للتظاهر والعصيان!

الأسباب التي تدعو إلى الريبة والحذر من هكذا أسلوب في إدارة الشأن العام عديدة، أولها أن هذا السيناريو ذاته قد عشناه سابقا، وتذكر بذلك

أجواء 2011 في تونس

أجواء 2011 في تونس

مقولة العودة إلى أجواء الثورة في 2011، فالانضباط المواطني تلته حملات النظافة والتزويق ثم جمع الملابس المستعملة للّاجئين في مخيّم الشوشة، قبل أن يتطور الأمر إلى نصب الخيام الدعوية والنهي عن المنكر في المكتبات وقاعات السينما والمسارح ومعارض الفنون، وإن كان أصحاب هذا الوعي الثوري قد لعبوا آنذاك بوجوه مكشوفة، وانتهى كثير منهم في الشعانبي أو الموصل أو الرقة.

ثانيا، إن أنشطة الدهن والتزويق التطوعية في المدن والقرى تجري خارج إطار السلطة والمجتمع المدني، ومن المعروف أن الجمعيات هي الإطار المناسب لهذه الحملات وينحصر عملها في مساعدة الوزارات والبلديات لا الحلول محلها، كالمساهمة في حملات التشجير والنظافة وصيانة المدارس، لكننا اليوم أمام أنشطة ميدانية يتمّ التخطيط لها في الفايسبوك، بعيدا عن أنظار السلطة، ودون الحاجة إلى التعامل معها، وهو ما نبّهتْ إلى خطورته وزارة الشؤون الثقافية في بلاغ أصدرته بعد انتشار صور من مختلف مناطق الجمهورية تؤكد أن حملات الدهن والتزويق أخذت تشوّه المعالم الأثرية. فهل الأمر مجرد اندفاع تلقائي وإفراط في التحمّس لفكرة «الطهارة» أم إعلان رمزي عن تخليص الشارع من سلطة الدولة وبسط هيمنة «الشباب» عليه؟

                ثالثا وأخيرا، استفاد الرئيس الجديد كثيرا من مجموعات الفايسبوك الغامضة هذه، لكنه ينكر معرفته بها ويؤكد عدم تبنيه ما يروج باسمها، وهو ما يجعلنا أمام وضع غريب فالعنف اللفظي الذي يمارَس باسم الدفاع عنه يبدو خارجا عن السيطرة، نحن أيضا في حاجة أكيدة إلى معرفة من يقف وراء هذه المجموعات ومن يمولها وكيف تتحكم في الشارع إذ بعد فرض نظامها الجمالي في دهن الأرصفة وتشويه التراث لا يستبعد أن تفرض علينا نظامها الأخلاقي، فضلا عن قدرتها الواضحة والبادية إلى العيان منذ الآن على تجريم الرأي المخالف وتحريم النقد وممارسة الاستبداد، ويُقدم كل ذلك للتونسيين على طبق شهي من النوايا الحسنة يختصرها شعار «الشعب يريد» وهو شعار حمّال أوجه لأنه مجتزأ من سياقه الأصلي، ويشبه كثيرا وقوفك عند «ويل للمُصلّين».