إضراب البريد التونسي

إضراب البريد التونسي

بعد ساعات من الوقوف في طابور حلزوني يمتدّ من الشارع حتى الشباك رقم 3 تعلمك موظفة البريد أن الدينار الالكتروني الجديد المخصّص للتسجيل الجامعي لا يمكن أن يقتنيه إلاّ صاحب الشأن نفسه، وتدعوك إلى التنحّي كي تفسح المجال لمن يقف بعدك. تحاول أن تتمالك أعصابك كي لا تنفجر في وجهها، وتعلمها أن هذا هو اليوم الثاني الذي ينقضي سبهللا، فقد جاء صاحب الشأن بنفسه في اليوم السابق وقيل له «أرجع غدوة»، وأنه لا شيء يمنع صاحب الشأن من القدوم مجددا لو كان على يقين من أن الأمر سيتمّ، فتقول لك ببرودة أعصاب تغبطها عليها: إن وزارة التعليم العالي أرسلت إلى مؤسسة البريد قسطا فقط من أسماء الطلبة وأنهم في انتظار الأقساط الأخرى، تسألها: وقتاش؟ فتقول لك: لا أعرف!

عند هذا الحدّ يمكنك أن تسحب كرسيا وتجلس مانمأمام أجةنتحخنن أمام أقرب حمار يمكنه الإصغاء إلى هواجسك، فتسأله: بالله عليك يا سيدي، ألم تكن الأمور في السنوات الخوالي تجري بشكل أفضل؟ هل التقدم التكنولوجي يعني السير إلى الوراء؟ أليس أيسر على الطالب أن يدفع معاليم الترسيم مباشرة في الجامعة التي ينتسب إليها عوضا عن هذا الدينار الالكتروني الذي صار مجرّد الحصول عليه من المشقة بمكان؟ ثم ألم تُجعل التكنولوجيا للتخفيف عن المواطن وعن الإدارة، ولتقطع مع هذه الطوابير الطويلة التي لا تنتهي، وهذا الوقت الضائع الذي يتبدّد سدى في الانتظار، وهذا الضجر، وهذا العنف، وهذه المرارة التي تخيم على المكان..

ثم أي حكمة هذه التي تجعل التسجيل الجامعي لا يتمّ الا بطريقة دفع واحدة، أعني ببطاقة الدينار الالكتروني التي تحمل اسم الطالب ذاته؟ أليس ممكنا أن تستخلص الوزارة أموالها كما تفعل شركة الكهرباء أو الماء أو وزارة المالية وغيرها من المؤسسات الحكومية والخاصة باستخدام مختلف وسائل الدفع البنكية حتى تيسر على الناس قضاء شؤونهم؟ أفهم جيدا أن الحكومة تمنح مؤسسة البريد امتيازا حصريا يجعلها في منأى عن المصاعب المالية التي تعاني منها سائر المؤسسات العمومية لكن أليس من واجب البريد والحال تلك أن يطور خدماته باستمرار حتى يكون أهلا لهذا الامتياز ولا يتعامل مع الناس بمنطق «كول والا طير قرنك»!

يهزّ الحمارُ رأسه للتعبير عن تعجبه مما يسمع، فتواصل سرد شكواك قائلا: يا عزيزي، ها أنا أمامك الآن، مجرد مواطن بسيط لا حول لي ولا قوة، لست مسؤولا نقابيا من ذوي الحناجر الطنانة ولا سياسيا من ذوي الكروش الكبيرة والأفكار الرنانة، أستطيع أن أبصم لك بأصابعي العشرة أن مؤسسة البريد متخلفة عن عصرها رغم ما يقال عن موازناتها المالية الجيدة! لأنها مكتفية بما لديها وتعتقد فيما يبدو أن لا حاجة لها إلى التطور والتحديث لأنها تتمتع بامتيازات حصرية تحميها وتوفر عليها مشقة المنافسة، وليذهب المواطن إلى الجحيم!، نعم يا عزيزي إنه الجحيم، أسبوع كامل من الإضراب عن العمل، الآلاف من البشر المحبطين والمفلسين أمام مكاتب البريد المغلقة، أرامل وعجائز ومتقاعدون، أكلهم الضجر في انتظار الحصول على الجراية وهي كما تعلم أيها الحمار الموقر حق من حقوقهم وليست منحة أو عطية تستحق أن يهرق من أجلها ماء الوجه. ولو لم تكن الدنيا تسير بالمقلوب لقلت لك إن إيصال الجرايات إلى أصحابها وهم في بيوتهم واجب وطني تكريما لهم وتوقيرا لشيخوختهم وليس ذلك بصعب على مؤسسة البريد لو فكرت في حرفائها بدل التفكير في موظفيها فقط! لكن ماذا تريدنا أن نفعل وهم ينشبون في الغنيمة أظفارهم ويتقاسمون الكعكة بلا هوادة، وها أنت ذا الحمار الذي ينسب زورا وبهتانا إلى الحمق والغباء تفهم بلا شك أن التطور والتخلف سمتان لا علاقة لهما بالفقر أو الثراء! إنها مسألة دماغ يا حماري العزيز لكنهم لا يفقهون!