نقلت وكالة «رويترز» للأنباء عن مصادر تجارية في أوروبا خبرا يتعلّق باقتناء تونس نحو 92 ألف طن من قمح الطّحين اللّين، وقدّمت تفاصيل ضافيةً عن هذه المناقصة الدولية التي كانت قد انفردت أيضا بالإعلان عنها في وقت سابق، فذكرت آجالها، ومراحل تنفيذها، والأسعار التي تمّ اعتمادها. والسؤال الوحيد الذي لم تجب عنه هو: لماذا تستورد تونس القمح من أوروبا؟

تمّ تداول الخبر في شبكات التّواصل الاجتماعي بكثير من السّخرية والاستغراب والحوقلة، فقد تزامن مع توجيه وزير الفلاحة التّهاني للشعب التونسي بصابة قياسية من القمح، وهي نفس العبارة التي استخدمها رئيس الحكومة عند زيارته ديوان الحبوب للاطّلاع على المجهودات المبذولة من قبل كل أجهزة الدولة بما فيها الجيش الوطني لإجلاء المنتوج، وقد اعتبر أنها «أكبر صابة في تاريخ تونس»، ونفى كلّ ما يُتداوَل حول وجود كميات ضائعــة أو عرضة للتلف، متحدّثا عن بوادر انفراج في عمليات التّجميع والنقل.

 ولا شكّ أن رئيس الحكومة عندما قال هذا الكلام كان يفكّر في ضرورة التصدّي لأولئك الذين تناقلوا صور كميات هائلة من القمح ملقاة في العراء قدّام «السيلونات» الممتلئة، وأشاروا إلى أن بارونات التوريد وصيّادي الصفقات الكبرى لا يرضيهم البتة أن تحقّق البلاد الاكتفاء الذاتي أو ما يشبهه من الحبوب، فقال بصريح العبارة: «إن صابة هذا العام ستمكّن من تقليص الواردات، وسيكون لها تأثيرات على الميزان التجاري والعُملة»، وهكذا أعلمنا ضمنيا أن «أكبر صابة في التاريخ» لا تكفي لسدّ رمق الشعب، ففضلا عن دور الحبوب في تنمية صناعة الخبز التي تعتبر واحدة من أهم الصناعات الوطنية، لا بدّ منها لتشغيل معامل الكسكسي والسميد والمقرونة، ومحلات صنع البيتزا والحلويات، والآلاف المؤلفة من حوانيت الفطايرية وباعة الفريكاسي، وحتى عربات الملاوي في الأحياء الشعبية، الفارينة بـأنواعها المختلفة هي سيدة الموقف هنا، ولا صوت يعلو على صوت الطحين.

لكن باستثناء المعلومات المقتضبة التي ظهرت بسرعة في الفايسبوك ثم اختفت في زحمة الأحداث المتلاحقة، لا أثر لهذه المناقصة الدولية في الإعلام المحلي ولا في وسائل الاتصال الحكومي، وما من إجابة تشفي الغليل، أما موقع ديوان الحبوب على الانترنت فيمكن أن يفيد تلاميذ الصفّ الثاني من التعليم الثانوي جيدا في درس التربية المدنية المتعلّق بالمؤسّسات العمومية، إذ يقدّم لهم بلغة خشبية راقية سهلة التناول نبذة عن هذه المؤسّسة ومجالات عملها وأصناف المتدخلين معها وشركاءها الدوليين. وفي الركن الإخباري فقط نجد معلومات جافة عن تقدّم عمليات تجميع الصّابة، وهي المدخل الوحيد المتاح لمن أراد تجاوز خطاب السخرية والمؤامرة والبحث عن أسباب معقولة تجعل «مطمورة روما» تستورد القمح من أوروبا في وقت يشاهد فيه الناس كميات مهولة من القمح ملقاة أمام المخازن، فالمنتوج الوطني من القمح الليّن الذي يعرف بقمح الخبز لا يتجاوز 8% من مجموع الصابة فيما يتجاوز القمح الصلب 74%، ويمكن لأي مسؤول حكومي أن يفسّر لو أراد عملية الاستيراد بشراهة التونسيين للخبز وحبّهم الأسطوري للمُعجّنات. لكن المسألة سرعان ما طويت في زحمة الأحداث…

تأتي هذه القصّة لتعمّق لدينا الشعور بأن قطاع الاتصال الحكومي والإعلام المؤسساتي لا يفعل شيئا البتة في مواجهة أزمة الثقة المستفحلة بين الرأي العام والإدارة، ويترك الحبل على الغارب، فقبل ذلك أثار خبر تتويج الديوانة بجائزة أفضل مؤسسة عمومية في الحوكمة ومكافحة الفساد سيلا من التعليقات الساخرة والمتهكمة لأنه قُدّم للجمهور بشكل جافّ لا يراعي الانطباع السائد لدى العموم عن هذه المؤسسة، وحلّ أزمة الثقة مطلب أساسي، فلا معنى للانتقال الديمقراطي في ظلّ الشعور السائد بأن الفساد قدر محتوم، لا سيما أن  المشتغلين بالصحافة لم يعد يستهويهم اليوم تحت مظلّة الحرية والاستقلالية الوقوف إلى جانب المؤسسات العمومية بقدر ما تبدو لهم مهاجمتها المادة الأكثر إثارة للجمهور.