برهان بسيس

برهان بسيس

ينبغي أن تتسلّح بكثير من اليقظة والفطنة والذكاء كي لا تقع في فخ الإعجاب ببرهان بسيس وأنت تشاهده يدافع عن قضية من القضايا أو يتكلم في مسألة من المسائل. لقد بدا في أحدث ظهور تلفزي له مع سمير الوافي في برنامج «وحش الشاشة» محتفظا بكامل قواه الخطابية، وتجلت لياقته البلاغية في القفز مرارا وتكرارا على الفخاخ المنصوبة له بإحكام، والمشي على الحبل كما يفعل بهلوان السرك الماهر، وتحويل كل سهم يوجه إليه نحو مسار آخر، وبدا رغم كل المطبات التي وقع فيها أثناء تجربته في السياسة والإعلام خبيرا في تقنيات الاستحواذ على قلوب المشاهدين (بعد مصّ أمخاخهم)، لقد بدا بكل بساطة جاهزا لخوض أكثر من مباراة أخرى، لا سيما بعد أن أنهكت المباراة الحالية أعتى اللاعبين وأكثرهم شراسة.

حين تجلس لمشاهدة برهان بسيس يتحدث ستقنع نفسك أن ما يدفعك إلى ذلك هو الفضول، وأنك تبحث ربما عن إجابة مقنعة لسؤال بديهي: هل مازال عنده ما يقول؟ لكنك ومن بعد مضي الدقائق الأولى سترتخي وتتلاشى كما يحدث لأطفال المدارس الابتدائية حين يزورهم مرة في السنة ساحر منوم يمكنه أن يخرج حمامة من علبة كبريت، تشاهده فينتابك نفس الإحساس الذي يعتريك حين ترى حلقة من مسلسل «أمي تراكي» في برنامج «ذاكرة التلفزيون»، أو حلقة من «شوف لي حل» أصبحت تعرف كل كلمة فيها وتسبق الممثلين إلى قولها ومع ذلك تشاهدها وتتظاهر بأنك نلت نصيبا من التسلية، لمجرد أنهم يتظاهرون بالرغبة في تسليتك! وأنت محقّ في ذلك وفي كل فرجة سياسية تشاهدها بعد أن انتفت الفائدة وانعدمت الجدوى، وأصبح بؤس الواقع أشدّ من أن تداويه مُسكّنات التلفزيون ووعودُ السّاسة وتخاريف الانتخابات. لكن مشاهدة برهان بسيّس يتحدّث تُشبه السياقة تحت تأثير المنوّم، من ثمة كان لا بدّ من اليقظة والانتباه.

ليس تحاملا على برهان بسيس، بل لأننا جربناه وجربنا وجربناه، والحق أن كل كلامه السابق في القنوات العربية دفاعا عن نظام بن علي حتى الليلة الأخيرة قبل سقوطه كان موجها إلى الداخل قبل الخارج في مبناه وفي معناه، وكان تأثيره على الأمخاخ التونسية أشد وأقوى من قدرته على زعزعة مواقف المعارضين «المناوئين». ثم إن عودته إلى التلفزيون بعد الثورة وبعد أن حنث اليمين الذي أقسمه بعدم الظهور مجددا اقترنت لدى العامة بانبهار كبير سببه ما يمتلكه الرجل من معرفة بأحوال السياسة والسياسيين وما يتحلى به من ثقافة واسعة في ظلّ البؤس الإعلامي السائد وهيمنة أنصاف الموهوبين وعديمي الخبرة على الساحة التلفزية، وسيظل الأمر كذلك إلى أن يرث الله تونس ومن عليها، فلا هو يتغير ولا هم يتطورون.

في سؤال عن الأموال التي كسبها من مهنته «متحدثا رسميا أو غير رسمي عن ساسة لا يتقنون فن الاتصال» حوّل برهان بسيس وجهة السؤال إلى دفاع عن الحلم والطموح مستسخفا كل الذين ينشرون ثقافة الفقر والبؤس والقناعة، فصرف نظر المتفرجين عن خلفية السؤال المتعلقة بمشروعية هذه المهنة وأخلاقيتها، وفي الوقت الذي كنت بلا شكّ تُحيي فيه في قرارة نفسك انتصاره للشباب ودفاعه عن حقهم المشروع في ركوب المرسيدس بدل الاكتفاء بلعن الظلام كان هو بصدد القيام بعملية تبييض لغوية لكل أمواله التي كسبها من التكلم نيابة عن الساسة والدفاع عن خيارات سياسية ظالمة دفع ثمنها الباهظ قطاع كبير من الشعب، ولم يجب عن السؤال المركزي: هل هذه مهنة مشرفة؟ وهل أن هذا الشباب ينبغي أن يفعل أي شيء حتى لو كان مخالفا لقواعد الشرف ليحقق صعوده في السلم الاجتماعي؟

برهان بسيس

برهان بسيس

وفي سؤال عن سرّ إفراده من قبل السبسي الأب بعفو خاص في إشارة خفية من السائل إلى علاقة هذا العفو الاستثنائي بالسبسي الإبن وما إذا كان ذلك داخلا في صراع الحيتان الكبيرة) وجه برهان بسيس الأنظار إلى أن الرئيس محام في المقام الأول، ثمّ اضطر لاحقا إلى الموافقة على ما جاء في السؤال من إيحاءات لكن بطريقة مواربة لا يجوع معها الذئب ولا يشتكي الراعي، وليس متاحا لعموم المشاهدين إدراك ما تنطوي عليه من معان، إذ اكتفى بالقول بأنه دخل السجن وخرج منه بقرارين سياسيين!

وهكذا، كما إن الساحر لا يخرج في الحقيقة  حمامته البيضاء من علبة الكبريت الصغيرة، بل يتقن الإيهام والتمويه ليخرجها من مكان آخر لا تراه، يفعل برهان بسيس حين يلعب بالمفردات والصور والتشابيه، إنه يدرك جيدا متى يحرك يديه ومتى يرفع صوته ويخفضه، يقتنص اللحظة المواتية ليغرس نظراته مباشرة في عيني الكاميرا، أو يرسم على وجهه علامات الهزء والسخرية أو اللامبالاة، يتقن جيدا فن الاتصال الجماهيري حيث تتعاضد اللغة مع الإشارة لتصنع من الجسد الواحد مهرجانا كاملا للخطابة، ويجعل من الهزيمة انتصارا مشرفا، ولو أتيح لك يوما أن تشاهد بالصورة البطيئة حركات الساحر لاكتشفت أن عبقريته الحقيقية تكمن في قدرته الفائقة على تحويل نظرك إلى الاتجاه الذي يريده هو حتى يصنع في اتجاه آخر لا تراه ما يفاجئك، فتخرج دائما من هذه الحفلات المدرسية بنصيب كبير من الدهشة والانبهار، وهو يقتات من هذه الدهشة ويتكسب من ذلك الانبهار، ولهذا السبب بالذات عليك دائما أن تحاذر من الوقوع في حالة الاقتناع التام بما يقول برهان بسيس والبحث عن الجهة التي أخفاها عنك حين صرف نظرك إلى الاتجاه الذي يريده هو! فمع هؤلاء المتحدثين اللبقين ينبغي دائما التساؤل: أين هو الفخ؟