زين العابدين بن علي

زين العابدين بن علي

فجأة اجتاحت مواقعَ التواصل الاجتماعي والصحف الالكترونية في تونس عبارةٌ نُسبت إلى الرئيس الأسبق «زين العابدين بن علي» قيل إنه وضعها على حسابه في «الواتساب» ويقول فيها: «أيها الوطن الناكر للجميل لن أمنحك عظامي». هذه العبارة التي لا يمكن أن يتثبت من صحتها إلا من يمتلك رقم الرئيس المعزول الشخصي على هاتفه الجوال نُشرت مع خبر مقتضب عن تدهور حالته الصحية بشكل جدّي هذه المرة بعد الشائعات الكثيرة التي ظلّت تظهر بين الفينة والأخرى منذ رحيله المفاجئ عشية الرابع عشر من يناير العام 2011 إلى السعودية.

وبصرف النظر عن طبيعة الجهات التي سعت إلى نشر هذا الخبر في هذا التوقيت بالذات وقطعت على التونسيين اهتمامهم بالفرجة التلفزيونية الرمضانية ومعاركهم التافهة عن أخلاق «أولاد مفيدة» فإن جزءا من الاهتمام الكبير بهذا الخبر يعود إلى تزامنه مع خطأ مهني ارتكبه أحد موظفي القناة الوطنية الثانية في أول يوم من أيام رمضان وأدى إلى عرض برنامج ديني قديم للشيخ عمر عبد الباري الذي كان إماما خطيبا وعضوا بمجلس المستشارين، أفاض فيه في الدعاء للرئيس وزوجته ليلى واصفا إياها بالسيدة الفاضلة على عادة الدعاة والأئمة في ذلك العصر. هذا الخطأ المهني أقيل بسببه مدير التلفزيون العمومي، لكنه يبدو الآن في ضوء الأخبار الوافدة من السعودية عن حالة بن علي الحرجة «رسالة من السماء»، ما يضفي على الموضوع صبغة إعجازية تستهوي القلوب الضعيفة في مثل هذا الشهر الذي يصدق فيه الناس كثيرا المعجزات. وفعلا كان لأجواء شهر الرحمة والعفو والغفران تأثير في تفاعل التونسيين مع هذه العبارة إذ خلّفت عند كثير منهم إحساسا بالمرارة سببه هذه القطيعة الأبدية بين الزعيم وشعبه(!) ولم يتردّد البعض في نشر صورة «بن علي» إلى جانب القائد القرطاجني العظيم «حنبعل» في إشارة ساذجة وركيكة إلى أن الوطن ناكر للجميل فعلا..

عبارة واحدة كان ينبغي أن يقولها الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي طيلة السنوات التي أعقبت هروبه من تونس هي عبارة اعتذار للتونسيين، لكنه لم يفعلها ولم يعتذر. لا نريد اعتذارا عن جرائم الرشوة والاستيلاء على الملك العام أو تحقيق منفعة للأصهار فتلك قضايا أوكل أمرها إلى جهاز العدالة الانتقالية، نريد اعتذارا عن جرائم كبرى لا يمكن محو آثارها إلا بعد أجيال وأجيال، جرائم ارتكبت في التعليم والثقافة والمجتمع والتلفزيون عوّضت منظومة القيم بعقلية الغش والفساد والربح السريع وهي عقلية لم تذهب بذهاب بن علي بل استفادت كثيرا من مناخ الحرية بعد رحيله!

لكن هذه العبارة تأتي -يا للأسف- في وقت يشعر فيه قطاع كبير من الشعب بأن زمن بن علي هو الأفضل، حجتهم في ذلك أسعار البيض واللحوم الحمراء والأسماك والزيت المدعم والموز والحليب، لقد أدت الأزمة الاقتصادية إلى جعل كثير من التونسيين يفكرون ببطونهم ولذلك فهم لا يهتدون إلى الاستنتاجات الصحيحة، فإخفاق الحكام الجدد في إدارة البلاد لا يعني أن «بن علي» كان أفضل، بل يعني فقط أنهم فاشلون. أما التعاطف مع بن علي تحت هاجس «الواجب الإنساني» ففيه بلا شكّ إهانة عظيمة للشهداء الذين سقطوا في الشوارع أيام الثورة، وبدمائهم تحررنا، لا سيما أن الجنرال لم يتنازل في عبارة الوداع هذه عن صلفه، فلا أحد يمكنه أن يعتبر واجبه تجاه الوطن جميلا حتى حنبعل ذاته، ثم إن عظام الرئيس أطال الله عمره ومتعه بالصحّة والعافية في ظلّ الخراب العظيم الذي صرنا إليه ليست شيئا يستحق أن نشعر إزاءه بالأسى.