المفسدون في الأرض

المفسدون في الأرض

أبهج التونسيين كثيرا البلاغ الذي أصدرته النيابة العمومية بخصوص تحجير السفر على المدعو «سواق مان»، فعندما كانت قلوبهم حزينة بسبب حادثة انقلاب شاحنة فلاحية أودى بحياة اثني عشر شخصا من فقراء هذا البلد المعدمين جيء به إلى قناة «الحوار التونسي» ليستعرض أمامهم بشكل رقيع ثروته و«قصة نجاحه»، والمنشط يفتعل الدهشة و«الضمار» ويؤكد أن الله غفور رحيم.

لكن يبدو أن سعادة المتفرج الحزين و«الغلبان» على الدوام جعلته لا يلتقط من الخبر الا الجزء الذي يشفي غليله ويهمل الجزء الأهم الذي يكشف حقائق مغيّبة، فالنيابة العمومية تؤكد في هذا البلاغ أن «قاضي التحقيق بالقطب القضائي المالي تعهّد بإذن منها منذ حوالي خمسة أشهر بفتح بحث تحقيقي ضدّ هذا الشخص من أجل جرائم متعلقة بالتحيّل وغسل الأموال بناء على تقرير من اللجنة الوطنية للتحاليل بالبنك المركزي. كما تقرّر تجميد مبالغ مالية على ملكه في حدود 17 مليون دينار».

وهكذا يتّضح بمراجعة الخبر كاملا أن القناة المذكورة استضافت شخصا مطلوبا للعدالة وعرضت وقائع تتّصل بقضية ما يزال البحث فيها جاريا منذ خمسة شهور، ما يُعدّ تدخلا سافرا في سير القضاء ومحاولة للتأثير فيه والنيل منه، حيث تعمّد المدعو «سواق مان» منذ حلوله بالأستوديو وانتهاء موجة التصفيق العارمة المرحبة به الإشارةَ إلى أن الدولة التونسية حجزت مبلغا قيمته سبعة عشر مليارا قام بتحويله من أحد حساباته إلى تونس، وانبرى يوهم المتفرجين أنه بإمكانه أن يفتح لهم أبواب الجنة على مصراعيها لولا تعطيلات الإدارة التونسية، فهو ينوي مثلا بناء مسجد وملجأ للأيتام وهذا طبعا لأنه يحبّ هذه البلاد ويشفق على أهلها المعدمين الذين يذكرونه بطفولته الصعبة القاسية ولهذا لا يريد أن يرسل أمواله إلى أي دولة أخرى، مؤكدا أنه تاب توبة نصوحا بعد أن «عمل الحبس» وأن ثروته التي لا حدود لها حلال زلال.

لقد أثارت هذه الاستضافة كثيرا من اللغط في الفايسبوك، أولا لانعدام الحسّ الإنساني الذي يمثله تزامنها مع حالة الحداد غير المعلنة، وثانيا لما تمثّله من سفالة صورةُ الضيف وهو يعانق مضيفه في نهاية الحلقة مُظهرا للجمهور «كلصونه» الأزرق، وثالثا لمحتوى الحوار ذاته حيث حاول المدعو «سواق مان» أن يسوّق للجمهور قصة نجاحه وتوبته وكيف فتح الله عليه حتى صار ثريا لا يعرفه لثروته حدودا، ما يسيل لعاب المتفرجين لا سيما من المراهقين الذين تستهويهم أغاني الراب والنماذج البشرية العجيبة التي صنعتها، وقد خصّص الجزء الأوفر من البرنامج لاستعراض هذه الثروة وفحص مكوناتها، ودعي للغرض خبير في الألماس اجتهد في إقناع المتفرجين بأن ما يرونه من حلي لا يشبه في شيء تلك الحلي المزيفة التي يعرضها الباعة المعدمون تحت أقواس باب البحر، وتلاحقهم الشرطة البلدية ليلا ونهارا لفرض الانضباط وبسط سيادة القانون.

هذا اللغط الفايسبوكي أمر محمود بل لم يبق غيره نداء استغاثة وهو يدل على أن التونسيين ما يزالون يقاومون الرداءة رغم كل ما فعلته وما تفعله هذه القناة من أجل التطبيع مع البذاءة والانحطاط، فليست هذه هي المرة الأولى التي ينزل فيها «سواق مان» ضيفا على برامجها، ويمكن أن نعتبر في سياق حسن الظن بالمنشط الذي يبدو مجرد «صبّاب ماء على اليدين» إشارته في مفتتح الفقرة إلى أنها «المرة الأولى» من قبيل السّهو غير المتعمد وجلّ من لا يسهو، أو من قبيل التحمّس الزائد، أو قلّة المعرفة أصلا، إذ سبق أن قدمت نفس القناة المدعو «سواق مان» في برنامج آخر وعزفت على نفس الوتر فتفنّنت في إظهار ثرائه الفاحش مدعوما بلقطات من استضافات مماثلة في قنوات فرنسية للتأكيد على ما يحظى به من شعبية هذا الذي يوصف دائما بأنه «مثير للجدل».

لكن المثير للاستغراب حقا هو صمتُ الجهات العليا عن هذا الدور المشبوه لوسيلة إعلام باتت بفضل تسامح التونسيين وطيبتهم تحظى بمتابعة واسعة النطاق رغم ماضيها وما يحفّ بها من شبهات. فبلاغ النيابة العمومية يأتي ردّا على ترّهات المتهم التي يريد من خلالها إظهار الدولة التونسية في مظهر المعتدي الآثم على الأموال الأجنبية والاستثمارات. وذات القناة فتحت من قبل كل منابرها للبكاء على حال تونس عندما صنفت ضمن البلدان الأكثر عرضة لمخاطر تمويل الإرهاب وغسل الأموال، ما يقيم الدليل على أن هذا الإعلام البديل لا يستند إلى مبدأ واضح في التعامل مع قضايا النزاهة والشفافية والأخلاق إنما يفترس بشراهة من كل الموائد ولا شيء يمنع أن يكون حضور «سواق مان» لتبييض صورته وإحراج السلطات القضائية مدفوع الأجر.

 في قضية كهذه لا يتعلق الأمر بالنيابة العمومية أو الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري بل الأمر من مشمولات الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، حيث يتطلب الواقع التونسي اليوم إعادة تعريف الفساد وإعطائه معنى أشمل من مجرد الاختلاس من المال العام، الفساد ثقافة وتربية وسلوك ليست الرشوة إلا مظهرا من مظاهرها، ولا يمكن للحلول الأمنية والقضائية أن تقضي على الظاهرة وتقتلعها من منبتها إذ لم تتصدّ بقوة للعابثين بقيم الشرف والمفسدين في الأرض.