ضريح الشاعر

ضريح الشاعر

تعطينا حادثة الاعتداء على قبر الشاعر الصغير أولاد أحمد صورة نموذجية عن الوضع المتردي الذي بلغه الإعلام تحت مظلّة الحرية، وهي صورة قائمة على مفارقة جوهرية، ففي الوقت الذي يفترض فيه أن تختصر حرية التعبير الطريق إلى الحقيقة جعلته أكثر تشعبا من ذي قبل.

الصور التي نشرت في البداية واضحة وتتكلم دون تلعثم. إنها ليست في حاجة إلى زعيم يساري يتذكر فجأة جذوره الماركسية ليجعل من شاعر الوطن قضية في سوق النخاسة الإيديولوجية. فما كتبه أولاد أحمد يمثل ضمير البلاد وروح الشعب، وكل ما قاله يتمحّض في تيمة واحدة هي «الحرية»، ولم تعد قصائده وإن كانت سياقاتها الأصلية مشحونة بالتوتر والتدافع بين الأفكار والأفكار المضادّة تعبر عن لحظتها الضيقة بل تجاوزتها إلى الآفاق الواسعة لتعبّر عن قيم مطلقة.

الصور تقول إن قبر الشاعر الخالد عومل معاملة مهينة واعتدي على قيمته المعنوية العالية سواء أكان ذلك في نطاق عملية ترميم أو بفعل مضمر من فاعل مجهول ينكرونه دائما حتى وقد أتى على الأخضر واليابس وهدم نصف البلاد لا قبر الشاعر فحسب! الصورة تعبر عن الحقيقة ورغم ذلك تضاربت الأقوال حولها، ففي تلفزيون أول يظهر وزير الشؤون الثقافية وهو يعبر عن أسفه لما حصل متهددا المجرم المفترض بالويل والثبور، وتؤيده بروح توافقية عالية رئيسة البلدية التي لا يمكن الا أن تكون متأسفة حقيقة لما حصل، فانتماؤها إلى حزب إسلامي  يجعلها تدرك أكثر من غيرها أن الاعتداء على الموتى حرام مطلقا وأن ما فعلوه في حياتهم الدنيا الفانية هو الآن بين يدي الرب لا بين يدي كمشة من الرعاع والسفلة يؤذيهم الشعر ويصيبهم في مقتل، ويظل الشاعر عندهم مطاردا حيا أو ميتا، ثم إنها وهي شيخ المدينة تأسف بلا شك حين ترى أن الموتى لم يسلموا من العنف، ولعلها أن تتساءل بكل حرقة في أعماقها عما يمكن أن يكون عليه مصير الأحياء!

في قناة تلفزية أخرى يظهر نفس الوزير في نفس المقبرة، لكن يبدو هذه المرة وهو يصغي إلى عامل جيء به خصيصا ليشرح لمعاليه ما حدث بلغة خشبية منمقة، ويعلمه أن زوجة الشاعر بدأت أشغال ترميم وصيانة، وأن الصور التقطت للقبر وهو «مغلق للأشغال» نافيا أن يكون المكان قد دنسته أياد قذرة، ويبدو الوزير متفهما وربما ناسيا التصريح الذي أدلى به إلى القناة الأخرى حول جريمة وقعت في الجلاز، وحتى إن لم يكن قد نسي فلا ضير ولا أهمية لهذا التضارب فالقضية سوف تنسى بعد يومين على أقصى تقدير في زمن لا تصمد فيه أشدّ القصص غرابة وتأثيرا وإيلاما أكثر من يومين لا سيما إذا ما أعلنت السلط عن نيتها فتح تحقيق إداري وقضائي للكشف عن ملابساتها.

يمتد هذا المأزق التواصلي السريالي إلى البيان الرسمي ففي كثير من المواقع ظهر نص جاء فيه أن وزارة الشؤون الثقافية يهمها «توضيح أنه في إطار إعادة تهيئة وترميم عدد من القبور بإشراف بلدية تونس تم استهداف قصيد شعر كُتب على لوحة رخامية خارج الضريح الذي لم يتعرض لأي نوع من الأضرار» وبمعاينة الصفحة الرسمية للوزارة نجد النص وقد اختفت منه الإشارة إلى عمليات الترميم، ومن الواضح جدا أن الوزارة تريد بهذا البيان الهلامي الرخو أن تطمئن أحباء الشاعر وعائلته وأصدقاءه على سلامة ضريح الاسمنت و الجثة، فالمعتدون قصدوا الاعتداء على الشعر لا على الشاعر وأصابت همجيتهم الحروف والمعاني لا الأشكال والمباني.

هناك إذن روايتان لحقيقة واضحة للعيان لا تستحق أكثر من رواية واحدة، الرواية الأولى تقول إن ما حدث إشاعة سربها زعيم حزب سياسي، أما الرواية الثانية فتؤكدها زوجة الشاعر نفسها حين تقول إن القبر يتعرض دوما لاعتداءات لطالما سعت هي بنفسها إلى التكتم عنها لأسباب تهمّ كرامة العائلة، لكن بلغ السيل الزبى هذه المرة. هكذا تضيع الحقيقة بين أرجل المتدافعين، وتتشعب المسالك إليها رغم أنف التكنولوجيا وحرية التعبير وتعدد وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وهلم جرا..

الحقيقة أن قبر الشاعر لم يعامل كما ينبغي أن يعامل أي قبر مطلقا بما هو رمز للفناء ومختصر للأبدية وجزء من تصورنا المقدس لنهاية الدنيا، لقد تعلمنا منذ الصغر آداب الدخول إلى المقابر وكيف نتفادى ونحن نمشي بينها أن ندوس على قبر رضيع مجهول ومنسي فما بالك بقبر شاعر أعطى روحه للبلاد وارتفع نجما في سمائها بعد أن أصبحت القيم التي تغنى بها هو وسائر أبناء جيله والأجيال السابقة وقودا لثورة صنعها الشعب وأبهر بها العالم.

ورغم ذلك تهيمن على السلطة ومن يجري في ركابها رغبة في نفي حدوث ما حدث وطمس عين الحقيقة، والحال أن كل الناس يعرفون من هم أعداء الشاعر وكيف لا يتورعون في حرق زوايا الأولياء وقبور الشعراء كما تتملكهم الرغبة الشديدة في هدم قاعات السينما وتقويض المدارس العلمانية وجرّنا جرّا إلى الجنة الأفغانية كما يصورها لهم خيالهم الشاذ، كلنا نعرف هذه الحقيقة ولسبب ما تعمل جهات عليا على تعويمها في الضباب وترجيح حكاية الترميم.

لكن حتى إذا ما تعلق الأمر بصيانة وترميم، فالصور تكشف عن روح وندالية نذلة، وهذا غير مستبعد في بلاد أصبحت فيها المقابر مرتعا للسكارى والحشّاشين ولا يأمن في شوارعها الأحياء فما بالك بالموتى وهم ينتظرون القيامة. ثم إن ترميم قبر لا يعني بناء قصر في الجنة أو تعبيد طريق من باب سويقة إلى مانهاتن حتى يتطلب أياما وأسابيع وربما أعواما، إنها مسألة سويعات قليلة فقط، ولو حدثت في كنف الإحساس بالمسؤولية وتحت وطأة الخضوع والاحترام لا لمقام الشاعر بل لمقام الموت لما استطاعت الكاميرا الظفر بصور مهينة كهذه أصبحت لقمة سائغة للمتدافعين الذين ضاعت الحقيقة بين أرجلهم وهم يتدافعون.