عامر بوعزة

عامر بوعزة

في غياب إحصاء رسمي محدّد للمنشورات الصادرة في تونس بعد سقوط نظام بن علي، يمكن التأكيد بالملاحظة أن قطاع النشر شهد طفرة كمية هائلة، وأن الكتب التي تفاعلت بشكل مباشر مع الثورة وما يتعلّق بها من أحداث استحوذت على النصيب الأوفر من هذا القطاع، يدخل في ذلك كل ما يتصل بكشف أسرار النظام السابق واستعراض ما خفي من وقائع فيه على سبيل المذكرات الشخصية أو القراءات التحليلية، أما المجال الإبداعي فقد شهد كذلك وفرة في العرض لا سيما في مجال الرواية إذ تُباهي دور نشر عدة بإصداراتها ضمن ما تسميه “الرواية السياسية” أو “أدب السجون”، وهي غالبا روايات كتبها سجناء سياسيون سابقون ومنهم من لم يُعرف في مجال الكتابة الأدبية من قبل وتتحدّث عن ظروف السجن والاعتقال والتعقب اليومي بعد السّراح، ويظلّ هذا النوع من الروايات خارج مدار النقد الأدبي لصلته أكثر بالحقل السياسي وسياق محاسبة العهد السابق والتعريف بما نسب إليه من قمع تحسبا لإمكان عودته في شكل جديد. لكن نيل رواية “الطلياني” جائزة البوكر العالمية للرواية العربية سنة 2015 حوّل مؤشر البوصلة من جديد إلى تونس وفرض على الأذهان سؤال الرواية في تفاعلها مع المنعرج السياسي الكبير الذي عاشته تونس في 2011، وهو سؤال أدبي نقدي بامتياز إذ تمثل الطلياني واحدة من عشرات الروايات التي ظهرت والتي كانت وقائعها على صلة وثيقة بالثورة وما بعدها بأشكال مختلفة وقد يحتاج أمر دراستها كلها حيّزا من البحث يتجاوز هذا المجال مما يفرض في محاولة التصدي للاتجاهات الجديدة للرواية التونسية تخيّر النماذج أولا ثم النظر في الخصائص السردية لهذه النصوص وتمحّص التأثيرات السياقية فيها.

وإزاء مدوّنة سردية تمتاز بالثراء وتعدّد الاتجاهات الفنية يصبح العامل الذاتي أمرا مهما في اختيار مادة البحث ولعله أن يكون الخيط الرابط بين النماذج المختارة التي ستعبر عن اتجاهات مختلفة لكنها لا تغطي كامل الطيف بل هي مؤشر على ما يزخر به من حيوية وغنى على أن يكون ذلك مدخلا للإحاطة بكامل المدونة في سياق آخر، وقد اخترنا ثلاثة من النصوص الروائية الجديدة التي ظهرت زمنيا في مرحلة ما بعد الثورة، أولها رواية “حارة السّفهاء”[i] لعلي مصباح والثانية هي “الطّلياني”[ii] لشكري المبخوت أما الثالثة فهي “نادي العباقرة الأخيار”[iii] لكمال العيادي، وهي روايات أولى لأصحابها الذين عرفوا باهتمامات أخرى كالقصة القصيرة والشعر والصحافة والترجمة والنقد الأكاديمي[iv] قبل دخول عالم الرواية، ولئن كان علي مصباح قد نصص على أن روايته كتبت قبل عشر سنوات من زمن نشرها بما يفهم منه أنها استفادت بوضوح من مناخ الحرية الذي فرضته الثورة، إذ لم يكن ممكنا نشر عمل يتناول نظام بن علي دون الدخول معه في مواجهة، فإن شكري المبخوت لا يخفي في مختلف المقابلات الصحفية أن روايته قد خرجت دفعة واحدة في زمن قصير نسبيا لا يتعدى الأشهر وقد حدث ذلك في ظلّ حكم الإسلاميين بعد الثورة ويربط دائما دوافع الكتابة بطبيعة الأزمة السياسية التي عاشتها البلاد في تلك الفترة وهو ما يجعلها نتاج المرحلة ويضعها في تفاعل مباشر مع المستجدّ السياسي الراهن رغم أن أحداثها تقع في السنوات التي سبقت قدوم بن علي للسلطة في 1987، أما كمال العيادي فيقدّم في نادي العباقرة الأخيار طرحا مختلفا كليا وجديدا إذ لا يضع تاريخا محددا كتب فيه النص بل يزعم على لسان الراوي أشرف الحباشي الذي هو نسخة من الكاتب ذاته أن هذه الرواية قد استغرقت كتابتها ثلاثين عاما بدافع تحدي أستاذ اسمه المنصف الوهايبي درسه في معهد المنصورة بالقيروان في الثمانينات.

حارة السّفهاء: الهبوط إلى الحضيض

يb7cf57d0-c52d-4eed-9c55-ca48e5443a81فتتح علي مصباح روايته الأولى “حارة السّفهاء” بما حدث في قصر قرطاج ليلة السابع من نوفمبر سنة 1987، ويتخيل كيف حُمل الرئيس المخلوع في تلك الليلة إلى أسره على مِحفّة ليبدأ عهد جديد في البلاد بعد ثلاثين عاما من حكم رجل الاستقلال، وضع ذلك المشهد الرواية في سياق زمني محدد ولكن فصل الغداء يعتبر البوابة المركزية لعالم علي مصباح السردي، ففي بيت تونسي عتيق يجتمع كافة أبطال الرواية ، صابر فؤاد سعيد مهدي خولة دوجة الخ، وهم يمثلون عائلة تونسية تقليدية لكنهم مختلفون في توجهاتهم ومشاربهم، ومنذ البدء نقرأ الاختلاف في تقييم الانقلاب السياسي الحاصل يومها بين الإخوة: “لكن كيف يمكن أن تأمل في تغييرات حقيقية وإرساء سياسة نظيفة من واحد يأتي الحكم اغتصابا؟”[v] ، هذا المشهد الأول المليء بالتساؤلات المشروعة يقابله في الرواية مشهد “القطيعة” الذي يأتي في الخاتمة والذي انتهت فيه الحرب الباردة بين الاخوة الأعداء إلى قطيعة، يحاول فؤاد أن يستعمل نفوذ أخيه صابر لمعرفة مصير مهدي الأخ المُتدين الذي ألقي عليه القبض فتنفجر العائلة: “إذن طز فيك وفي الديمقراطية وفي دولة المؤسسات والحداثة وكل هذه الأكاذيب التي تنبح بها أنت وأمثالك من الببغاوات، كلّ ما أريده منك الآن هو أن تقول لي أين هو المهدي وأن تكف أذاك عن الناس[vi]. ومن السهل على القارئ أن يتبين الرمزية السردية في صورة العائلة التي تمثل المجتمع والانفجار الذي شقها بفعل موقف السلطة من التيار الديني. لم يقدم علي مصباح موقفا من قضية الإسلام السياسي لكنه طرح في نسيج سردي محكم كل الأسئلة التي ظلّت تعتمل وتتشكّل في الساحة السياسية والثقافية الوطنية منذ لجوء السلطة في بداية التسعينات إلى الحلّ الأمني في استئصال الظاهرة لا سيّما بعد أن أدى اعتماد الإسلاميين العنف إلى ربط التدين بالتطرف وهو ما بنى عليه نظام بن علي سياسته الأمنية كلها. الرواية تسرد ما حدث في المجتمع بشكل نموذجي مصغر فتلتصق بالواقع والتاريخ من خلال التجذر في المكان، الأحداث كلها تقع داخل مدينة تونس وفي مقاهيها وشوارعها، وعناوين الفصول تنطلق من الأبواب العتيقة في المدينة العربية القديمة حيث تقيم عائلة الحاج مصطفى، باب الفلة ، باب سعدون باب العلوج باب الخضراء سيدي محرز باب بنات الخ  لكن إلى جانب هذا الخط السردي الواقعي ثمة في الرواية خطّ سرديّ ثان عجائبي تقع أحداثه في قصر قرطاج ومحوره الرئيس ومستشاروه، يبتكر الكاتب هنا شخصية القرد أبوقيس الذي اتخذه الرئيس مستشارا له والذي كان وراء الذهاب برأس السلطة بعيدا في التسلّط وجنون العظمة، يسير الخطّان السّرديّان بتوازٍ حتى النّهاية ولا يلتقيان لكن التّواشج بينهما واضح فما يحدث في أعلى هرم السلطة يلقي بظلاله على الواقع، والخطان مختلفان فنيا فبينما يتجه الخط الأول إلى الرواية الواقعية الجديدة يبدو الخط الثاني أقرب ما يكون إلى الواقعية السحرية ويبدو تناوله شخصية الدكتاتور أقرب ما يكون  إلى عوالم ماركيز وأستورياس.

الطلياني ورواية الواقع

Talianiتناول شكري المبخوت في رواية “الطلياني” الأحداث التي عاشتها تونس قبل مجيء بن علي إلى السلطة في 1987، وقد فسّر في إحدى حواراته الصحفية سبب اختياره جنس الرواية بقوله “ما أهمّ من السياق هو أنّ الموضوع الذي أردت أن أتناوله لا تستوعبه في نظري إلا الرواية لأنها جنس أكول يهضم كل شيء ويقوم على الصراع والتحول لذلك فرض جنس الرواية نفسه باعتباره شكلا للموضوع الذي اخترت تناوله في الطلياني[vii]، الرواية تفتتح بمشهد صراع بين عبد الناصر الطلياني والإمام في موكب دفن والده وكل ما سيأتي من أحداث وشخصيات يقود القارئ إلى الإحاطة بهذا الصراع الذي يأخذ في النص أشكالا متعددة، الطلياني مثقف يساري يغادر الجامعة مثقلا بالأحلام الثورية التي تدور في فلك الحرية والعدالة الاجتماعية ليجد نفسه شيئا فشيئا في فلك السلطة القائمة يعمل في الصحافة الرسمية، والرواية تحكي من خلال ذلك عن التقارب السياسي الذي حصل بين اليسار والحزب الدستوري في بداية عهد بن علي والذي شكّل حِلفا ضدّ الإسلام السياسي، من ثمة تُـفهم العلاقةُ بين زمن السرد وزمن الكتابة في حديث المبخوت عن روايته واعتبارها كتبت في “سياق فيه كثير من الآمال وأيضا من المخاوف”[viii] . شكلا تطرح الرواية من جديد سؤال العلاقة بين السرد والواقع أو إشكالية الجنس الأدبي، فهي رواية تشدها إلى الواقع التاريخي أحداث سياسية واجتماعية تبدأ من وقائع الخميس الأسود في 1987 وتصل حتى انقلاب 7 نوفمبر 1987 وما تلاه من أحداث أدت إلى انفجار الصراع بين الإسلاميين والسلطة الجديدة، والكثير من الشخصيات الروائية التي ارتبط بها عبد الناصر الطلياني لها نظير في الواقع العيني، يشهد بذلك تطابق الأسماء أو الإيحاء بالتطابق ضمن حيلة سردية تنهل من الواقع بما يقرب النص السردي إلى السيرة الذاتية والرواية التاريخية، لكن لا يخلو الأمر من ترميز يبدأ من لحظة الصدام بين الطلياني والإمام ويتطور عبر النص في صور الانتهاك الجسدي وما يرمز إليه من قهر.

نادي العباقرة الأخيار: رواية القيروان

تثير رواية “نادي العباقرة الأخيار” من جديد إشكالية الرواية العربية في علاقتها بالسّيرة الذاتية، فالكتاب يحمل على الغلاف لفظ “رواية” وهو يُنزّل النص في جنس مُحدد على خلاف كتاب “اعترافات الفتى القيرواني” مثلا الذي بقي جنسه الأدبي عائما بين القصة القصيرة والمقال والرواية باعتماد لفظ محايد فضفاض “نصوص”، لكن سرعان ما يصبح هذا الوضوح جزءا من لعبة سردية غامضة سيكتشفها القارئ عندما يتبيّن التطابق الواضح بين جزء كبير من حياة الراوي “أشرف الحباشي” والكاتب كمال العيادي. يسرد الراوي وقائع حياته في رواية قرّر أن تكون رسالة تُكتب في ثلاثين عاما لأستاذه الشاعر المنصف الوهايبي الذي درّسه العربية في معهد المنصورة بالقيروان وأعرض عنه ذات يوم قائلا : “الكتابة تمرّس باللّغة”، فتضمنت هذه الرسالة وقائع حياته في موسكو وبرلين والقاهرة ويخلص في أعقابها إلى القول بأن “الكتابة تمرّس باللّغة وحرث في الحياة”، وقد احتاج في التدليل على هذا الجزء الثاني المضاف إلى عبارة الشاعر الأستاذ ما يفوق الثلاثمائة صفحة من الأحداث والوقائع والتفاصيل هي حصيلة ثلاثين عاما من الحياة، وتتضمن هذه السيرة الذاتية كثيرا من الأحداث التي يعرف القارئ بوثوق أنها جزء من حياة كمال العيادي ذاته على غرار تنقله بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا ومصر وإشرافه لفترة طويلة على القسم الأدبي لموقع “دروب”، كما أن الشخصيات التي ذكرت في الرواية تنتمي إلى الواقع وتتطابق معه على غرار شخصية الشاعر التونسي المنصف الوهايبي الذي درّس في بداية حياته المهنية في معهد المنصورة بالقيروان دون أن نعرف بالتدقيق هل وقعت بينه وبين العيادي الحادثة التي كانت في الحيز المتخيل منطلق أشرف الحباشي في التحدي (وليس مهما ذلك)، كما يُخصص العيادي في الرواية حيّزا مُهما للمترجم التونسي علي مصباح الذي التقاه الحباشي في برلين وغير ذلك من الأحداث التي تنزل فيها الرواية إلى مستوى تسجيلي يتطابق فيه السرد الروائي مع التأريخ الذاتي قبل أن تعاود الطيران مجددا في سماء الخيال مع شخصيات متخيلة مثل الفرعون “سنجار الفالق” والألماني العجوز “جورج ويلي”، وقصة الصندوق الأزرق الذي يعوم منذ الأزل في سديم الكون بحثا عن بارقة حياة أخرى. هكذا تقوم لعبة السرد على التناوب بين جنسي الرواية والسيرة، لقد كتب كمال العيادي الكاتب المعروف رواية بطلها أشرف الحباشي الذي يكتب رسالة هي بمثابة السيرة الذاتية، غادر الحباشي أسوار القيروان بعد أن استفزته عبارة أستاذ اللغة عن الكتابة وضرب في أصقاع الأرض ثلاثين عاما ليقول إن الكتابة أيضا حياة إلى جانب كونها لغة. هل يحتاج الوصول إلى هذه النتيجة كلّ هذا الجهد؟ أليس من الممكن لأي ناقد أو دارس أدب أن يؤكد أن الأدب العظيم إن هو الا نتاج حياة عظيمة، وأن استثناء نجيب محفوظ الذي وصل إلى العالم دون أن يغادر أسوار قاهرة المعز من الصعب أن يتكرّر أو يقاس عليه؟ يبدو كمال العيادي متيقظا إزاء هذا السؤال، فلم يكن في سفره عبر ثلاث من أهم عواصم العالم مجرّد سائح بل كان ينظر إلى ما وراء الحياة، هكذا ظهر له فجأة في ليلة من ليالي موسكو الفرعون المتخيل “سنجار الفالق” كما ظهر له في برلين الوهم الكبير جورج ويلي ليخبره عن نادي العباقرة الأخيار وتكتمل الدائرة التي بدأت من القيروان وانتهت في القاهرة، هرم خوفو بكل ثقله الرمزي ودلالته الفائقة على العبقرية والخلود هو محور النص وأساسه، والكتابة التي هي فعل مقاومة للموت، وطريق للخلود تصبح المرادف الموضوعي للحياة، فالرواية وفق أشرف الحباشي تحتاج ثلاثين عاما وهي حياة كاملة كما تحتاج أمكنة مختلفة وشخصيات غنية بالرؤى كما تحتاج الحياة تفاصيل ضرورية لا غنى عنها لتكتسي العمق المطلوب وتمنح صاحبها امتياز العبقرية.

كمال العيادي

كمال العيادي

ما هو التحدّي الذي وضعه أشرف الحباشي أو كمال العيادي ساعة مغادرته القيروان في اتجاه العالم؟، إنه بكل بساطة يقدّم نصا مختلفا عن نصوص القيروان، “مدرسة القيروان” التي اعتبرت في منتصف الثمانينات اتجاها أدبيا قائم الذات في تونس يعتبرها وهما وهو يحتاج إلى البرهنة عن ذلك إبداعيا، كل تلك الرحلة، كل هذا النص، لتقويض أسطورة القيروان كما صاغتها الذائقة النقدية والإبداعية لشعراء تونس وكتابها في فترة الثمانينات، ومعنى هذا أن رواية العيادي لا تنتمي إلى مدرسة القيروان بل تنتمي إلى القيروان ذاتها. رواية تجسد مقولة ماركيز عن أن الطريق إلى العالمية يبدأ من القرية، وأن القيروان ليست سجنا للكاتب بين أسوار اللّغة كما هو شأن شعرائها ربما، ولن يكون أدباؤها مثل جمل بروطة الذي يؤتى به صغيرا ليظلّ سنوات طويلة يطوف ويطوف قبل أن ينتهي به الحال ذبيحة يتبرّك بها. العيادي يكتب القيروان في روايته بشكل مختلف، بل لنقل إن القيروان لم تكتب من قبل كما كتبت في أعمال كمال العيادي وتحديدا في روايته “نادي العباقرة الأخيار”.

من هذا المنطلق، نعني الاختلاف الأدبي حول مدرسة القيروان وتباين الرؤى بين العيادي الرحالة والوهايبي المستقرّ، أنشأ العيادي نصا هو أشبه ما يكون برسالة الغفران للمعرّي، سنكتشف في النص أن أشرف الحباشي بارع في اللغة العربية وتحديدا في درس رسالة الغفران التي يعتبرها أساس الرواية العربية، وسيحاكي كمال العيادي هذا النص المؤسس، فرسالة ابن القارح إلى المعري هي الكلمة الطيبة التي تعرج بصاحبها إلى السماء السابعة وهي حيلة المعري السردية  للنفاذ إلى الأبدية في المعراج الأدبي والطواف بجنة أدباء عصره، أما أشرف العيادي في نادي العباقرة الأخيار فقد أخرجته كلمة المنصف الوهايبي من جنة القيروان إلى العالم لينشئ رسالته هو وخلال هذه الرحلة التقى أدباء عصره وذكر الأسماء صراحة باستثناء الصحفي الذي أشار إلى أنه كان يتقاضى من سيف الرحبي في مجلة نزوى مائة دولار طيلة سنوات بينما نال هو منذ المقال الأول أكثر من ثلاثمائة دينار، فقد اكتفى بهذا التلميح الساخر دون التصريح بالاسم بينما طرح قضايا مهمة على غرار ما فعل المعري في رسالته الشهيرة كقضية الترجمة في علاقة بترجمة علي مصباح لأعمال نيتشة أو الأدب العربي المترجم إلى الألمانية في حديث دار بينه وبين المتخيل جورج ويلي عن كاتب سوري معروف في الغرب بينما هو لا يمثل أي قيمة في العالم العربي من وجهة نظر العيادي على لسان بطله أشرف الحباشي.

الرواية يمكن تقترب كثيرا من مناخات الأدب الساخر بل يوحي توجه الراوي بالخطاب إلى القارئ في لعبة الاستدراج بأسلوب عزيز نسين لكنها رواية ذهنية تطرح ثنائية “الفساد والكون” بالمعنى الفلسفي العميق والموت والخلود كما تناقلتها الميثيولوجيا، ويبدو استعمال الراوي لفظ “الرحلة” في وصف نصه موفّقا لتجاوز حدود النص الأدبي المسجون في الكتاب واعتبار موضوع السّرد رحلة الكاتب الوجودية بأكملها.

استنتاجات

تندرج النصوص الثلاثة التي اعتمدناها في مقاربة الاتجاهات الجديدة للرواية التونسية في سياق طفرة كمية ونوعية تشهدها الساحة الإبداعية في تونس بعد الثورة، ويمثل سقوط حاجز الخوف النقطة الأهم في تشكيل مضامين المرحلة، وقد ارتبطت المدونة الروائية تاريخيا بالتّحولات السّياسية الكبرى فكانت رواية الستينات مرتبطة بحركة التحرر الوطني وبناء الدولة الحديثة كما تفاعلت رواية السبعينات مع إخفاق التجربة الاشتراكية وبداية التوجه الاقتصادي الليبرالي والتحولات الثقافية والاجتماعية التي عاشتها البلاد مع تغير التركيبة الطبقية والديمغرافية. في هذا السياق يأتي تطور الرواية بعد حدوث الثورة.

هذه المدونة الروائية اتجهت إلى التاريخ السياسي وهو ما نجده بوضوح في “حارة السفهاء” و”الطلياني” حيث يصبح عهد بن علي إطارا خصبا لأحداث وتفاصيل وشخصيات على صلة بمجريات الأحداث التاريخية وتجلياتها الاجتماعية، هذا التشابه في معالجة نفس الإطار الزمني يمكن تجاوزه بالتّخييل الرّوائي الذي يختلف ويتفاوت من تجربة إلى أخرى، فبينما يقف عند حدود الرواية الواقعية بشروطها الفنية المعروفة لدى المبخوت نجده عند علي مصباح يتجاوز الواقع المحسوس إلى الواقعية السحرية كما عُرفت في روايات أمريكا اللاتينية.

ورغم تباين اتجاهاتها الفنية فإن نماذج البحث لا تخلو من الرمزية، التي تتكثف في نقاط محددة من نسيج السرد، أما القاسم المشترك بين الروايات الثلاث فهو توظيف الواقع والتاريخ في النسيج السردي المتخيل بدرجات متفاوتة فلا يتجاوز عند علي مصباح مستوى الأمكنة ومع المبخوت يتطور إلى مستوى الشخصيات والإيحاء بتطابقها مع أشخاص حقيقيين من الواقع لكن يتطور الأمر أكثر مع كمال العيادي ليصبح الأشخاص الحقيقيون أبطالا روائيين. ثمة أمر آخر مشترك يغلب على هذه النماذج وعلى الرواية التونسية عموما، وهو محاسبة الماضي فلئن اعتبرت الطلياني رواية يحاسب فيها الكاتب سيرة اليسار التونسي خلال ربع قرن فإننا يمكن بسهولة أن نعتبر نادي العباقرة الأخيار رواية تحاسب الوسط الأدبي ومدرسة القيروان تحديدا، وخلافا لعلي مصباح الذي لم يكتب روايته من موقع إيديولوجي محدد يبدو المبخوت منساقا وراء تجربته الخاصة أثناء لعبة السّرد، ويبدو الأمر واضحا أكثر مع العيادي الذي هو نسخة واقعية من بطله المُتخيّل أشرف الحباشي والذي ضمّن نصّه الرّوائي مواقف صارمة ومحددة من مجمل القضايا التي خاضها.

هوامش:

نشرت هذه الدراسة ضمن عدد خاص من مجلة الاستهلال المحكمة التي تصدر في المغرب، تم تخصيصه للسرد التونسي العام 2016

[i]  علي مصباح، حارة السفهاء، رواية ، منشورات الجمل ألمانيا ط1 ، 2013
[ii]  شكري المبخوت، الطلياني، دار التنوير، ط1، 2014
[iii]   كمال العيادي، نادي العباقرة الأخيار، سلسلة آفاق عربية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر ، ط1، 2015
 [iv] ترجم علي مصباح أعمالا عديدة لفريديريك نيتشة قبل روايته الأولى “حارة السّفهاء” أما كمال العيادي فقد نشر قبل “نادي العباقرة الأخيار” مجموعات قصصية،  و لم ينشر شكري المبخوت قبل “الطلياني” غير أعمال أكاديمية.
[v]  علي مصباح، حارة السفهاء ص 52
[vi]   نفس المصدر ص 333
 [vii] التونسية، حوار مع شكري المبخوت
[viii]  المرجع السابق