البحري الجلاصي

البحري الجلاصي

باستضافتها أشخاصا يزعمون الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة تكون الإذاعات والتلفزات الخاصة قد انطلقت على بركة الله في «تشليك» هذه الانتخابات. وفعل «شلّك» بكل المعاني التي يحملها في الذهنية العامية هو الفعل الوحيد الذي يصف بدقّة وموضوعية ما تفعله هذه القنوات في كثير من المجالات، نستثني هنا بعض الحالات التي خرجت فيها عن القاعدة، وهي قليلة مقارنة بما تفعله في إطار نشر ثقافة الفساد.

من هذه الاستثناءات حلقة استضاف فيها علاء الشابي امرأة طيبة القلب أرادت تكريم الفنان جعفر القاسمي اعترافا بما قدمه لها ولابنها المريض من دعم معنوي، فقد كانت تلك الحلقة درسا في التضامن الإنساني، وأعادت إلى التلفزيون وجهه الجميل الذي فقده في السنوات الأخيرة وهو يلهث وراء النجاح السريع.

كما يذكر في هذا السياق برنامج «الحقائق الأربع» الذي كشف فيه فريق صحفي استقصائي عن مقاطعة «طالبانية» في العمق التونسي. يذكر هذا المثال خصوصا للبرهنة على خطورة الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام وتوجيهه، فاستخدام عبارة «المدرسة القرآنية» في وصف هذه المؤسسة حوّل وجهة النقاش في الفضاء العام، وقلّل من أهمية المسألة الأكثر خطورة هنا، إذ أن ما كشفه البرنامج هو في الحقيقة معسكر لتكوين الإرهابيين وحاضنة شعبية عريضة تدعم الإرهاب وتتبناه.

يبدو حينئذ أن استضافة البحري الجلاصي ونزار الشعري ومن لفّ لفّهما في البرامج والمنوعات للحديث عن الانتخابات الرئاسية تدخل في باب «تشليك الديمقراطية»، رغم احترامنا لهذين الرجلين وحقهما في أن يقولا ما يشاءان على صفحتيهما في الفايسبوك، فسواء أكان هذه العمل مقصودا لخلق «الفرقعة الإعلامية» أم لأهداف أخرى فإن النتيجة واحدة، وهي إفراغ الانتخابات من محتواها النبيل، وإيصال رسالة مشفّرة إلى الرّأي العام تقوم على تمييع القضية وابتذالها. وكل حديث تلفزي في الوقت الراهن عن الانتخابات الرئاسية من خارج الدائرة السياسية المعنية مباشرة بالمشاركة الجدية والمنافسة المحتملة يدخل في نطاق تعميم الإحساس بأنها «هزلت حتى بانت عظامها..»، وهو إحساس سيجعل التونسيين يسخرون من الانتخابات ويفرض عليهم المقارنة بين هيبة الوظائف السياسية العليا في ظلّ الاستبداد وما آلت إليه الأمور تحت مظلّة الديمقراطية.

يقف المتفرج اليوم أمام شاشات يحركها هاجس الربح فقط، ويبدو ذلك طبيعيا أمام هشاشة النموذج الاقتصادي للمؤسسة الإعلامية الخاصة، لكن غياب المشروع الثقافي والمسؤولية الاجتماعية يجعل المضامين الإعلامية أحد أهم عوامل انعدام الاستقرار واختلال التوازن في المجتمع، ليس ممكنا فصل مظاهر العنف اللفظي والمادي في الشارع عما يقدم في وسائل الإعلام. فالعلاقة جدلية بين ما يشاهد على الشاشة وما يحدث في الواقع، وها قد أعطت هذه القنوات إشارة الانطلاق لكل من يرغب في أن يعلن نفسه رئيسا للجمهورية كي يصبح نجما ويحصل على نصيب من المشاهدة لن يتمتع به أي مرشح جدي ومحتمل، وسينجر عن هذا «التشليك» استسخاف الانتخابات والعزوف عن الصناديق في الوقت الذي يتوقع فيه أن تعمل وسائل الإعلام من منطلق المسؤولية الوطنية على معاضدة الانتقال الديمقراطي.

إنه مجهود جبار ذلك الذي تبذله وسائل الإعلام الخاصة لجعل الأشياء المحيطة بنا تافهة بلا طعم ولا ذوق ولا مغزى، وهي لا تدّخر جهدا في أن تكون الكلمة الأخيرة للسّفالة والانحطاط، لا أدلّ على ذلك من هذه المعارك التي تفتعلها أسبوعيا بين الفنانين لأسباب تافهة، ولا أدلّ على ذلك أيضا من أن تكون مضامينها صالحة للاستعمال على المدى القصير فحسب، ولا يُتوقّع البتة أن يكون لها صدى أو ذكر بعد سنين لخلوها من أي محتوى إبداعي، كما كان شأن الكثير من الأعمال الفنية والتمثيلية الرائعة التي أنتجت منذ أكثر من ثلاثين عاما وقدّمت في منوعات تلفزيونية وما يزال الناس يتناقلونها عبر الأجيال، فما ينتج اليوم يريد أن يجلب أكثر عدد من المشاهدات على اليوتيوب ولا يعنيه البتة إغناء التراث الثقافي والإبداعي. إنهم غير معنيين بالأجيال المقبلة، ولهذا لا يقدرون خطورة الجريمة التي هم بصدد ارتكابها عندما يبتذلون كل شيء ويفقدونه قيمته.