عبد العزيز الجلاصي

بقلم عبد العزيز الجلاصي

صباح الخير، أولا.
هل نمت جيّدا ليلة أمس؟
كيف كانت السماء عندكم؟
هل أمطرت؟
هنا، الأمطار التي انتظرناها طويلا معا، أطلّت طوفانا، وذهبت على عجل؟
لكن، دعنا من هذا كلّه الآن، وأخبرني:
لماذا استعجلت الرحيل؟
ما زال أمامنا متسع من الوقت كي ننهي حديثا بدأناه قبل أن نخلد إلى قيلولتنا الكسلى، فلا تخذلني إذا.
وعدتني أن تبدأ في كتابة روايتك، وتسلمني مسودّات فصولها فصلا فصلا.
وعدتني أن تعود إلى نصّك الأخير(سأصحو يوما) لتعدّل خللا إيقاعيا شعرتَ به أنت، ولم أنتبه إليه.
وعدتني أن نطيل السهر لنستمع معا إلى (بثينة قويعة) تقرأ لنا “درويش” في “إشراقاتها” على أمواج الإذاعة الوطنية.
كنت ستعزف لها درسك الأول على العود الذي نفضت عنه الغبار منذ أسبوع وجدّدت أوتاره.
منذ أسبوع، أشرقتَ بصوتك وأنت تقرأ لشاعر “الثلاثين عصفورة”؛ صديقنا (عامر بوعزّة) الواقف مذهولا على شفا الهاوية يرقب رحيلا لم يتوقّع حدوثه، بعد أن كنّا في الليلة السابقة نرتّب معه موعدا للقاء شتويّ.
مازال أمامنا متسع من الوقت، لننعم بتقاعدنا، ولنطلق العنان لخرفنا وتصابينا، في بيت نبنيه معا يتسع لمناقراتنا ولعبث أحفادنا…

شهاب بوهاني

شهاب بوهاني

مازال أمامنا متسع من الوقت لتتلو عليّ وصياك، خذ الدهر بأكمله؛ فلكلّ وصيّة حكاية يجب أن تروى… خذ وقتك، ولا تستعجل الرحيل، سأعِدُّ على مهلٍ حقائبنا ونصوصًا لدرويش وبابلو نيرودا والسياب والشاب ريلكه… سأحضر مخطوطات خطواتك الأولى منذ (موسكو: المدينة والقصيدة) في ثمانينات القرن الماضي، إلى (سأصحو يوما على جثتي). دعني أبحث عمّا كتبته هنا وهناك، سأجمع صوتك الموزّع بين المتاحف والإذاعات… سأعدّ علبا للبهارات وزيت زيتون بكر لنطبخ هناك بأنفسنا… سأقطف قبضة من أعشاب الأرض وأزهارها لنرعى حديقتنا هناك بأنفسنا… لا تستعجل فما زال أمامنا عمل نقوم به قبل أن نذهب إلى موعد اتفقت عليه الكائنات.
ما كنت أعلم أنّه الغداء الأخير والكأس الأخيرة، ما كنت أعلم أنّنا سنصحو من قيلولتنا الكسلى من دون أن نعدّ قهوتنا ونترشفها في صمتنا المعتاد….
“قُدْ أنت السيّارة إلى المستشفى فأنا أحسّ بخدر في ذراعيَّ وألم في صدري، لكن لا تسرع فليس في الأمر ما يدعو إلى العجلة… انظر جيدا في المرآة العاكسة وأنت تعود إلى الخلف… لم تنتبه إلى يمينك وأنت تطوف يسارا… آآآآآآآه صدري… لا تسرع…. ندى تقول لك: اسعل بقوّة… لا تتوقّف عن السعال…. انعطف يمينا… خذ أقصى اليسار…. هناك… هذا هو المستشفى… قف هنا.”
نزل وكأنّه ذاهب لاقتناء شيء سريع من محلّ ليليّ، أغلق الباب بهدوء، وتوارى في الممرّ خلف الباب الزجاجيّ لا يتكئ على أحد…
ركنت السيّارة، دخلت مسرعا، سألت عنه، أخذتني الممرّضة إلى الغرفة رقم 3 ، فتحت الباب فرأيت الطبيبة ومن معها يعركون صدره ويضغطون عليه بقوّة لإنعاش قلبه… صاحت ابنته ندى: “أبي بلا نبض… بلا نبض..” أخرجونا من الغرفة وظللنا ننتظر… وصلت منية ووداد، أحمد وهاني وثامر والأطفال والأصدقاء؛ بكاء مكتوم ورعب يسكن الجميع في صمت إلى أن خرجت صديقتنا الممرضة مبروكة قطعت رعبنا بصرخة الموت فانهار الجميع.
أسرعت إلى غرفتك أتفقّد نفسك، أعرك صدرك كما كانوا يفعلون، أوقظك من نومك، أرجوك أن تكفّ عن هذا المزاح الثقيل… انهض سنعود إلى البيت، كلّ الأصدقاء في الخارج سنسهر معا في الحديقة تحت أقدام ليمونتك الباذخة… جسد هامد لكنّه دافئ.. لم يتغيّر شيء.. فلماذا لا تنهض إذا؟ قمْ، قلْ لي: “تصبح على خير”، ثمّ أكمل نومك الهادئ حتى الصباح.
أجبرني الممرّض أن أفتش جيوبك لأخرج بطاقة هويتك وعلبة سجائرك,, ولاعة وبعض أوراق النقود… أدخلوني في مجاهل الإجراءات، وسرقوا مني الدمع والحزن، ولم أنتبه إلا فجرا وأنا أودعه ثلاجة في المستشفى ليقضي ما تبقى من الليل.
أمثلك يودَع في ثلاجة مقيّد اليدين؟! أمثلك لا يقاوم محتجزيه في صندوق ضيّق؟! كيف قبلت بإرسال جسدك في صندوق الطائرة وروحك ترفرف هنا تحت مطر مسقط النادرة؟! كيف قبلتَ أن ترسل جسدك المنهك ليرتاح تحت التراب، وأن لا يسبح نجما يضيء سماءنا ويسامرنا نهايات الأسابيع وأيام الأعياد.
ليلة أمس، كنت عند النافذة تلفحني مياه أمطار غزيرة تهطل على مسقط، في اللحظة ذاتها التي كنت تغادر البيت مخفورا بأحبّتك إلى حيث ينام “زوربا” الذي أنجبك، اقتربت منّي ابنتي “روان”، عانقتني باكية، وقالت لي: “عدني أن تكون أنت منذ اليوم عمّي شهاب”. أرعبني طلبها وأربكني، لكنّني لم أملك سوى أن أعدها.