سيف الطرابلسي كرونيكور في التاسعة

سيف الطرابلسي كرونيكور في التاسعة

لتفسير الزواج العرفي الذي حصل بين قناتي «الحوار التونسي» و«التاسعة»، جرى الإعداد للموسم التلفزيوني الجديد بإطلاق الكثير من الأخبار حول تنقلات المنشطين، واشتغل صُنّاع الإشاعات بمهارة لإضفاء هالة من التشويق عليها، قبل أن يظهر المعنيون بها في الإذاعات للتفنيد والتذمّر من «الصيد في الماء العكر».

هذه الخطّة التسويقية اعتمدت أساسا تقنية «الاستحمار»، فقد استثمرت جيّدا سذاجة يتمتع بها قطاع كبير من المتفرجين تبلغ حدّ الغباء وتؤتي أكلها دائما. فلا شكّ أن الإيحاء بوجود خلافات عميقة في كواليس هذا التلفزيون أو ذاك هو أفضل طُعم يمكن تقديمه لجمهور فضوليّ لا يتردّد أبدا في الضغط على الزرّ الذي سيريه «لحظة سقوط فستان هيفاء وهبي»، وبقدر ما تضمن هذه الخطة للمحتوى التلفزيوني المزمع تقديمه اهتماما شعبيا كفيلا بإرضاء أصحاب الإعلانات تمعن في طمس حقائق لا يريد أحد أن يتحدث عنها:

أولى هذه الحقائق وأهمّها إطلاقا، أنّ المنوّعات التلفزيونية التي تُقدّم اليوم رغم ما يتوفّر لها من تقنيات مذهلة لم ترقَ إلى مستوى ما كان يقدّمه التّلفزيون قبل ثلاثين عاما بإمكانياته القليلة، ولا يُستثنى التلفزيون العمومي في هذا الشأن، فالمنوعات التي تُقدم بنفس الصيغة في مختلف القنوات لا يمكن أن تنافس البتة حلقة واحدة من منوعات نجيب الخطاب عشية الأحد في الثمانينات، لأنها ببساطة تفتقر إلى عنصر مهم في خلفيتها وهو عنصر المسؤولية المجتمعية ولا تحركها الا دوافع الربح السريع أيا كانت تداعيات ما تقدمه على الذهنية العامة في عصر تضاعف فيه تأثير التلفزيون بانتشار وسائل التواصل الاجتماعي والقدرات الهائلة لتناقل الصورة وتخزينها وإعادة مشاهدتها، لقد كانت المنوعة التلفزية في تلك المرحلة التي أصبحت الآن «العصر الذهبي» للتلفزيون القلب النابض للحركة الإبداعية الفنية ومنها انطلقت تجارب مميزة في المسرح والغناء والاستعراض فأنتجت أعمالا فنية خالدة وجعلت من تونس عاصمة للثقافة العربية قبل انتشار الفضائيات، أما منوعات اليوم فتعمل على إنتاج الضّحالة ولا يمكن أن تضيف شيئا ذا بال إلى الذاكرة الثقافية، لقد بلغ الأمر بأحد أبرز منشطي المرحلة حدّ التباهي بأن «التلفزيون البوبال» اختصاص معروف في الغرب، وأنه ليس من السهل على أيّ كان أن ينفذه متجاهلا أنه في تجربته الشخصية قد تجاوز هذا الاختصاص بأشواط وأنه بصدد تقديم «التلفزيون البوردال».

الحقيقة الثانية المسكوت عنها، تتعلّق بفشل تجربة قناة «التّاسعة» في نسختها الأولى، إذ لم تستمر طويلا في تقديم المحتوى الإخباري المنافس، واعتمدت بضغط من جهات التمويل خيار المنوعات الهابطة والثقافة السهلة والاستفزاز للعودة بقوة، وفي غياب أي مبادرات نقدية تتابع هذه التطورات وتفيها حقها من التقييم ذهبت تلك التجربة أدراج النسيان لتكون درسا قاسيا ومعبرا أمام كل باعث قد يفكر لاحقا في الخروج عن الخطّ!

أما ثالثة الأثافي فتتعلّق بهذه الصفقة المريبة التي انتقلت بموجبها مجموعة من البرامج والوجوه دفعة واحدة من قناة إلى أخرى، وبصرف النظر عن خلفيتها القانونية ومشروعيتها الأخلاقية تدلّ هذه الصفقة المبرمة بين «الحوار التّونسي» و «التّاسعة» بوضوح على أن «كاكتوس» باقية وتتمدّد رغم كل الشبهات التي تحفّ بها ورغم أن قضيتها مع التلفزة الوطنية أصبحت أغرب قضية في تاريخ العدالة التونسية ويبدو أن لا أفق لها في ظلّ سلطة الأمر الواقع. كاكتوس غيّرت منذ تأسيسها المشهد الإعلامي بفضل السلطة المادية والمعنوية لبلحسن الطرابلسي صهر الرئيس الأسبق والعلاقات المافياوية المتشعبة التي هيمنت على الإعلام في مطلع الألفية الجديدة بعد فتحه للخواص، فأفرغت المحتوى التلفزيوني في المنوعات والدراما خصوصا من أي مسؤولية مجتمعية، وغرست قيم الإثراء السّريع والتسلية المخدرة ونشرت مضامين العنف والتنطّع على القيم السائدة فيما ظلت توهم الناس دائما بأنه ضرب من الواقعية الصادمة.

لقد كان ظهور برامج «كاكتوس» على شاشة قناة معارضة سابقا صفقة أولى باع بمقتضاها مناضل ثوري الأصل التجاري الذي يملكه إلى مؤسسة اعتبرت أحد أهم أركان الفساد المؤسسي في عهد بن علي، واليوم بهذه الصفقة الثانية تثبت «كاكتوس» نجاعة أسلوب التوسع باعتماد تقنية الانقسام الخلوي السرطانية لتتوّج نجاحا جماهيريا لم يعد ممكنا لأحد إنكاره وتضاعف مجالات انتشار برامجها وأفكارها الهدّامة.