حادث قطار الدهماني يوليو 2018

حادث قطار الدهماني يوليو 2018

في حادثة خروج قطار الدهماني عن السكة وانقلابه اكتفى الإعلام بطمأنة المتفرجين إلى أن الحادث لم يسفر عن وفيات وأن تحقيقا قد فتح للبحث في ملابساته بعد أن سأل أطباء المستشفى عن عدد الإصابات وكيف تمّت معالجتها، ثم طوي الموضوع وعاد الجميع فرحين مسرورين إلى ما كانوا فيه. وقبل ذلك بأيام، نزل سائق أحد القطارات ليترك مركبته تسير وحيدة بسرعة جنونية وتقطع مسافة طويلة قبل أن يتمّ توقيفها بقطع التيّار الكهربائي، ورغم أنه من السّهل تخيّل حالة الرّعب والهلع التي عاشها الركاب والانتباه إلى توفّر جملة من القرائن قد ترقى بالحادثة إلى ما يشبه العمل الإرهابي المدبّر فإن الجمهور اكتفى بتحويلها إلى مادّة تتندّر بها وسائل الإعلام عبر العالم، فتذكر في طرائف أنبائها بسخرية مريرة أنّ تونس تُطلق أول قطار يسير دون سائق، هذا طبعا بعد الإعلان كالمعتاد أن سلطة الإشراف أذنت بفتح تحقيق لتحميل كلّ طرف مسؤوليته.

العامَ الماضي خرجت عن السّكة في مجاز الباب أربع عربات من القطار المتجه من تونس إلى غار الدماء، والحصيلة خمسة وثلاثون جريحا، واصطدم قطار بجدار محطة بنزرت بسبب عطب فني في المكابح مخلفا إصابات بسيطة لاثني عشر شخصا، أما في سنة 2016 فقد قتل خمسة أشخاص وأصيب أربعة وخمسون في حادث اصطدام قطار قعفور بحافلة ركاب مزدوجة قادمة من نابل في مفترق جبل الجلود. ويبقى العام 2015 الأكثر دموية بعد أن اصطدم قطار الدهماني بشاحنة ثقيلة في مستوى مدينة الفحص من ولاية زغوان وتسبّب في مقتل ثمانية عشر شخصا وإصابة حوالي مائة آخرين وكان قطار الدهماني نفسه قد خرج عن سكته في صائفة 2014 قرب مدينة قعفور متسببا في مقتل ستة ركاب وإصابة ستين آخرين.

هذه بعض «إنجازات» الشركة التونسية للسّكك الحديدية في السّنوات الأخيرة، ولا يكفي المجال لاستعراض الحوادث شبه اليومية التي تصطدم فيها القطارات بالسيارات الخفيفة والدراجات والمترجلين والتي تقدرها إحصاءات الشركة ذاتها بمائة حادث سنويا يقع أغلبها في تقاطع السكك مع الطرقات. ورغم أن قراءة سريعة  وغير متخصصة في هذه الحوادث تكفي لتبيّن أن خط الشمال الغربي أصبح يمثل نقطة سوداء تتطلب تدخلا عاجلا لوضع حد للنزيف الاّ أن سلطة الإشراف لا تحرّك ساكنا ويقتصر دورها على فتح تحقيقات لا تفضي إلى شيء، ويتواصل في هذه الأثناء تردّي الخدمات إلى أدنى المستويات، لا في السكك الحديدية فحسب، بل في قطاع النقل بمختلف فروعه وأصنافه وهو ما يمثل عائقا أمام النهوض الاقتصادي والاستثمار والسياحة ومظهرا من مظاهر تقهقر نوع الحياة في تونس وبلوغها حافة البؤس اليومي الممنهج، تدل على ذلك حادثة الإضراب العشوائي الذي شنه سواق الميترو والحافلات ذات عشية صيفية قائظة ضاربين عرض الحائط بكل الالتزامات النقابية والقيم الإنسانية.

القطار الكهربائي في أثيوبيا

القطار الكهربائي في أثيوبيا

  يحدث هذا في تونس التي يبدو أنها أوقفت كل مظهر من مظاهر التقدم لتكمل على مهل إنجاز «الانتقال الديمقراطي» بينما يتقدّم العالم من حولها بسرعة مذهلة، ففي أكتوبر 2017 انتهت في الجزائر أشغال نفق القنطاس بعين الدفلى أطول نفق للقطارات في إفريقيا في نطاق خطة وطنية لتحديث خطوط السكة الحديدية وتطويرها من 4000 كلم حاليا إلى 12500 كلم بحلول العام 2025 بينما دشنت إثيوبيا وجيبوتي أول خط للسكك الحديدية في أفريقيا يعبر الحدود بين البلدين على مسافة 750 كيلمترا ويعمل بالكهرباء فقط. وتتأهب المغرب لمدّ خط حديدي بين مراكش وأغادير بمسافة نحو 300 كلم في نطاق مشروع لربط شمال المغرب بجنوبه من المتوقع أن يصل في مرحلة متقدمة إلى مدينة العيون في الصحراء الغربية.

هكذا تصنع كل الدول المحيطة بنا مستقبلها بينما نذهب نحن بسرعة جنونية إلى حالة من التخلّف المادي والاقتصادي لم يسبق أبدا أن عشناها، وفي الوقت الذي يتغنّى فيه صناع القرار بأهمية التجربة الديمقراطية التونسية عربيا لا يجد المواطن أي أثر إيجابي للديمقراطية في حياته اليومية، وما يزال الفاعلون السياسيون يصرون على إبقاء الرأي العام في أسر قضايا الهوية والأيديولوجيا بينما تطوّقه من كل جانب قضايا مصيرية مثل الأمن الغذائي والفقر المائي والتضخم المالي واهتراء البنية الأساسية وعجز الميزان التجاري الخ وهي قضايا تنبئ بانهيار وشيك للدولة إذا لم يتمّ التصدي لها بما ينبغي من الجدية. لكن الفتور الذي أضحى يرافق أخبار الحوادث وأحوال الدينار والتداعيات الاجتماعية اليومية للأزمة الاقتصادية لا يمكن أن يكون الا مظهرا من مظاهر الاستسلام للأمر الواقع والتعايش مع البؤس بدل الثورة عليه.